مجله البيان (صفحة 3645)

قضية للمناقشة

رؤية في مسيرة العمل الإسلامي

خالد أبو الفتوح

abulfutoh@hotmail.com

بعد أكثر من سبعين عاماً من عمر الحركة الإسلامية المعاصرة حققت فيها

الحركة إنجازات وإخفاقات لا يستهان بها.. لا تزال التساؤلات مطروحةً والرؤى

متعددةً حول مسيرة العمل الإسلامي، منها: منهجية التغيير التي ينبغي سلوكها،

ويدخل تحت ذلك: جدلية العلاقة بين القيادة والقاعدة، وإطار العمل الأكثر حيوية

وإفادة، وكذا: دور الفرد العادي والوعي الشامل في هذه المسيرة.

فالناظر في واقع الأمة الإسلامية وكذلك في واقع الصحوة يرى معالم واقعية

تعطي النقاط السابق ذكرها أهميةً متناميةً.

فالمتربصون بالأمة وبالصحوة كثيرون، والصراع بين الأطراف معقد،

والمصالح متشابكة إن لم تكن متعارضة.. كما أن عدم الوعي الذي قد يؤدي إلى

الانحراف بمسار كثير من التوجهات التي قامت عليها الدعوات الإصلاحية ودعا

إليها روادها الأوائل، أو استخدام بعض هذه الحركات من غير وعي منها في

ضرب الدعوة عامة لخدمة أهداف الأعداء في المدى البعيد ثم الانقضاض على هذه

الحركات المستخدَمة بعد ذلك، أو الإصرار على المضي في مسار خاطئ رغم

ظهور خطئه بسبب صعوبة القبول بمظهر المتراجع على القائد أو ضغط الأتباع

للمضي في هذا المسار، أو شيوع السلبية انتظاراً للمنقذ المخلِّص الذي سيقلب

المعادلات الاجتماعية والسياسية، أو سرقة جهود الإسلاميين وقطف غيرهم ثمار

جهودهم ... إلى غير ذلك من مظاهر ملموسة في تاريخ الأمة والصحوة

وواقعهما.. كل ذلك شائع متكرر، ولك أن تنظر في بدايات ومآلات نماذج، كثورة

الجزائر، والمقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني، وكذلك الجهاد الأفغاني،

وتطور الأحداث في الجزائر قبل الانتخابات الشهيرة وبعدها، وحركة التحرير

الفلبينية [1] ... لتتأكد أن القائمة طويلة ومفتوحة لتكرار هذه الحالات

المؤسفة.

فلماذا ينجح الأعداء في تملك زمام المبادرة وتحويل المسار حيث مصالحهم،

بينما يخفق أصحاب التوجه الصحيح في الحفاظ على مكاسبهم والتنبه لانحراف

المسار أو لسرقة الآخرين لجهودهم؟

إذا اعتبرنا النماذج المذكورة سابقاً خلفيةً لهذا التساؤل فإن الإجابة عليه تدعونا

إلى مناقشة شأن مهم في تاريخ الأمة ومسيرة الصحوة، أعني بذلك: جدلية العلاقة

بين القيادة والقاعدة، ومكانة تأثير كل منهما في الآخر، وأهمية ذلك التأثير،

وأيضاً: أهمية تنمية وعي الأمة وتفعيل إرادتها [2] .

جدلية العلاقة بين القيادة والقاعدة:

أما الأمر الأول، وهو: جدلية العلاقة بين القيادة والقاعدة، فكثير من فصائل

الحركة الإسلامية شخّص الأزمة التي تمر بها الأمة على أنها أزمة في القيادة،

سواء في توجهاتها أو في قدراتها أو في شرعيتها، ومن ثم: توجهت جهود

الإصلاح - حسب هذه الفصائل - إلى التأثير في هذه القيادة، سواء في إرشادها،

أو في إنمائها، أو في قلبها واستبدالها، كما توجهت بعض هذه الجهود نحو إيجاد

كيان جماعي بديل يخرج من تحت ظل القادة والمقودين، في الوقت الذي ركزت

أدبيات بعض فصائل الحركة الإسلامية على الدور المحوري لـ (القائد) وضرورة

العمل من خلال إطار تنظيمي عضوي، في مقابل تهميش دور الفرد في التغيير

والإصلاح ... وعليه: فقد قامت تصورات متباينة عن آلية حركة التغيير، ثم

تشتت جهود السعي إلى التغيير مناحيَ شتى حسب تصور كل حركة عن مكمن الداء.

مجال النقاش:

وبدايةً فإن أحداً لا يستطيع إنكار أهمية وجود القيادة والعمل الجماعي، ولكن

ما درجة هذه الأهمية؟ وهل يتوقف العمل المثمر على ذلك العامل؟ وهل مجرد

وجود هذه القيادة الواعية المخلصة والعمل التنظيمي العضوي يذلل الصعاب،

ويحل المشكلات تلقائياً؟ وما القيادة والعمل الجماعي المقصودان؟ وما مدى

الأضرار التي قد تسببها قيادة غير واعية أو غير مخلصة؟ وإذا غابت القيادة

الموجِّهة والإطار الجماعي التنظيمي، أو لم يتفق عليها، ألا من سبيل للتغيير؟

مرة أخرى نحرر محل النقاش، وهو أننا لا نناقش أهمية القيادة والعمل

الجماعي؛ فهذا أمر مفروغ منه، جاء الإسلام بالحث عليه نصّاً وإشارةً، ولكن

الذي نناقشه هو: إذا كان من هذه الإشارات الترغيب في أداء الصلاة جماعةً، فهل

أوقف الإسلام أداءها على هذه الصورة بحيث لو لم تتحقق لسقط العمل بها؟ وهل

ندب إلى الجماعة في أركان الإسلام الأخرى إذا لم تحدث اتفاقاً، أم تركها لتمارس

بوصفها عملاً فردياً؟

نطرح هذه التساؤلات بشكل آخر: هل تعيش مجتمعاتنا أزمة قائد أم

محنة أمة؟

قائد عظيم، ولا إقلاع:

- نجيب على هذا التساؤل: أولاً، بإيراد نماذج لقادة لا يُختلَف على عظمتهم،

ولكن متبوعيهم لم يكونوا على المستوى المطلوب من التجرد والوعي والإرادة،

فلم يستطع هؤلاء القادة الإقلاع بهم نحو الهدف المنشود:

- فموسى - عليه السلام - كان رسولاً نبياً، بل من أولي العزم من الرسل،

وكان كليم الله، وقد شد الله أزره بأخيه هارون - عليه السلام واستطاعا بتوفيق الله

أن يواجها الطاغية فرعون وينقذا بني إسرائيل من القهر والذل الذي كانوا يعيشونه،

ولكن الخروج بهم من مصر لم يتبعه خروج إلى حمل الرسالة المنوطة بهم من

تقديس الله - عز وجل - وبسط سلطانه في الأرض المباركة [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى

بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ] (إبراهيم: 5) ،

فلننظر إلى مواقفهم بعد خروجهم من مصر ومعاينتهم للآيات البينات:

-[وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا

تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا] (البقرة: 61) .. ارتباط

بالأرض والشهوات.

-[وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً] (البقرة: 55)

.. تطاول وجرأة على الله ورسله، واشتغال بما لم يكلفوا به.

-[وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداًّ لَّهُ خُوَارٌ]

(الأعراف: 148) .. انبهار بالمظاهر، وعبادة غير الله.

-[فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا

لَهُمْ آلِهَةٌ] (الأعراف: 138) .. دونية وتبعية نفسية للآخرين، واستهانة بأقدس

مقوماتهم وهو توحيد الله عز وجل.

- وعندما أمروا بالتحرك للتمكين لهذا الدين، وقال لهم موسى - عليه

السلام-: [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى

أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] (المائدة: 21) ، كان رد فعلهم أن: [قَالُوا يَا

مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]

(المائدة: 24) .. جبن، وسوء خلق مع الله ورسله.

ولكن بني إسرائيل دخلوا الأرض المقدسة بعد نحو أربعين عاماً تحت قيادة

نبي آخر هو يوشع بن نون، فما الذي تغير؟ لم تكن القيادة الجديدة أفضل من

موسى وهارون - عليهما السلام - ولكن الذي تغير هو خروج جيل جديد أثناء

سنوات التيه (أربعين سنةً في دروب الصحراء) في بيئة مختلفة عن بيئة القهر

والذل والارتباط بالدنيا وعبادة الأوثان التي عايشتها الأجيال الأولى تحت سلطان

فرعون [3] ؛ فالذين خرجوا من مصر كانوا في الحقيقة أمةً معوِّقةً وحملاً مثقلاً لقائد

عظيم، بينما انطلق من أرض التيه فئة متيقنة بلقاء الله تعرف سنن الله في تدافع

الناس، وتطلب منه وحده الصبر والثبات والنصر.. انتصرت هذه الفئة رغم قلتها

ومع قائد على درجة أقل من سابقه.

أي: كانت المعوقات التي في بني إسرائيل أكبر أثراً في التغيير من عظم

إمكانات قيادة موسى وهارون - عليهما السلام - بينما نهض وعي الفئة الجديدة،

وإخلاصها لله، وإرادتها الجازمة، بإمكانات يوشع بن نون الأقل في العظمة مقارنةً

بموسى وهارون - عليهما السلام -.

- ومن ذلك: حالة النجاشي بعد إسلامه؛ فقد كان محققاً لما يطمح إليه كثير

من فصائل الحركة الإسلامية المعاصرة، كان ملكاً يسيِّر دولةً وفي يده مقاليد الحكم،

ولكنه لم يستطع القيام بدور يتناسب مع حجم سلطاته؛ وذلك لأن قومه لم يكونوا

مؤهلين لقبول هذا التغيير.. وقد يقول قائل: إن قومه كانوا نصارى لا يؤمنون

بهذا الدين، ولكن هذا ليس محل تأثير في موضوعنا؛ فقوانين النهوض، والإرادة

في حمل رسالة، والدفع بالسنن التي يتم بها التغيير.. لا تتبدل بمجرد تغير دين

الأفراد، ونحن نبحث في العامل المؤثر في التغيير من خلال جدلية العلاقة بين

القائد والأمة، ولكي يتضح هذا العامل أكثر نذكر نموذجاً لا يتطرق إليه احتمال هذا

الاعتراض المذكور.

- هذا النموذج هو ما سجله التاريخ الإسلامي في الفتنة التي وقعت بين

المسلمين بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وأعني بذلك:

المواجهة التي حصلت بين أهل العراق بقيادة علي بن أبي طالب - رضي الله

عنه - وأهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - فعلي لم يكن

أقل إخلاصاً ولا كفاءةً ولا شجاعةً من معاوية، بل كان أفضل منه وأسبق،

ولكن الفارق كان في الأتباع؛ فقد شاع في غالب معسكر علي - رضي الله عنه -

روح التفتيت والخروج من الصف والتطاول وعدم الطاعة، فكانت حياته معهم

محنةً شاقةً رغم ظهور رغبتهم في الاستقامة وطلبهم للإصلاح بدعوى الحرص على

الدين، ولكن ذلك شكَّل صورةً ونموذجاً للوعي الزائف، بينما امتاز معسكر

معاوية بالانتظام والسمع والطاعة، فصبت روافد جهودهم في نهر واحد جرى في

نهاية الأمر لصالحهم، وهذا ما أشار إليه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

بقوله مخاطباً أتباعه: «وإني والله لأحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم،

وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وخيانتكم وأمانتهم،

وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم ... » [4] ، وهكذا لم يغن القائد العظيم عن

أتباعه غير المؤهلين شيئاً في إحداث التغيير والتمكين [5] .

قيادة، ومثالب:

ونجيب على التساؤل: ثانياً، بإيراد بعض نتائج غياب الوعي في الأمة،

وتعلق آمال التغيير على مجرد وجود قائد مخلص فذ، ثم الالتفاف حوله وانتظار

توجيهاته، فمن هذه النتائج:

- سلبية الأفراد ووقوفهم حائرين مكتوفي الأيدي نتيجة استصغارهم لدورهم

والإمكانات التي في طاقتهم؛ وذلك لأنهم ينتظرون توجيهات القائد المنتظر، بينما

لا يعملون حتى على الارتقاء بأنفسهم ليكونوا مؤهلين للقيام مع هذا القائد بالدور

المطلوب منهم في التغيير.

- وجود أرضية خصبة للمتاجرة بالشعارات التي تحلم (الجماهير) بتحقيقها،

ثم إفراغ هذه الشعارات من مضمونها بعد إجهاض الدعوات الأصيلة التي ترفع

الشعارات نفسها، وبعدها يمكن السيطرة على الجماهير غير الواعية وتحويلها نحو

المضامين المنحرفة المستهدفة.

- تهيئة نفوس الأفراد لقبول قيادة أي فرد يحمل تطلعات الوصول والزعامة

ويستطيع ملء الفراغ الموجود، بإشباع تعطش الأفراد للانقياد، وذلك يتحقق بقفز

أفراد يملكون موهبة التصدر والظهور وارتداء ثوب الزعامة مع عدم تحقق مقوماتها

فيهم، وأحياناً مع عدم إخلاصهم، فيسهل قياد هؤلاء القادة وتوجيههم - وخلفهم

أتباعهم غير الواعين - إلى الوجهة التي يريدها الخصوم، أما في حالة كون الأتباع

على ما هو مطلوب من وعي وإرادة فإنهم يكشفون مبكراً زيف هذه القيادات

ويرفضونها ويضعونها في حجمها الحقيقي.

- إيجاد المناخ الملائم للاستبداد والانفراد بالرأي والتوجيه والقرار، والعمل

على مصادرة الآراء الأخرى، وتحجيم أي كفاءات غير إمَّعيَّة تبرز في الساحة، أو

قمعها بدعوى المحافظة على وحدة الصف، ومن ثَمَّ: يفقد الجميع إمكانات هذه

الكفاءات بدل استيعابها، وذلك فضلاً عن إهمال تكوين صفوف من الكوادر القيادية

المؤهلة والبديلة التي تستطيع شغل الفراغ بشكل صحيح عند غياب الصفوف

الأولى لأي ظرف من الظروف.

تكوين الأمة وانحراف مسارها:

ونجيب على هذا التساؤل: ثالثاً، بمدارسة التكوين الطبيعي للأمة صاحبة

الرسالة، وعلاقة القائد بذلك التكوين، وذلك من خلال النظر في نشأة الأمة

الإسلامية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم: نستطيع رصد

الانحراف الطارئ حالياً على هذا التكوين وهذه العلاقة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد صدعه بالحق في مشركي مكة التف حوله

المؤمنون به، فأخذ يحوطهم برعايته وتربيته حتى كونوا نواةً صلبةً (فئةً مؤمنةً)

لأمة واعية متماسكة، ولما كان المجتمع المكي حينها مستعصياً على التغيير المنشود

اتجهت الأنظار إلى يثرب، حيث استطاع رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

مصعب بن عمير - رضي الله عنه - العمل على تكوين قاعدة قوية تصلح لانطلاق

مجتمع (الأمة/ الدولة) من أرضها، وحينها هاجر المسلمون ومعهم الرسول صلى

الله عليه وسلم إلى هناك، فكانت (الأمة/ الدولة) الناشئة بقيادة الرسول صلى الله

عليه وسلم في الوطن الجديد (المدينة) .

وفي ذلك نلاحظ:

- أن قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته في مكة لم تكن من منطلق

الزعامة السياسية والحق القانوني، بل كانت بتأثير (القرآن) ، عن طريق الدعوة

والتربية؛ فعلى الرغم من وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم المطلقة، وعلى

الرغم من توجيهه صلى الله عليه وسلم لصحابته بما يدفع بالدعوة والمؤمنين بها في

المسار الصحيح، إلا أننا نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضع نفسه في

موقع صاحب السلطات في هذه المرحلة، فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه

أمر العبيد المسلمين بالتمرد على أسيادهم المشركين أو اغتيالهم، وإنما كان يأمرهم

بالصبر، ويعمل على رفع البلاء عنهم بالوسائل المتاحة والمتعارف عليها في

المجتمع المكي، كما لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الأزواج المسلمين

بالانفصال عن أقرانهم ... ، وكان الخط العام في هذه المرحلة أقرب إلى عدم

السعي للانفصال العضوي عن المجتمع، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخدم

نفوذه في تطبيق نظم تتسم بصفة السلطة على المؤمنين به حينها، فلم ينقل عنه

صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتزامات مالية تؤدى في هذه المرحلة، كما لم ينقل

عنه صلى الله عليه وسلم أنه سعى في رد عبيد الله بن جحش أو معاقبته عندما ارتد

إلى النصرانية أثناء هجرة المسلمين إلى الحبشة، وكذا: لم ينقل عنه معاقبة من

ارتد بعد الإسراء والمعراج [6] ، فلحكمةٍ ما اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم

على التوجيه من خلال تأثير الإيمان والتربية (القرآن) ولم يستخدم (سلطات)

القائد في هذه المرحلة.

كما أن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم توضح أنه خاطب الأفراد عندما

كان فرداً، وخاطب الطوائف والجماعات عندما كان فئةً، وخاطب الدول والملوك

عندما كان للمسلمين دولة، فلم نجد له صلى الله عليه وسلم خطاباً إلى ملك من

الملوك في المرحلة المكية، رغم أنه بُعث للعالمين بالنص القرآني المكي [تَبَارَكَ

الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] (الفرقان: 1) [7] ، وفي ذلك

إشارة إلى أهمية عدم القفز على المراحل وتخطيها قبل نضوجها.

- كما يلاحظ أن انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة

لإقامة مجتمع (الأمة / الدولة) الإسلامية لم يكن خارقاً لسنن التغيير، بل جاء

بشكل طبيعي وفق سنة من سنن الله الكونية في التحول من مرحلة وسيطة إلى

أخرى، هي سنة البرزخية؛ حيث توجد بين المرحلة المنتقل منها والمرحلة المنتقل

إليها مرحلة وسيطة لا تنتمي إلى هذه ولا إلى تلك، وفي الوقت نفسه: تحمل

بعض ملامح المرحلة السابقة وبعض ملامح المرحلة التالية، والبرزخية (الزمانية

أو المكانية أو الفيزيائية.. أو الاجتماعية) سنة كونية سارية في شتى نواحي الحياة

التي تتعلق بالانتقال، فالوقت بين طلوع الفجر وشروق الشمس برزخ بين الليل

والنهار، والوقت بين المغرب والعشاء برزخ بين النهار والليل، والربيع برزخ

بين الشتاء والصيف، والخريف برزخ بين الصيف والشتاء، ووادي محسر برزخ

بين منى ومزدلفة، وعرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، والنعاس برزخ

بين اليقظة والمنام، وسكرات الموت برزخ بين الحياة والموت، والقبر برزخ بين

الدنيا والآخرة، والشبهات برزخ بين الحلال والحرام، والتمييز برزخ بين الطفولة

والبلوغ، وغليان السوائل برزخ بين الحالة السائلة والحالة الغازية.. ويطول الأمر

إذا أردنا رصد حالات البرزخية باعتبارها سنةً من سنن الله الكونية في التغيير،

ولكن الذي يهمنا هنا أن تحول المجتمعات من حال إلى حال يخضع أيضاً لبرزخية

اجتماعية، وهذا ما نراه في تكوين المجتمع الإسلامي في المدينة، فقد تمثلت هذه

المرحلة البرزخية في الفترة الممتدة من بيعة العقبة الثانية وحتى الهجرة النبوية

المشرفة؛ حيث أثمرت جهود الرواد الأوائل من المسلمين بالمدينة - رضي الله

عنهم - في تغلغل الإيمان والتربية الصحيحة في هذا الوطن الجديد للمسلمين، حتى

إنه لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، أي: أصبح في

المدينة مجتمع يحمل رسالةً في الحياة، يتطلع إلى قائده الطبيعي للانطلاق به نحو

تطبيق هدف هذه الرسالة، وهنا انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرون

إلى المدينة لتأسيس المجتمع الجديد على الأسس الجديدة بعد التهيؤ لهذه المرحلة.

- الملحوظة الثالثة نستخلصها من الملحوظتين السابقتين: وهي عن رصد

آلية تكوين الفئة [8] ثم تحولها إلى مجتمع أمة / دولة، وعلاقة ذلك التكوين والتحول

بموقع القائد من القاعدة.

فالأمر يبدأ بدعوة داعية - أو دعاة - إلى مبدأ يؤمن به ويضحي من أجله،

ويكون في هذا الداعية من مؤهلات التأثير ومقوماته ما يمكنه من جذب بعض

الأفراد للإيمان بما يدعو إليه، وهنا تبدأ مرحلة تكوين الفئة، حيث يربي صاحب

الدعوة المؤمنين بها تربيةً مكثفةً، وغالباً ما يكون هؤلاء المؤمنون على درجة

عالية من الإخلاص والإرادة، وهذا ما مكنهم من الإيمان بشيء جديد غريب يخالف

المألوف ومواجهة الملأ أصحاب المصلحة في استمرار هذا المألوف القديم، ويكون

موقع القائد (الداعية) في هذه المرحلة هو موقع القطب صاحب التأثير والجاذبية،

فتنجذب حوله عناصر القاعدة (الفئة) وتتلقى منه راغبةً مختارةًَ؛ فالقيادة هنا قيادة

طبيعية غير مفتعلة، والسلطان الذي تحمله هو سلطان الإيمان وأثر التربية.

في حالة نجاح الدعوة وانتشارها فإن المؤمنين بها يتطلعون إلى تجسيد ما

يؤمنون به والانطلاق بالرسالة التي يحملونها، وهنا يبحثون عن فئة أخرى

تنصرهم وتؤازرهم، أو عن وطن يستوعب تحولهم الكامل من فئة أخرى إلى أمة،

إن لم ينصرهم مجتمعهم ولم يستوعبهم وطنهم الأصلي، كما أنهم يعملون على إقامة

نظمهم ومؤسساتهم التي يطبقون عن طريقها المبادئ التي آمنوا بها، فيقيمون في

مجتمعهم الجديد دولتهم المأمولة، وعند ذاك تظهر حاجتهم إلى قائد بصلاحيات

جديدة (صلاحيات الدولة) يحمل سلطاناً إضافيّاً هو سلطان السلطات [9] ، فيذعنون

لأقدر من يمثل مبادئهم وينطلق بالرسالة التي يؤمنون بها (الذي كان في صدر

التاريخ الإسلامي: رسول الله صلى الله عليه وسلم [10] ، والخلفاء الراشدون الأربعة) .

عندها تتحد الدعوة بالدولة (القرآن بالسلطان) ويكون معيار النجاح هو قدر

المزج المنضبط بينهما للمحافظة على استمرار المجتمع ك (أمة / دولة) صاحبة

رسالة، حيث لن تحمل الأجيال اللاحقة الزخم نفسه من الإيمان والتربية التي تربى

عليها الجيل الأول من المؤمنين، كما أن الانتشار السريع والواسع سيضخم كتلة

الأمة بإضافة عناصر كثيرة لم تتح لها فرصة التربية الكافية، وربما لم تنهل من

الإيمان الصافي بالقدر الكافي، وهذا ما حدث في الفتوحات السريعة الواسعة في

العصور الإسلامية الأولى.

وفي هذا السياق نستطيع فهم القول المنسوب إلى عثمان بن عفان - رضي

الله عنه - «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» ، فلقد قالها - إن كان قالها!

في وقت هو قائد أمة / دولة، وليس في مرحلة تكوين فئة / أمة، فكان لا بد

أن يحافظ على هذا التوازن ليسير المجتمع المسيرة الصحيحة.

وهنا نفهم أيضاً لماذا لم يستخدم - رضي الله عنه - سلطات السلطان في فتنة

مقتله ومنع الصحابة الذين حوله من التصدي بالقتال لمن يحاصرونه؛ فليس ذلك

لمجرد حقن دماء المسلمين فقط؛ فهو أول من يعلم - رضي الله عنه - أن قتال

الفئة الباغية من الدين، ولكن هذا المنع - في نظري - لأن ذلك التقاتل كان

سيؤدي إلى سقوط من تبقى من صفوف القيادات المستقبلية للمسلمين، وهو أمر

سيقضي على الدولة (السلطان) ، وهذا واضح من إصراره الشديد - رضي الله

عنه - على خروج كبار الصحابة من داره وطلبه عدم اشتباكهم مع المتمردين،

ومن قوله لمندوب المتمردين: «أمَّا خلعي، فلا أترك أمة محمد بعضها على

بعض» [11] ، كما أن آفة جماهير المتمردين عليه كانت نقص أثر (القرآن) وعياً

وتربيةً فيهم، وهذا واضح في سيرتهم، وهو ما مكن اليهودي ابن سبأ من

استغفالهم وقيادهم، فآثر عثمان - رضي الله عنه - أن يضحي بنفسه على أن

يضحي بالأمة والدولة.

مسيرة الانحراف:

ولنرصد الآن الانحراف الذي طرأ على هذا التكوين وهذه العلاقة:

- أثقلت الأمة بتضخم كتلتها البشرية فجأةً، ولم تسعفها الإمكانات ولا الوقت

لتربية المسلمين الجدد التربية الإيمانية المطلوبة.

- نشأ عن ذلك تضاؤل نسبة الوعي بالرسالة وأهدافها وسنن التغيير

والإصلاح، كما قلَّت نسبة المتحمسين أصحاب الإرادات والهمة العالية.. (تضاؤل

أثر القرآن) .

- تعويضاً لأثر ذلك التضاؤل: ارتفعت نسبة السيطرة والتوجيه عن طريق

سلطات الدولة وأجهزتها.. (تعاظم شأن السلطان) .

- بدأ ظهور ضمور وعي الأمة عند نقض عروة الحكم، وسوف يكتمل

بنقض عروة الصلاة (لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة،

تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن الحكم، وآخرهن الصلاة) [12] ، لأن الوعي

ينحسر من الدائرة الأشمل إلى الدوائر الفردية الأضيق، بعكس نشأته وتكوينه.

- نتيجة تضاؤل الوعي (كمّاً وكيفاً) في الأمة: شاع فيها على نطاق واسع

القابلية للاستغفال والاختراق والجمود.

- وحسب قاعدة (كما تكونوا كذلك يؤمر عليكم) [13] والنبوءة الصادقة

(خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..) [14] كان يتولى القيادة أمراء

فيهم من نسبة التمثل بـ (القرآن/ السلطان) بقدر ما في الأتباع من نسبة الإذعان

لـ (القرآن/ السلطان) ، وكان هذا الخط يسير باتجاه الخلافة الراشدة، فالملك

العاضّ، فالملك الجبري [15] .

- كان يسير ملتحماً مع هذا الخط خط آخر باتجاه افتراق القرآن عن السلطان،

إلى أن تم الاستغفال شبه التام، فحدث الافتراق شبه الكامل بين القرآن والسلطان

على يد الدعاة على أبواب جهنم، في الوقت الذي انحدر فيه وعي الأمة وإرادتها

نحو المرحلة الغثائية.

صور من مسيرة العمل الإسلامي:

وبعد أن ظهرت الصحوة، وبدأت الرغبة في الخروج من هذه المرحلة

الغثائية ظهر السؤال: كيف السبيل لإصلاح الخلل الذي حدث في هذا التكوين وهذه

العلاقة؟

على أرض الواقع رأينا سبلاً عدةً، ولكن الذي يعنينا هنا هو محاولة التغيير

عن طريق التأثير في مركز القيادة الحالية؛ بناءً على تصور مؤداه أن انحرافها هو

الأكبر أثراً في الانحراف بالأمة، ومن ثَمَّ: فإن التأثير في هذه القيادة - بإرشادها،

أو قلبها واستبدالها - سيكون نقطة التحول إلى التغيير الأفضل - حسب هذا

التصور -، وترتب على ذلك: أن بعض الفصائل ركزت عملها في التغيير على

أحد سبيلين: الأول: محاولة الوصول بالطرق السلمية و (المشروعة قانوناً) أو

بالمنازلة السياسية إلى موقع يمكّنهم من التأثير على مركز القيادة الحالية أو

المشاركة في السلطات المؤثرة، والآخر: محاولة إزاحة أشخاص القيادات الفعلية

أو الأنظمة بأساليب العنف والمنازلة العسكرية (الجهاد المسلح) .

وإذا تجاوزنا البحث في مدى واقعية هذين السبيلين وسجل التجارب غير

الناجحة فيهما فإننا لا نستطيع تجاوز الاعتبارات الآتية:

أولاً: أن البحث في سبل التغيير لا يقتصر على مجرد البحث في حِلِّ عمل

معين أو حرمته (كالمشاركة في حكومات علمانية أو دخول برلمانات أو القيام

باغتيالات أو الاستيلاء على أموال..) فهو يشمل مع ذلك البحث: موازنة

المصالح والمفاسد، واستقراء السنن الربانية في التغيير، واستجلاء المنهج النبوي

في إقامة المجتمع المسلم، إضافةً إلى دراسة خصوصية الواقع المعاصر دراسةً

موضوعيةً.

ثانياً: أن المسلم يتعبد لله - عز وجل - باتباع منهج نبيه صلى الله عليه

وسلم في التغيير، وكما أنه يعمل على عودة الخلافة على منهاج النبوة في تطبيق

القيم والأحكام؛ فإنه ينبغي عليه أن يحرص على أن تكون عودة هذه الخلافة من

خلال منهاج النبوة في النشأة والتكوين والتغيير أيضاً [16] ، كما أن المسلم مطالب

عندما ينفصل القرآن عن السلطان بأن يقترن بالقرآن (.. ألا إن الكتاب والسلطان

سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب ... ) [17] .

ثالثاً: أن الاستمرار في هذه المحاولات للقفز إلى السلطة مع عدم التقدير

الصحيح لإمكانات أطراف الصراع ومواقعها يستهلك جهود العاملين في الحقل

الإسلامي مع استمرار قناعتهم بأنهم يبذلون تضحيات وجهوداً مشكورةً في سبيل هذا

الدين، بينما الحقيقة أنهم كمن يجري على سير جهاز للتخسيس، يحرق سعراته

الحرارية ولا يغادر مكانه، وقد يغذي الأعداء هذه المحاولات بتخطيط ومكر بهدف

إلجاء الحركة الإسلامية إلى الدخول في نفق (الإجهاد المفضي إلى الإجهاض) ،

وقد يحرصون على جر الدعاة وأتباعهم إلى محاور جانبيه وإثارة قضايا جزئية،

تكون بمثابة الراية الحمراء التي يستثير بها مصارع الثيران الثور المتصارع معه؛

ليستهلك بها جهده ويوجهه الوجهة التي تمكنه من طعنه والقضاء عليه بعد هذه

الاستثارة وهذا التوجيه.

رابعاً: أن في هذا المسعى محاولةً لخرق سنن الله - تعالى - في التحول،

وتجاوز لسنة (البرزخية الاجتماعية) كما أوضحنا سابقاً، وهذا غير مستطاع ولا

ينبغي أن يطمح إليه ويعمل له؛ لعدم إمكانه وعدم واقعيته، فالواقع يشهد أن

المجتمع الإسلامي في تحوله إلى حالته الراهنة مرّ بمرحلة برزخية اجتماعية طويلة،

ولن يعود إلا من خلال برزخية اجتماعية معاكسة (قد تقصر وقد تطول) ، هي

التي نعيشها الآن، والتي قد تسمى عند بعض الكتاب (مخاضاً) وآخرون يطلقون

عليها (إرهاصات) وغيرهم يسميها (يقظةً) أو (صحوةً) ...

خامساً: أننا لو افترضنا جدلاً نجاح فصيل أو آخر في القفز إلى الحكم رأساً

وتملك قيادة شعب ما، فإنه سيكون قائداً غريباً غير طبيعي، كما أنه لو أقام دولةً

فهناك شك كبير أن يحِّول هذا الشعب إلى (أمة / دولة) لها رسالة تحملها وتضحي

من أجلها؛ لأنه (أي: الشعب) سيعتبر أن هذه الرسالة تملى عليه، ومن ثَمَّ:

سيسهل على المغرضين والمنافقين تضليل الجماهير واستعمالهم ضد هذه القيادة

المفروضة عليهم؛ مستغلين أن هذه الجماهير لن تحمل الانتماء إلى قيادة لم تخرج

منها، كما أن وعي هذا الشعب لن يكون في مستوى كشف الأساليب الملتوية

للمنافقين.

ومن يقول: إن قيادة هذه الجماهير سهل لأنهم أتباع كل ناعق ينسى أنه قد

يأتي من هو أكثر نعقاً منه فيسقطه وتتبعه الجماهير أيضاً.

بين النشوء الطبيعي والمصطنع:

وهذه النقطة تعود بنا إلى السؤال المحوري في هذا المقال: هل نعيش أزمة

قيادة أم محنة أمة؟ وأيهما ينصلح أولاً: الأمة أم القيادة؟ وكيف يكون اتجاه التغيير:

من أعلى إلى أسفل أم العكس؟

نبلور التطور الطبيعي لتكوين الأمة / الدولة في الآتي:

داعية ينشر دعوةً تفرز طليعةً (فئةً) تكوِّن أمةً تحمل رسالةً وتقيم دولةً

تختار قائداً.

ونبلور تصور الشكل الآخر المخالف للتطور الطبيعي - والذي رأيناه في

واقع تطلعات بعض الفصائل الإسلامية - في الآتي:

قائد يؤثِّر في نخبة تتحول إلى تنظيم يتميز عن الجماهير ويقفز على دولة

تتبنى دعوةً تملى على أمة.

- في الحالة الأولى: تظل جسور التواصل ممتدةً بين الطليعة (الفئة)

والجماهير، حيث تحرص هذه الطليعة على عدم التميز بغير ما تحمله من مبادئ

وقيم [18] ، لذا: فمجال الحركة أكثر انفتاحاً أمامها، كما أن أساليبها أكثر تنوعاً،

وذلك رغم وضع العراقيل والعوائق أمامها، أما في الحالة الأخرى: فإن تميز

التنظيم العضوي عن الجماهير - الذي يغذيه غالباً التعالي المصاحب للنفسية

النخبوية - ينحرف بهذا التنظيم نحو الانفصال عن الجماهير، إما بانحراف مسار

حركة هذا التنظيم، وإما بكيد الأعداء وتدبيرهم ومكرهم [19] ، ومن ثَمَّ: تسهل -

بعد التميز والانفصال - المحاصرة ثم الاستئصال، من غير أن تحس الجماهير

بفقدان شيء منها، سواء أكان هذا الشيء هو عناصر النخبة والتنظيم أو المبادئ

والقيم.

- في الحالة الأولى: تظل الطليعة متماسكةً حتى وإن تعددت الرؤى داخلها؛

لأن روح التحزب والتشيع يصعب سريانها فيها، ولأن أكبر ما يهمها هو نشر

الدعوة بين الناس لتعبيدهم لرب العالمين، أما في الحالة الأخرى: فلأن التنظيم

عضوي قائم على الضم والطرد حسب معيار (الالتزام الحزبي) فإن الفرصة مهيأة

لبروز تنظيمات أخرى تختلف مع بعضها نتيجة اختلاف الرؤى أو وجود الأهواء،

ومن ثم: تكون الفرصة مهيأةً أيضاً لانشغال هذه التنظيمات ببعضها، أو على الأقل:

عرقلة عمل كل واحد منها لعمل الآخر من غير قصد، بل قد يستعمل الأعداء

بعضها ضد بعضها الآخر.

ونود التنبيه هنا إلى أن مجرد وجود روح الحزبية المقيتة تؤدي إلى هذه

النتائج السلبية نفسها، حتى مع عدم وجود هيكل تنظيم عضوي، ولكن الفرصة في

ظل التنظيم العضوي تكون مهيئةً أكثر لبروز هذه الروح.

علينا التذكر: أن من عوامل سقوط الأندلس: كثرة الإمارات والدويلات

والتناحر بينها، وذلك ما أدى إلى ضعفهم جميعاً واستغلال الأعداء لذلك، فكان

سهلاً استئصالهم دويلةً إثر أخرى.

- قد يظهر أن الهدف (نشر الدعوة وتعبيد الناس لله سبحانه) بعيد

والطريق طويل في الحالة الأولى، وهذا صحيح لأول وهلة، ولكن عند التأمل فيه

نجد أنه طريق مستقيم، لذا: فهو أقصر طريق بين الهدف ونقطة الانطلاق، أما في

الحالة الأخرى: فقد يبدو - بهذا الأسلوب - أن الهدف قريب والطريق قصير؛

وهذا صحيح أيضاً للوهلة الأولى، ولكن الحقيقة أن الهدف يخالطه السراب،

والطريق إليه متعرج تكثر به المنعطفات والانتكاسات، لذا: فهو طريق أطول من

الأول، كما أن نتيجته (القفز إلى السلطة) ليست هي المستهدفة في المقام

الأول.

في الحالة الأولى: يكون القائد إفرازاً طبيعياً ملائماً لأمة واعية متيقظة

أثمرت فيها جهود الدعوة، فكان هذا القائد خارجاً من أسفل إلى أعلى، ومن ثَمَّ:

تلتف الأمة حول اختيارها رغم الصعاب لتنطلق وتحقق الرسالة التي تحملها،

ويصعب استغفالها أو سرقة خيارها أو التلاعب على مطالبها، بينما في الحالة

الأخرى: يكون القائد مصطنعاً مفروضاً من القمة على القاعدة، ولذا: فهو يبسط

سلطانه من خلال سلطاته فقط، ومهما كان هذا القائد فذّاً فإنه لن يستطيع الانطلاق

بأمة غير واعية أو ليس لها همة لتحقيق أهداف سامية، كما أن هذه الأمة يسهل

استغفالها وسرقة خيارها؛ لأن فيها القابلية للاستغفال نتيجة اضمحلال الوعي.

لتوضيح ذلك نضرب مثالاً متخيلاً: فلو توهمنا أن (الحزب الشيوعي

البريطاني!) استطاع أن يتسلل إلى الحكم بطريقة أو بأخرى، وأزاح الأسرة

البريطانية المالكة ووضع الحكومة المنتخبة في السجون، ثم فرض تصوراته

الماركسية وقمع الحريات في المجتمع البريطاني القائم على تقديس الحرية وشيوع

روح الإيجابية والفاعلية المؤثرة والمشاركة في الحياة العامة ... ، كم من الأيام -

بل من الساعات - نتصور أن يبقى في الحكم؟ ولماذا؟ ..

بعد التفكير في النتيجة والسبب قارن ذلك بما يحدث في بلدان أخرى من العالم!

فإذا كان الأمر كذلك فما هو البديل - أو الرديف - لأخطاء الواقع الحركي

الذي نعيشه؟

دور لكل مسلم:

وهذا ينقلنا إلى الشق الآخر من الموضوع، وهو الحديث عن أهمية تنمية

وعي الأمة وتفعيل إرادتها، فيمكن القول: إنه ينبغي ترسيخ مفهوم أن عمل أفراد

الأمة المؤثر في التغيير غير مشروط بانتظار قائد أو الانضواء في إطار عمل

تنظيمي عضوي، وذلك يتم إذا أمكن الارتقاء بوعي المسلم إلى المستوى الطبيعي

المفترض، وهو أن للمسلم رسالةً في الحياة تجاه نفسه وأسرته والآخرين لا يمكنه

التخلي عنها، وأن له شخصياً دوراً - كبر أم صغر - في حركة التاريخ البشري،

وأن حمل هذه الرسالة والقيام بهذا الدور ليس نافلةً يمكنه التخلي عنها، بل هما من

صميم الأمانة المكلف بها بصفته مسلماً؛ فالمسلم - بخلاف النصراني أو البوذي

... مثلاً - لا يصح له لكي يستقيم على الجادة أن يكتفي بالاعتكاف أو الانزواء في

معبد ويترك الحياة تسير كما يريدها شياطين الإنس والجن، كما لا ينبغي له حتى

الاكتفاء بـ (التبشير) بالإسلام كعقيدة على مستوى الأشخاص من غير أن يكون

لهذه العقيدة أثر في الواقع المعاش؛ لأنه في الحقيقة مأمور باتباع الدين كله، وفي

الوقت نفسه: لأن هذا الدين يشمل الحياة كلها، كما أن عليه العمل على إظهار هذا

الدين على الدين كله، وهذا لا يتأتى إلا بالحرص على التأثير في مجرى الأحداث.

وهذا ما رأيناه يحدث في سيرة الصحابة والصالحين جميعهم، ولكننا ننتقي

بعض الأمثلة الواقعية التي تدلل على ما نحن بصدده، وهو العمل على رفعة هذا

الدين والتغيير من أجله بما تسنح به الفرص وبالإمكانات المتاحة؛ لتصب في اتجاه

رفعة هذا الدين حتى ولو غابت القيادة، فمن هذه الأمثلة:

ما قام به أبو بصير - رضي الله عنه - عندما انفلت من مكة إلى المدينة

فأرسلت قريش في إثره رجلين لرده من رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب بنود

اتفاق صلح الحديبية، وهذا ما تم بالفعل، ولكن أبا بصير لم يستسلم ويستكن، بل

تحايل - رغم صعوبة موقفه - واستولى على سلاح أحد الرجلين، ثم ضربه به

بينما فر الآخر، وجاء أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:

«يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم» ،

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه، مسعر حرب لو كان له أحد!»

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف (ساحل) البحر،

فكوّن مركزاً لإيواء وتجميع المستضعفين الهاربين من مكة من غير إحراج سياسي

لدولة المسلمين في المدينة، ثم أخذ هذا التجمع الصغير يكبر ويغير على قوافل

قريش التجارية، إلى أن أرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

تناشده الله والرحم ضم هذا التجمع إليه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم،

فقدموا عليه في المدينة [20] .

فأبو بصير - رضي الله عنه - ما استكان ولا رضي بواقعه، ولا استقل

إمكاناته، ولا انتظر انضمامه الفعلي إلى جماعة المسلمين، ولكنه تحرك - وحده -

بفاعلية وإرادة نحو هدفه.

- المثال الثاني وقع بعد إعلان سقوط إعلان الخلافة العثمانية على يد

أتاتورك وزمرته من أعضاء حزب الاتحاد والترقي؛ حيث اندلعت في تركيا

احتجاجات واسعة واجهتها الحكومة الجديدة بالقمع والتنكيل، ثم منعت تدريس الدين

في المدارس، فحث الشيخ سليمان حلمي طوناخان الناس على مخاطبة الحكومة

باستعدادهم لتحمل تكاليف تدريس الدين لأبنائهم، ولكن الحكومة رفضت وهددت

وتوعدت، فانزوى المدرسون عن ذلك مقتنعين أن تعليم الدين غير ممكن في ذلك

الوقت وأنهم ليس عليهم حرج في الاعتذار عن ذلك، إلا الشيخ سليمان الذي

استعظم المسؤولية أمام الله - عز وجل - فكان يبحث عن أحد يعلمه فلا يجد لخوف

الناس من الحكومة، فبدأ بتعليم ابنتيه في البيت على أن تقوما بتعليم زوجيهما

وأولادهما، ثم استحدث دفع أجر لطلبته نظير تعليمهم، وكان يرعى تلامذته بنفسه

حتى إنه كان يذهب بالمريض منهم إلى الطبيب، مما جعله يعيش على الكفاف،

ولكي يخفي طلبته عن عيون الرقابة الأتاتوركية عمد دائماً إلى تبديل أماكن تدريسهم،

فكان يدرسهم يوماً في غرفة مؤذن المسجد، وآخر في بيت أحد أتباعه، وثالثاً في

قبو مبنى، أو يستأجر مزرعةً ويخبئ طلابه فيها في زي العمال، يزرعون

الأرض صباحاً ويدرسون الدين مساءً، أو يذهب بهم إلى قمة جبل، ورغم انكشاف

أمره وتعرضه للاعتقال والتعذيب والملاحقة إلا أنه واصل مهمته التي انتدب نفسه

لها بإصرار وإرادة وتضحية مستحضراً أن: «ليس التعب يضنينا، ولا الإزعاج

يثنينا، سنسارع إلى نداء التعلم والتعليم والخدمة حتى وإن أدى بنا إلى

الموت» [21] .

- المثال الأخير في هذا الصدد مثال لحالة معاصرة عايشتها، وهي دليل على

أن أي شخص - مهما تضاءلت إمكاناته وقدراته ومهما كان موقعه - يستطيع أن

يساهم بعملٍ ما لنصرة هذا الدين وأهله؛ فقد ذكر لي أحد الأصدقاء (من غير ذوي

الوجاهة عند الناس) أنه وزوجته يحرصان على عدم شراء ملابس مصنوعة في

بلاد الكفر، وقد يطوفان هما وأولادهما على محلات عديدة ولا يشترون شيئاً رغم

توفر المطلوب من هذه البلاد بأسعار مناسبة وجودة لا بأس بها، وذلك حتى لا

يدعما بمالهما القليل أعداء المسلمين.

قد يكون أثر تصرف هذين الزوجين غير ملموس، وقد يشق عليهما الالتزام

بذلك.. ولكنهما في النهاية فعلا ما يمليه عليهما ولاؤهما للمسلمين، وقاما بما في

إمكانهما.. وقد يكون هذا هو الدور المطلوب من مثلهما.

فهذه النماذج - وغيرها كثير - توضح أن الشعور التلقائي بعد الإيمان بهذا

الدين هو العمل على نصرته وظهوره، وأن الفرد - مهما كان علمه وقدره

وموقعه - يملك من الإمكانات والطاقات ما يمكنه من لعب دور في حركة التاريخ،

ولكن المهم هنا هو الكشف عن تلك الطاقات والإمكانات - من نفسه أو من

الآخرين - وتجليتها وتفعيلها.

صحيح أن الإطار التنظيمي أو الجماعي أقدر على الاستفادة من هذه القدرات

وتوجيهها في مصب واحد لخدمة هدف محدد، ولكن الإلحاح في التعويل على هذا

الإطار يحمل أكثر من مخاطرة، منها - إضافةً إلى ما ذكر سابقاً - محدودية القدرة

على استيعاب جميع الأفراد، ومنها: الاقتصار على أفق القائمين عليه وتصوراتهم

وأهدافهم، ومنها: الجمود عن العمل والحركة إذا فُقِدَ هذا الإطار أو شُلَّ أو عُطِّل.

فإذا كان الأمر كذلك فكيف تتحول رغبة الأفراد في النصرة إلى عمل مؤثر

في حركة الأحداث تتجمع مفرداته لتصب في النهاية في الاتجاه الصحيح من دون

انتظار لدور (الآخرين) أياً كانوا: قائداً أو تنظيماً أو جماعةً أو أغلبيةً أو دولةً؟

في اعتقادي أن ذلك يتم من خلال عاملين:

الأول: استيعاب فهم سنن التغيير في الأنفس والمجتمعات، ونشرها في الأمة

ولو في صورة أولية غير معقدة.

الثاني: توفر الإرادة الجازمة والتصميم التام على العمل لهذا الدين من أي

موقع وبأي إمكانات، واستحضار ذلك في مواقف المسلم الحياتية مما ينشط فاعليته.

فهذان العاملان يكوِّنان سياجاً يحمي الأمة - من خلال أفرادها الواعين - من

الوقوع في السلبية أو في الإيجابية العكسية، وبذلك تستطيع أن توظف طاقاتها

للعمل على بصيرة خلف قائدها إن وجد، بحيث لا تكون عبئاً عليه، وفي الوقت

نفسه: تمارس الرقابة بوعي صحيح على هذا القائد حتى لا ينحرف عن المسار

المستهدف، كما تمارس الشهادة على الأمم الأخرى بأدائها الأمانة المنوطة بها، أما

إذا لم يوجد هذا القائد الذي يستحق أن تجتمع عليه الأمة فإنها لا تقف مكتوفة الأيدي

في انتظاره، بل يعمل كل فرد من موقعه بدافع ذاتي يغذه للتقدم إلى الأمام في

طريق الخير والإصلاح.

أخيراً: فإن نجاحنا في الإقلاع بالأمة مرهون بمدى أدائنا للبلاغ المبين، أي

: البلاغ الواضح الناصع، القوي الواسع الانتشار، وذلك أداءً لأمانة الدعوة، كما

أنه مرهون أيضاً بمدى قدرتنا على تفجير الشارع الإسلامي بالوعي بالإسلام على

الحقيقة وبالواقع دون تزييف، مع شحذ إرادته ودفعه نحو تفعيل دور أفراده في

الاتجاه الإيجابي الصحيح..

كل ذلك مرتبط بأن يكون التيار فوق التنظيم، ليحل التواكب محل التشرذم

والتنسيق محل الفوضى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015