وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
هجرة المسلمين واستقرارهم في البلاد الغربية حقيقة واقعة منذ سنين طويلة،
إلا أنها ازدادت زيادةً مطردةً في العقد الأخير خاصة، وإن كان لهذه الهجرة ما
يسوِّغها شرعاً عند بعض الناس، إلا أن الغالبية من هؤلاء المهاجرين لم يستوطنوا
في بلاد الغرب لحجج شرعية، وإنما لأهواء وظروف شخصية واجتماعية.
ودراسة الأحوال الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية لهؤلاء المهاجرين
ينبغي أن تكون من أولى أولويات عمل المراكز الإسلامية في بلاد الغرب، لتكون
هذه الدراسات - بإذن الله - الأساس الذي تنطلق منه البرامج الدعوية والتربوية.
ولعل من أبرز الظواهر الاجتماعية السائدة في كثير من أبناء الجالية
الإسلامية ضعف التميُّز الإسلامي أو انعدامه فكراً وسلوكاً؛ فأثر البيئة الغربية
يظهر بجلاء عليهم، وخاصةً الأجيال الجديدة التي وُلدت ونشأت وتعلمت في الوسط
الغربي. وهذه الظاهرة نتيجة حتمية لا تحتاج إلى استقصاء، أو بحث وإثبات [1] .
ولكن الأمر الذي يستحق التأمل والنظر هو حال الإسلاميين خصوصاً؛ فكثير منهم
لم يَسْلم من أثر البيئة السلبي، ولعلِّي أكتفي هنا بمثل واحد، وهو ضعف التمسك
بكثير من الأحكام الشرعية، والتفريط بأحكام الهدي الإسلامي الظاهر، وخاصة في
شؤون المرأة. ولست أعني هنا الإشارة إلى الخلاف المشهور بين الفقهاء في كون
الوجه والكفين عورة أو ليسا بعورة، بل الأمر أبعد غوراً من هذا؛ حيث أصبح
الحجاب عند بعضهم - مع الأسف الشديد - معنى لا حقيقة وراءه؛ فهو لون من
ألوان التجديد والتمدن، ولم يبق منه إلا منديل رقيق يغطي بعض شعر الرأس، مع
لبس البنطال الضيق، والظهور بألوان الزينة والعطور. أما قضايا الاختلاط
ومصافحة الأجانب، بل والمشاركة الرياضية، فحدث عنها ولا حرج.
وإن تحدث في ذلك متحدث اتُّهم سريعاً بالتنطع والتكلف والتشديد، ورُمي
بالجهل بالواقع الغربي والظروف الاجتماعية التي يعيشها الناس، وأنه ينظر إلى
أمريكا وأوروبا بمنظار الأعرابي الساذَِج الذي لا يعقل ولا يبصر..! ! وقد
سمعت أحد المفكرين المستنيرين يهزُّ يديه أمام جمع من الإسلاميين، ويأمرهم
بالرقي الفكري والتجاوب الفاعل مع المعطيات الحضارية المعاصرة، ويحذرهم من
الجمود والوقوع في رواسب التخلف والظلامية.. قال كل ذلك لمَّا سمع أحدهم يتلو
حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أصافح النساء» [2] !
والعجيب أنك تجد من بعض المنتسبين إلى الفتوى من المفكرين والدعاة من
يسوّغ هذا التمييع ببعض الأدلة المتكلَّفة. وأذكر أن أحد الأشياخ المحاضرين في
أحد المؤتمرات الإسلامية في أمريكا بدأ محاضرته بهجوم صارخ على إدارة
المؤتمر التي فصلت الرجال عن النساء، وينعي هذا التخلف الفكري والعقلية
البدائية التي لا زالت تسيطر علينا حتى ونحن في أمريكا (! !) ، وفي نهاية
المحاضرة قام مدير المؤتمر معلقاً، وكنا نظنه سوف يدافع عن موقفه، وإذا به
يعترف بالخطأ ويعتذر للإخوة والأخوات، ويذكر أن سبب الفصل سبب فني وليس
سبباً فكرياً، ووعد بإصلاح الوضع في اليوم التالي، ثم وفَّى بما وعد..! !
إن اندماج المسلمين في البيئة الغربية أدى إلى ذوبان مذهل في الشخصية
الإسلامية، وميوعة شديدة في تلقي الأحكام الشرعية، وميل ظاهر إلى البحث عن
الرخص بدون فقه ولا بصيرة، ويصدق في وصف كثير منهم قول الله - تعالى -:
[وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ] (الحج: 11) . والطريف في الأمر أن
المسلمين حديثاً من الغربيين الأصليين ربما يكون بعضهم أكثر جرأةً وصدقاً في
الالتزام بالأحكام الشرعية والاعتزاز بها وعدم التحرج من إظهارها أمام الملأ..!
وأذكر أنني زرت في الولايات المتحدة الأمريكية منطقةً تنتشر فيها طائفة من
طوائف النصارى البروتستانت تسمى بـ (الآمش) يرون أن من أسباب البلاء
الذي تعيشه الإنسانية تلك الحضارة المادية التي سيطرت على الإنسان الغربي،
وجرته إلى مستنقع الرذيلة والانحطاط، ولهذا انعزلوا عن المجتمع وتركوا كل
ألوان الحضارة، وامتنعوا عن استخدام كافة المخترعات التقنية الحديثة، وأسسوا
مجتمعهم الخاص بهم بما في ذلك مدارسهم التي ترعاها الكنيسة، وراحوا يشتغلون
بالزراعة وتربية المواشي بوسائلهم البدائية المتاحة وامتنعوا عن شرب الخمور
والزنا..! والعجيب أن نساءهم لا زلن يلبسن اللباس الطويل الساتر، ويضعن
منديلاً على الرأس، ولا يختلطن بالرجال، وعلى الرغم من ازدراء بعض إخوانهم
الأمريكان لهم إلا أنهم فخورون بمبادئهم، ومعتزون بمسلكهم..! !
ولست ها هنا في صدد تحليل ظاهرة (الآمش) هذه، ولكنني أشير هنا إلى
أن هؤلاء القوم على الرغم من أنهم رأوا أن بلادهم وصلت إلى قمة التقدم المادي
المعاصر إلا أنهم انعزلوا عنهم، وراحوا يمارسون معتقداتهم الفكرية والسلوكية بكل
اعتزاز. أفلا نقوى - نحن المسلمين الذين نعتقد يقيناً بحمد الله تعالى أننا نملك
الدين الحق - أن نعتز بديننا، ونتمسك بشرائعنا، ونعض عليها بالنواجذ، ونشمخ
برؤوسنا أَنَفَةً وافتخاراً بعقيدتنا وآدابنا السامية..؟ !
إن التكليف بالأحكام الشرعية باب من أبواب الابتلاء الذي يمتحن فيه دين
الإنسان، قال الله - تعالى -: [الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً] (الملك: 2) . وهذا الدين جدّ ليس بالهزل، وإن من أسوأ ما نجنيه على
أنفسنا أن نتخذ شرائع الإسلام ألعوبةً نلهو بها، ونأخذ منها بمقتضى أهوائنا، أو أن
نجعل الواقع الفكري أو الاجتماعي المنحرف يضغط علينا، ويملي علينا ما
يشاء، وها هي ذي دلالات القرآن العظيم واضحة بيِّنة لا تردد فيها ولا خفاء،
قال الله - تعالى -: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب: 36) . والهزيمة في الهدي الظاهر آية
عظيمة على الهزيمة القلبية؛ ولهذا شدّد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من
ذلك، وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» [3] .