وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
قبل عشرين عاماً تقريباً وقف ياسر عرفات خطيباً محمرَّ الوجه، منتفخ
الأوداج، يستصرخ بأعلى صوته، ويستنجد بالعرب لإنقاذ فلسطين، وينعى
الخيانة العظمى للرئيس المصري أنور السادات في (كامب ديفيد) ، ويعجب أشد
العجب من جرأته في الاستهانة بالشعوب، وكيف أنه وضع يده بأيدي المجرمين
الذين عاثوا في الأرض فساداً، وتلوثوا بدماء الأبرياء!
وما هي إلا سنوات قلائل حتى تمخضت تلك الانتفاخة البطولية! عن الحقيقة
الكامنة وراء تلك الشعارات الزائفة؛ فها هو ذا الرئيس الفذُّ يدخل إلى منتجعات
كامب ديفيد فاتحاً، ويقف جنباً إلى جنب مع أسياد اليهود، ضارباً بقدمه تاريخاً
حافلاً لهذه الأمة من الصراع والعداء مع بني صهيون، وناسفاً ثوابت الأمة
ومقدساتها، وملقياً وراء ظهره ما تشبثت به الأمة من الحق والعدل، بل وساخراً
بعقول الناس الذين صفقوا في يوم من الأيام لشعاراته الوطنية، وتصريحاته
الثورية..!
إنَّ المرء حينما يتجرد من وازع الخوف من الله تعالى، والالتجاء إليه،
والاعتماد عليه، ويمتلئ قلبه تعظيماً لأعداء الله تعالى وثقة بهم تراه يتخبط في
دياجير الهوى، ومستنقعات الخيانة، ويعمى أو يتعامى عن إدراك الوقائع والأحداث،
وينظر إليها بعين الذليل الحقير الذي لا يملك صرفاً ولا عدلاً.
إن ثمة حقيقة ناصعة الوضوح؛ وهي أن القدس ليست ملكاً لمنظمة من
المنظمات، بل ولا لشعب من الشعوب، حتى يحق لهم أن يساوموا أو يفاوضوا
عليها؛ بل هي للمسلمين جميعاً من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، منذ أن
تعطرت أرضها الطيبة بمسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وروَّاها الصحابة
رضي الله عنهم بدمائهم الطاهرة فاتحين. لا يحق لكائن من كان أن يضع هذه
الأرض المباركة أداة لكسب سياسي مزعوم، أو ورقة دعائية يقف بها تحت
الأضواء، وأمام عدسات الإعلاميين..! !
إنَّ غدر اليهود وتلاعبهم في الاتفاقات المختلفة حقيقة حدثنا عنها التاريخ
الماضي، وها نحن نشهد في تاريخنا المعاصر طرفاً من ألاعيبهم الباردة،
وخياناتهم الجلية الواضحة حتى مع من حالفوهم ووضعوا أيديهم معهم، وقد دلنا
على ذلك كتاب ربنا في قوله تعالى: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] (البقرة: 100) .
والصراع مع اليهود عقيدة قائمة مهما وُقِّع من عهود ومواثيق، ولن ينتهي
هذا الصراع إلا حينما: «يقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا
يهودي خلفي، فتعال فاقتله» [1] ، وما هذا الارتماء المهين على أعتاب اليهود إلا
علامة من علامات الخزي والخذلان، وها هو ذا طريق النصر واضح بيِّن في
كتاب الله تعالى لا يغفل عنه إلا من أعمى الله بصيرته، وطمس على قلبه: [أَمَّنْ
هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ
هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِي مُكِباًّ عَلَى
وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياًّ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (الملك: 20-22) .
وما ضاعت القدس إلا حينما ضيعنا الدين، وهجرنا القرآن العظيم، وسقطنا
في مستنقعات الفساد، وقد حدّثني أحد أشياخنا الفضلاء عن القدس حديثاً تهتز له
النفس ألماً، ويتفطر له القلب أسىً؛ فقد ذهب في صيف عام (1381هـ) لصلاة
الجمعة في المسجد الأقصى، فلما دخل ساحة المسجد وجدها مليئة بالأعشاب الجافة
والنباتات الصحراوية مما يدل على غاية الهجر والإهمال، وقد خطَّ فيها الناس جادة
ضيقة يسيرون فيها للوصول إلى مكان الصلاة؛ فبينما هو كذلك؛ إذا به يرى في
ساحة المسجد فتاتين عربيتين متبرجتين تبرجاً مخجلاً، وتسيران في هذه الجادَّة
بتمايل وتكسُّر، فقابلهما شيخ كبير السن، فأشارتا إليه باستهزاء وسخرية، وراحت
إحداهما تشير إلى لحيته بتقذر، والأخرى تكاد تسقط من الضحك به والعبث بلحيته،
فما كان من الشيخ المغلوب على أمره إلا أن طأطأ رأسه، ولم يقوَ على ردهما،
وترك لهما الجادة.
قال صاحبي: فلمَّا دخلت المسجد إذا بي أرى ذلك الشيخ يعتلي المنبر لخطبة
الجمعة! وما كنت أظن أن ذلك الشيخ هو الإمام، فأصابني ضيق شديد؛ فهل هذا
هو قَدْر أهل العلم؟ ! وهل تصل مهانتهم إلى هذا الحد؟ ! وكنت أظن أن إمامنا
سيتحدث عن حال تلك الفتاتين، أو عن واقع الأمة المتردي، وعزوف الناس عن
الصلاة وطاعة الله تعالى، ولكنه تحدث عن أمر آخر بعيد عن ذلك كله. فخرجت
من المسجد وأنا أحوقل وأسترجع وأسأل الله تعالى اللطف بحالنا..! !
فإذا كنا قد ضيعنا القدس بهجرنا لكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم،
فلن نستردها إلا إذا عدنا إلى مصادر العزة والتمكين؛ فنحن قوم أعزنا الله بالقرآن،
ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.