مجله البيان (صفحة 3626)

الورقة الأخيرة

الحرية والعبودية

د. عثمان علي حسن

الحرية غاية يسعى إليها كل إنسان ويتمناها كل متمنٍّ، وليسوا كلهم ينالها

ويحققها، إلا من أدرك معناها وعرف سبيلها وطلبها من مظانها، ولا حرية حقيقية

للإنسان إلا إذا ملك أمر نفسه، وسيطر عليها وعلى مطالبها، وسعى في تغذيتها بما

تحتاجه ويصلحها، ولا يكون ذلك إلا في التذلل والتعبد لله تعالى خالق الإنسان

وفطرته؛ فمن أراد الحرية الصادقة التي لا يشوبها خداع، ولا يحجبها غش فعليه

بالدخول في العبودية لله؛ فمن دخلها وترقى في درجاتها نال من الحرية بقدر ما

حقق من العبودية.

فالله تعالى يريد لعباده أن يكونوا أحراراً حقيقة، ولهذا أمرهم بعبادته التي

خلقهم لأجلها، وشرع لهم من صنوف العبادات ما يساعدهم على الوصول إلى هذه

الغاية المطلوبة، والأمنية المرجوة؛ ولنضرب لذلك أمثلة:

ففي الصلاة التي هي عمود الإسلام وركنه الركين يتحرر المؤمن من سلطان

النوم فيصبح هو الذي يتحكم فيه لا العكس، مع أن النوم حاجة فطرية لا يصمد

إنسان أمام هجومه وإلحاحه إلا لوقت معلوم، لكن المؤمن المقيم للصلاة والمحافظ

عليها ينفلت من نومه وينخلع من فراشه وراحته مستجيباً لنداء ربه، فيؤدي ما

أوجبه الله عليه من الفريضة في رغبة ومحبة وانشراح صدر وطيب نفس، بل لا

راحة له في غيرها، ولا قرار له في سواها، كما جاء عن الصادق المصدوق

صلى الله عليه وسلم: «أرحنا بها يا بلال» [1] ، وقوله: «وجعلت قرة عيني

في الصلاة» [2] .

وفي الزكاة يتحرر المؤمن من رق المال، الدرهم والدينار ونحوهما؛ فهو

يقتطع من ماله وكسب يده جزءاً معلوماً يصل به المحرومين وأصحاب الحاجات،

طيبة بذلك نفسه، وطالباً تطهير ماله وصونه عن الآفات، وساعياً لتنميته وزيادته

بالبركة، وبانفتاح أبواب من الرزق لم يكن يحتسبها، وفي الحديث: «ما نقص

مال عبد من صدقة» [3] . وفي الحديث الآخر: «تعس عبد الدينار، تعس عبد

الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شِيك فلا

انتقش» [4] .

وفي الصيام يتحرر المؤمن من قيود الطعام والشراب وشهوة الجماع مع أنها

حاجات فطرية ليس في وسعه أن يستغني عنها مختاراً، فضلاً عن كونها أشياء

مباحة وطيبة ونافعة، لكن المؤمن يترك ذلك كله من بزوغ الفجر إلى مغيب الشمس

طيلة شهر بأكمله طاعة لله تعالى وإيماناً به واحتساباً للأجر والمثوبة. وفي هذا

تربية عظيمة، ودربة رائعة، وذريعة لطيفة لترك الحرام الخبيث الضار من

الأطعمة والأشربة والشهوات، وهي التقوى التي شرع الصيام وغيره من العبادات

لتحقيقها: [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 183) ، وفي الحديث: «من لم يدع قول

الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [5] . فالصوم عن

المحرمات والخبائث والمفاسد أوْلى من الصوم عن المباحات والطيبات والمنافع،

وهكذا يتحرر المؤمن من وطأة العادات الضارة.

وفي الحج يتحرر الإنسان من رق العادة؛ حيث يترك ما اعتاده من أساليب

في الحياة من طعام وشراب ولباس ونوم، وأعمال وأشغال، وبقاء لدى الأهل

والأولاد والأصدقاء ونحوهم من زملاء العمل أو الدراسة وغير ذلك مما يشق عادة

تغييره أو مفارقته إلا بنوع كلفة، لكنه في الحج يترك ذلك كله طاعة لله، فيخرج

الناس تاركين دورهم وما اعتادوه، إلى بيت الله الحرام، راجلين وعلى كل ضامر

يأتين من كل فج عميق، ولهذا سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الحج جهاداً، لكن

لا قتال فيه.

ثم تأتي أعظم عبادة وأسماها ألا وهي الجهاد في سبيل الله بالنفس؛ فالنفس

أغلى ما يملك الإنسان؛ فهو يحرص عليها كل الحرص، ويجتهد في صونها عن

الآفات والتلف، لكن المؤمن يعتبر تقديمها في سبيل الله ذوداً عن حياض الإيمان

والأوطان إحياءاً لها، وتخليداً لذكراها، ورفعة لدرجتها [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا

فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] (آل عمران: 169) .

وفي نوافل هذه العبادات مجال للاستزادة والترقي في مدارج الحرية ومقاماتها،

حتى يصل إلى ذروتها ويعتلي سنامها، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي:

«ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي

يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،

ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» [6] .

وهكذا سائر العبادات في الإسلام تدرب المؤمن على التحرر الحقيقي، وتسعى

به لنيل الحرية الصادقة، فلا أحد يتحكم في حركته ومسار حياته إلا إيمانه بربه

وخالقه، لا سلطان نوم، ولا سلطان طعام وشراب، ولا سلطان شهوة ومال، ولا

سلطان عادة؛ فهو عبد لله وكفى، وسيِّد متصرف في احتياجاته كلها [ضَرَبَ اللَّهُ

مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ

أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 29) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015