قضايا ثقافية
(1 -2)
بقلم: جان كلود أبريك
ترجمة: محمد بلحسن
راجع ترجمته وقدّم له وعلّق عليه: د. محمد أمحزون
تمهيد:
لقد قطع الغربيون في دراسة ما يسمى بـ «علم النفس الاجتماعي» شوطاً
بعيداً. ويعدّ هذا العلم من المجالات الحيوية - الاستراتيجية التي ينبغي للدعوة
الإسلامية الاهتمام بها فيما يتصل بحقل الوسائل والأدوات.
فهو يُعنى بدراسة الظواهر الفكرية: نظام الإدراكات والتصورات الاجتماعية،
وظواهر التواصل الاجتماعي على مستويات مختلفة من العلاقات المجتمعية،
ودراسة العلاقات بين الأفراد، ودراسة العلاقات بين الأفراد والجماعات:
(مؤسسات، جمعيات، أحزاب، نوادٍ) ، ودراسة الجماعات من حيث تركيبها
ووظائفها، وعلاقات التأثير فيما بينها، وبسط آليات تفجير الطاقات لدى الجماعات
والأفراد، وأساليب العمل بروح الفريق، واتخاذ القرارات داخل الجماعة، وإلقاء
الضوء على الوسائل التي تتبناها النخب في توجيه المجتمع؛ إلى غير ذلك من
المناهج والأدوات والوسائل التي ينبغي للدعاة استيعابها للدخول في معترك مواجهة
النخب العلمانية المفسدة، والتأثير على القطاعات الواسعة من الجماهير.
ولكل ظاهرة من هذه الظواهر يتوفر: «علم النفس الاجتماعي» على نظام
معرفي متطور: نظريات وأبحاث ودراسات واختبارات تؤهله لفهم النشاطات
الذهنية العليا، وبعض الأبعاد النفسية للحياة الاجتماعية للجماعات. ومن أجل
توسيع مجال الرؤيا فإن «علم النفس الاجتماعي» يقوم بدراسة:
1- الأسباب التي تدفع الناس للتماثل (أي التشبّه بغيرهم) أو الخضوع،
وذلك بالبحث عن خصائص الفرد الذي يَمْتَثِل ويخضع، والفرد الآخر الذي يقاوم
التأثيرات الاجتماعية (العادات، التقاليد..) .
2- ما هي خصائص المؤسسات والجماعات التي تحاول أن تنمّط سلوك
الأفراد؟ ما هي منطلقاتها العقائدية الأيديولوجية وآلياتها في التأثير؟ (المؤسسات
التربوية، النوادي، الجمعيات، وسائل الإعلام، الجامعات، المعاهد..) .
3- كيف يفكر الأفراد في واقعهم اليومي؟ كيف يقبلون السلوك المنحرف
على أنه سلوك عادي غير شاذ؟ كيف يفسرون ما يحدث لهم؟ ويشمل ذلك البحث
عن القوانين التي تحكم وتتحكم في التفكير الاجتماعي.
4- البحث عن الخصائص الأساسية التي يجب أن تتوفر في الجماعات التي
تؤيد التغيير، حتى تكسب خاصيات الفاعلية والتأثير؛ كيف تستطيع هذه الجماعات
أن تؤثر على الأغلبية؟ كيف تعمل لتحويل وتصحيح بنيتها التصورية العامة تجاه
القضايا الرئيسة على الرغم من نقص هذه الجماعات العددي، ونوعية مفاهيمها
التي تخالف سلوك الأغلبية، ومع وجود احتمالات التهميش المتوقعة نظرياً تجاه
هذه الجماعات؟ ما هي طبيعة التفاعلات التي يحدثها أفراد الأقلية الفاعلة والعملية
داخل واقع الأغلبية التي تخالفهم في الاعتقاد والرأي والقيم والمقاييس الحياتية؟
كيف تؤطِّر هذه الأقليات (الجماعات) علاقاتها الداخلية من أجل التفعيل المستمر
نحو الإبداع والإنتاج؟ ما هي مستويات اتخاذ القرارات داخلها.
5- إلقاء الضوء على مجمل التأثيرات التي تمارسها وسائل الإعلام على
الفرد من خلال دراسة مختلف المواضيع الإعلامية المساقة للفرد: المقاييس التي
تنتج الخطاب الإعلامي، كيفية تغيير هذا الخطاب ليستطيع أن يصبح قاعدةً سلوكيةً
وفكريةً عامةً ومعتادةً لدى أفراد مجتمع ما [1] .
ومن الموضوعات التي يوليها «علم النفس الاجتماعي» اهتماماً متزايداً،
ويخضعها للبحث والرصد والاختبار الميداني: موضوع التفكير الإبداعي.
على أن هذا التفكير يؤدي عبر مجموعة من الأساليب والأدوات والإجراءات
إلى مساعدة الإمكانات الذهنية على الارتقاء، وتحسين كفاءة الأداء، والقدرة على
حلّ المشكلات، وطرح البدائل واكتشاف الخيارات [2] .
ولما كان الإبداع يعني التأليف بين الأفكار والصور وتركيبها تركيباً فذاً ينتج
عنه الإتيان بقاعدة جديدة، أو اكتشاف لقانون جديد، أو استخراج لشكل غير
مألوف [3] ؛ فإن تنمية هذا النوع من التفكير يستحق اهتماماً خاصاً منّا نحن المسلمين؛
حيث يشتدّ الطلب اليوم على الإنسان الفذ المبدع بشكل دقيق وجيّد لخدمة دينه
وأمته في سبيل الدفع نحو الارتقاء الحضاري.
ولمعرفة المناهج وآليات الرصد والتجارب والحلول المبتكرة التي يستخدمها
«علم النفس الاجتماعي» لتطوير هذا الفنّ وتعميمه في حقول المعرفة وفي
مجالات الحياة المختلفة، فإنّ هذا البحث الذي ترجم من اللغة الفرنسية لأحد أقطاب
علم النفس الاجتماعي الفرنسيين، سيبيّن وسائل التحليل المنهجي للإبداعية،
وكيفية توظيف تقنيات الإبداع لتحفيز الذهن على الابتكار والتجديد، وإجراء
التجارب لتنمية ملكة الإبداع لدى الأفراد، وتقييم إبداعية الجماعات وتنافسها،
والعوامل التي تخضع لها عملية الإبداع ... إلى غير ذلك من العوامل التي يبرز من
خلالها أهمية التفكير الإبداعي في تغيير الواقع وتجديده وإغنائه.
مقدمة المؤلف:
اهتمام علم النفس بالإبداع هو جد حديث؛ فإلى غاية سنة 1950م، كان حجم
عناوين المنشورات في علم النفس المخصّصة للإبداعية بنسبة واحد في الألف.
وإلى غاية هذا التاريخ أيضاً توجه الاهتمام بالخصوص إلى تحليل سيرورة
الإبداعية المعتبرة ظاهرةً قليلة وحاضرة - حصراً - داخل نخبة الباحثين
والمبدعين الكبار، ومنذ هذه الفترة كانت المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع ناتجة
بالأساس عن تحليل تراجم العظماء، أو شهادات تركها بعضهم مثل بوانكاري
poincare، والمتعلقة بمناهج تفكيرهم.
ولم تظهر الإبداعية باعتبارها ضرورة اجتماعية واقتصادية إلا مع نهاية
الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها؛ حيث أصبحت موضوعاً للدراسة. وإزاء
التطور السريع للمجتمعات الصناعية فإن ازدياد المنافسة وسرعة التحولات في
المناهج والتقنيات والأسواق فرض البعد النوعي أساساً للتكيف والنمو الاقتصادي،
وتحوّل الاهتمام أيضاً من المبدعين إلى الأفراد الإبداعيين من دراسة الإبداع إلى
دراسة الإبداعية؛ أو بمعنى آخر: من دراسة خصائص نخبة ضيقة إلى شريحة
أكثر اتساعاً.
وهكذا احتل مفهوم الإبداعية وضعاً مستقلاً بالنسبة للإبداع. ويمكن تسمية
الإبداعية: (التطور التدريجي المتتابع والملكة التي بواسطتها يقوم فرد أو جماعة
تحتل وضعاً معيناً بإعداد نتاج جديد أو أصيل موافق لمتطلبات الظرفية ومقاصدها
أو الحالة الراهنة) . إذن: نعتبر فرداً أو جماعة مبدعة حسب قدراتها لتحريك هذه
العملية.
ويعود الفضل لجيلغورد (1973,1950: Guilgord) من خلال رسالته
المشهورة المقدمة لجمعية علم النفس الأمريكية، والتي صاغ فيها الأفكار الجديدة
الغنية بالنتائج النظرية والتطبيقية المتعلقة بالإبداعية:
* القابلية للإبداعية توجد بمستويات مختلفة ولكن عند جميع الأفراد العاديين [4] .
* السياق الإبداعي يمكن أن ينتج طواعية، ويمكن أيضاً تدريسه وتطويره
لدى عدد كبير من الأفراد.
وبالإضافة إلى هاتين الفكرتين المركزيتين تضاف بعض أعمال أوسبورن
(1963, 1953: Osborn) الفكرة التي تنص على أن وضعية الجماعة تساعد
على الإبداعية [5] .
ولهذا بدأنا نرى في الولايات المتحدة ثم في أوروبا وفرنسا، وخاصةً ابتداءً
من سنة 1960م تطور مجموعة من الأبحاث في علم النفس، مستعملة بالخصوص
المناهج التفاضلية والساعية مثلاً إلى اكتشاف أو إبراز العلاقات بين الإبداعية
والذكاء، وتعريف خصائص «الشخصيات الإبداعية» وتقييمها إلخ.. ويمكن
للقارئ المهتم أن يعود في هذا الصدد إلى مجلة لوبوتي (Leboutet) حول هذه
المسألة 1970م.
آثار الجماعات النوعية:
عوضاً عن الدخول في هذا مقارنة بين تقدير خصائص الجماعات والأفراد،
والتي كشف عنها موسكوفيسي وبيشلي (1972: Paicheler/moscqvici)
على أنها غير ذات جدوى، سنحاول إبراز بعض الأبحاث التجريبية ونتائجها
القادرة على توضيح نوعية وضع الجماعة وبالخصوص فهم: لماذا يمكن للجماعة
أن تشكّل حافزاً للإبداعية؟
أ- الجماعة تفضل التغيير:
في تجربة شهيرة قارن لوين (1965,1947: K. Lauin) الآثار
الخاصة لمحاضرة مقابل نقاش جماعة حول تحوُّل العادات الغذائية المنزلية
الأمريكية تحولاً يتمثل في استهلاك السُلابة [6] عوضاً عن اللحم.
وفي مقام أول استمعت جماعة من النساء إلى محاضرة هامة ألقيت من طرف
مختص يؤكد فيها الامتيازات الغذائية والاقتصادية للسُلابة، عن طريق عرض
وجبات مناسبة ... إلخ.
وفي الحالة الثانية، وبعد عرض تمهيدي وجيز، دفعنا بربات البيوت إلى
مناقشة المشكلة فيما بينهن. وفي كلتا الحالتين دامت التجربة 45 دقيقة. وأُجري
تحقيق في المنزل بعد أسبوع من التجربة أظهر أن 3% فقط من ربات البيوت
اللائي استمعن إلى المحاضرة استعملن السلابة مقابل 32% من اللائي ناقشن هذه
المسألة داخل الجماعة.
على أن جميع التجارب المنجزة من طرف لوين، والتي تستعمل الوسائل
نفسها اتخذت هذه النتيجة، سواء تعلق الأمر باستهلاك الحليب السائل أو الحليب
المسحوق أو إعطاء زيت كبد سمك المورة للطفل. ولو أننا عوضنا العرض
بنصيحة شخصية استغرقت نفس الوقت؛ فإن أثر الجماعة يظل مهيمناً بالنسبة
للتغيير؛ فالوجود داخل الجماعة والتفاعل الاجتماعي والإدراكي يمكن أن يؤدي إلى
انخفاض مقاومة التغيير عند الأفراد، ويساعد على ظهور سلوكيات جديدة يؤطرها
الحس الجماعي [7] .
ب- الجماعة تفضل المخاطرة:
أظهرت مجموعة من الأبحاث، بعد أعمال ولاش وكوجان
(1966: Wallach/Kogan) بأن الجماعة المكونة من أفراد ذوي آراء مختلفة
والمناقشين لحالة معينة يختارون حلولاً أكثر مخاطرة من الأفراد المنسجمين في
الجماعة نفسها. وازدياد المجازفة داخل الجماعة في بعض الحالات يشكل عاملاً
ملائماً للإبداعية؛ فهي تسمح للجماعة باختيار حلول مثمرة على الأقل أو أصيلة؛
لأن فيها مجازفة [8] .
ج- عدم تجانس الجماعة وأثره في الإبداعية:
إن التباين في الجماعة على صعيد المواقف والكفاءات يعد رصيداً جوهرياً؛
لأنه يسمح باحتكاك الآراء المختلفة [9] والاستفادة من كفاءات الآخرين، ويعني
عوامل تشجع الإبداعية. ولكن يمكن أن يكون أيضاً مصدراً للتوقف والصعوبات:
كبح أو إعاقة أمام أفراد جماعة أكثر كفاءة، وتجميد التواصل بسبب صراعات
المواقف ... إلخ. فالاختلاف [10] يشكل مصدراً كامناً للصراعات الاجتماعية
الإدراكية.
وأظهرت أبحاث هال وواتسون (1970: Watson/ Holl) بأن التنافر
داخل الجماعة يساعد على الإبداعية إذا أُخذت هذه الصراعات الاجتماعية -
الإدراكية بعين الاعتبار وضُبطت حالتها. وقد جعل هذان الباحثان جماعة في
وضع لحلّ المشكلة الآتية: أنتم ضمن طاقم من الفلكيين تعرّض لحادثة في القمر،
ويجب عليكم الالتحاق بسفينة فضائية توجد على بعد 300 كيلو متراً على القمر؛
فالسفر طويل وصعب، ويجب عليكم اختيار المواد التي ستحملونها معكم، والتي
سوف تسهل عليكم بلوغ الهدف. وكل فرد رتّب 15 مادة لحملها. وهذا العمل
أُنجز داخل الجماعة، وينبغي أن ينتهي إلى نظام واحد.
ومن ها هنا تم تحديد شرطين تجريبيين: فالتعليمات تدعو الأفراد إلى
توضيح آرائهم المختلفة ومناقشتها، أو عدم تحديد أي شيء؛ وتُظهر النتائج
بوضوح بأن أخذ الجماعة للاختلاف بعين الاعتبار يؤدي من جهة إلى نتائج مرضية
عامة، ومن جهة أخرى يؤدي إلى اكتشاف أفكار جديدة وأصيلة تتعلق باستعمال
المواد [11] .
وهذه النتائج تؤكد النتائج القديمة (لتريانيز) المتعلقة بالإبداعية الثنائية
التكاملية: تباين المواقف والكفاءات لعنصرين في تفاعل لا تساعد على الوصول
إلى نتائج مرضية [12] .
وعلى العكس من ذلك، ففي حالات تجريبية تلقى فيها عناصر ثنائية متكاملة
مسبقاً: «تدريباً للاتصال مع الآخرين» ؛ فالأزواج المتباينين [13] هم الأكثر
إبداعية.
ويمكن القول (عند تريانديز: Triandis) ، إنه حينما يتقلص الضغط
المرتبط بتباين الجماعة - مثلاً - بفضل التعلّم أو الاتصال والاحتكاك؛ فالآثار
الإيجابية لهذا التباين يمكن أن تتطور وتؤدّي إلى إبداعية عالية. وهذا التحليل
يكشف أهمية بعض أنواع الزعامة (Leodership) وضرورتها، أو الحيوية
في الجماعات الإبداعية المركزة على ضبط وتدشين مناخ ترابطي إيجابي.
(وسنعود إلى هذه النقطة) .
وأكمل كولاروس وأندرسون (1969: صلى الله عليه وسلمndernon, Collaros) هذه
النتائج بإظهار أن التباين الحقيقي والتباين الشكلي ليس هما الأساس. وبدراستهما
لجماعات «تحفيز الإبداع» [14] : وضعا ثلاث حالات تجريبية:
- في الأولى يجب على الفرد أن يفكر في أن الأعضاء الثلاثة الآخرين في
الجماعة خبراء في «تحفيز الإبداع» .
- في الثانية: واحد فقط من الأعضاء خبير.
- في الثالثة: لا يوجد أي خبير [15] .
لكن في الحقيقة فإن الجماعة متطابقة في الحالات الثلاث؛ بمعنى أنها مكوّنة
من أفراد سُذَّج بدون تجربة. وحينئذ، فإن تبيان عدم تجانس الجماعة هو الذي تم
التلاعب فيه. على أن إبراز الجماعة بهذا الشكل يؤدي إلى اختلافات جوهرية:
فالجماعات المتجانسة [16] تطوّر إبداعية عالية أكثر من غيرها، وتكوِّن عن نفسها-
من خلال مناخ اجتماعي مؤثر - صورة إيجابية، بينما يؤدي الخوف الوهمي
في الحالات السابقة من حكم واحد أو مجموعة من الخبراء على أفراد الجماعة إلى
تراجع أو كبح في إنتاج الأفكار وخاصة الأفكار الجديدة والأصيلة.
وهذا النوع من الأبحاث يؤكد على أن الصورة التي تكوّنها الجماعة عن نفسها
هي بُعْدٌ رئيسٌ في حركيتها وحيويتها. ولهذا فالأبعاد الرمزية لوضع الجماعة تشكل-
في رأينا - أحد الموضوعات الجديدة والمركزية للأبحاث حول إبداعية الجماعات.
أسلوب الزعامة والإبداعية:
أشرنا في الفقرة السابقة إلى أخذ الصعوبات الاجتماعية الشعورية المرتبطة
بعدم تجانس الجماعة بعين الاعتبار؛ فدور الزعيم يجب أن يكون حاسماً في نشاطها
وإبداعيتها. وفي هذا الصدد خصص لوين ومساعدوه أبحاثاً عديدة لهذا الموضوع
الذي سوف نحاول بطريقة موجزة تلخيصه.
فهؤلاء الباحثون أنجزوا دراستهم خلال الفترة (1939 - 1940م) حول
جماعات من الأطفال الأمريكيين تصل أعمارهم إلى 12 سنة يرتادون نوادي
للترفيه. والملاحظات تعم فترات طويلة (عدداً من الأسابيع) وهدفها دراسة
العلاقات بين أنواع القيادات وظاهرة الجماعة. وتمّ تعريف ثلاثة أنواع من
الزعامات ستناسب تصرفات الشخص المسؤول عن الجماعة:
أ- الزعيم المستبدّ: فالقرارات المتعلقة بالعمل وتنظيم الجماعة تصدر عن
المسؤول وحده، بطريقة موازية لتطور الأنشطة.. والقرارات ليست مسوَّغة، ولا
واضحة بالنسبة للإصلاح. ومعايير تقييم الزعيم ليست معروفة، وأخيراً يبقى
بعيداً عن الاندماج في محيط الجماعة، ولا يتدخل إلا لإصدار الأوامر أو للتنظير
في حالة الصعوبة [17] .
ب- الزعيم الشوري: فالقرارات ناتجة عن المناقشات التي يطرحها الزعيم،
وهي تأخذ بعين الاعتبار رأي الجماعة. كما أنها مترابطة بالنسبة للإصلاح.
وكل مرحلة تُحدَّد بوضوح ودقة، والزعيم يوضح الأحكام الخاصة به ويسوِّغها.
وعندما يطرح مشكلة، يقترح مجموعة من الحلول تختارالجماعة أحدها. ودون
المساهمة الكبيرة في توجيه الأنشطة، فإنه يضطر للاندماج في حياة
الجماعة [18] .
ج- الزعيم الاسمي: بعد تحديد الوسائل والأدوات التي تتوفر عليها
الجماعة؛ فالزعيم يتصرف تصرفاً سلبياً، والجماعة تتمتع بحرية تامة مع العلم
أنها يمكنها اللجوء إلى المسؤول. وهذا الأخير لا يحكم ولا يقيّم؛ فوجوده يعتبر
ودّياً ولا يتدخل إلا بعد الطلب، ويتخذ قليلاً من المبادرات.
وتُظهر النتائج المتوصّل إليها: أن نوع زعيم الجماعة يحدّد مجموع سلوكها
الانفصالي والاجتماعي والإدراكي.
وهكذا ففي الجماعات ذات القيادة السلطوية (المستبدة) يهيمن الخمول أو
العنف؛ فالمناخ الاجتماعي الشعوري هو مناخ سيئ، والالتحام ضعيف بين أفراد
الجماعة، والتوترات الداخلية تساعد على ظهور مجموعات صغرى. وبما أن
العنف لا يمكن أن يوجه ضد المسؤول فيوجّه ضد بعض أعضاء الجماعة أو نحو
الخارج، مع ظهور ضحايا. وفيما يتعلّق بالعمل يلاحظ أنه بوجود الزعيم تكون
نتيجته جيدة، وهي عالية بالمقارنة مع الجماعات الشورية، ولكنها مطبوعة
بالتماثل أو التشابه القوي والاختلافات بين الأفراد جد ضعيفة. ولكن بغياب الزعيم
ينهار الإنتاج، وتتخلى الجماعة عن أي مسؤولية أو مبادرة.
وفي الجماعات ذات القيادة الشورية فالنتيجة مرتفعة ومستقرة، وحتى بعد
مغادرة الزعيم للجماعة. وهذا الوضع يساعد على التعبير عن الاختلافات الفردية.
وهكذا فالمنتوج من نوعية ممتازة، ولكنه أقلّ انتظاماً من الوضعية المستبدة.
ورضا عناصر الجماعة يكون مرتفعاً، والمناخ الاجتماعي - الشعوري إيجابي،
كما أن الالتحام قوي. فهذه الجماعات تستطيع أن تصمد أكثر من غيرها لمحاولات
التقسيم الخارجية، كما أن العنف تجاه المسؤول يمكن التعبير عنه بطريقة مباشرة،
ولا يؤدي إلى توترات داخلية بين أفراد الجماعة، كما هو الحال في المثال السابق.
وفي الجماعات ذات القيادة «ذره يفعل» [19] ، فالنتيجة جدّ سيئة، دون أن
يكون لحضور الزعيم أو غيابه دور خاص [20] ؛ فهذه الجماعات يمكن وصفها بأنها
نشيطة وغير منتجة؛ فالمناخ الاجتماعي الانفعالي للجماعة جدّ سيئ، وكذلك
الالتحام ومستوى الرضا. وكما هو الحال في الجماعات السلطوية يظهر العنف
تجاه الآخرين، وفي اتجاه الخارج، ويوجد ضحايا.
وعرفت أبحاث (لوين: Lewin) وفريقه نجاحاً كبيراً في علم النفس
الاجتماعي، وفي علم النفس الصناعي للأهمية الفعلية للإشكالية المدروسة؛ فلم
توضح بأن نوع كذا من القيادة هو أفضل من نوع كذا، ولكن بيّنت بأن كل نوع من
القيادة ينتج مناخاً اجتماعياً خاصاً ونتيجة معيّنة.
ويظهر بوضوح أنه إذا كان هدف الجماعة هو الإبداعية فالقيادة الشورية هي
الأكثر إنتاجاً وعطاءً؛ فهي بدون عرقلة الإنتاجية تسمح باستعمال وجهات النظر
المختلفة عن طريق التعبير أولاً، ثم اتخاذ خطوة موحدة تفترض مناخاً إيجابياً.
والأشكال الواقعية لهذا النوع من القيادات تمليها ضغوط المحيط الاجتماعي. على
أن تطوير الإبداعية لدى جماعة تفترض على أية حال تعويض مفهوم السلطة
والزعيم بالمنشط والمنظم.
أقلية نشيطة وإبداعية الجماعات:
رأينا بواسطة لوين خاصة: أن الجماعة يمكن أن تكون الركيزة أو المعبر
للتحول، ولكنها أيضاً - كما أظهرتها الأبحاث فيما يتصل بالتأثير الاجتماعي -
وسيلة خطيرة للامتثالية [21] والخضوع وإفقار الأفكار، والحدّ من الإبداعية لصالح
قوانين وسلوكيات غالبة [22] والأفراد غير الممتثلين ليس لهم إلا الاختيار بين
الخضوع أو الخروج عن المألوف [23] .
وبفضل أعمال موسكوفيسي (Moscovici) يتبيّن أن الأقلية لها أهمية
كبيرة؛ وأظهرت الدراسات الحديثة في علم النفس الاجتماعي أن وجود أقلية داخل
جماعة يعتبر عنصراً مساعداً على التجديد والابتكار؛ لأنه يساعد على تجاوز
قوانين الجماعة وعاداته [24] .
وإذا أحدثت الأغلبية تغييراً بتبني وجهة نظرها الخاصة [25] ، فالأقلية بدورها
تطلق سيرورة للتأثير أقل وضوحاً، ولكن تؤدي إلى ظهور أفكار جديدة ومتنوعة
تساعد على الإبداعية.
ويحمل بحث حديث لنميت وواشتلر جواباً لهذه الإشكالة. والفرضية العامة
للكاتبين يمكن صياغتها على النحو الآتي: أفراد جماعة يكونون أكثر إبداعية إذا
كانت فيهم أقلية ذات تكوين قوي ومتماسك.
فديناميكية الأقلية وحركيتها وقوتها تدفع الأفراد إلى التساؤل عن مواقعهم،
وتساعدهم على تناول جوانب أخرى من الواقع، وإيجاد حلول جديدة ومختلفة.
والنتائج المتحصّل عليها بعد الاختيارات تُظهر:
* أن الأفراد يتبعون رأي الأغلبية أكثر من اتباعهم رأي الأقلية [26] .
* أن الأفراد الذين يشكلون أغلبية في مواجهة أقلية يعطون عدداً مرتفعاً من
الأجوبة الجديدة الصحيحة أكثر من الذين هم أقلية في مواجهة أغلبية [27] .
كما أظهرت النتائج أن تأثير الأغلبية وتأثير الأقلية يرتكز على سيرورتين
مختلفتين:
1- أن الأغلبية جدّ فعّالة لجرّ الأفراد نحو الحلول التي تقترحها، بمعنى نحو
امتثالية قارة [28] . وعلى العكس، إذا كانت الأقلية تدفع أقل نحو هذا النوع من
السلوك فإنها تساعد الأفراد على اللامركزية، وعلى تحليل يأخذ بعين الاعتبار
العناصر المقترحة التي تعين على إنتاج حلول جديدة ومبتكرة غالباً ما تكون
صحيحة.
2- أن وجود جماعة ذات أقلية نشيطة وقوية يمكن اعتبارها عاملاً مساعداً
على الإبداعية. وهذه النتيجة تعين على توضيح النتائج المتحصَّل عليها من طرف
(موسكوفيسي، ولاج) التي تبين أن تأثير الأقلية هو جدّ قوي في محيط تكون
قاعدته هو البحث عن الأصالة واكتشاف الجديد.