في إشراقة آية
د. عبد الكريم بكار
طالما وقفت خاشعاً في محراب هذه الآية وطالما غمرني ضياؤها بأشعته
الهادية حيث أودع الرحمن عز وجل في كلمات قليلة من المعاني الكريمة الفياضة ما
يمدنا بالمفاهيم النيرة كلما اتسعت مساحات الوعي لدينا وكلما تعاظم رصيدنا من
التجارب.
وسأقف مع القارئ الكريم وقفات عدة في إشراقة هذه الآية نغرف من معينها
النمير.
الوقفة الأولى:
تمثل هذه الآية مظهراً من مظاهر رحمة الله تعالى حين رضي منهم أن
يطيعوه على قدر طوقهم وقدرتهم؛ وهذا الأمر أحد أهم الأسس التي يرتكز عليها
التشريع الإسلامي، وهو في الوقت ذاته أحد دعائم خلود الشريعة الغراء إذ أن
تصرف الأيام والليالي يأتي بما لا يحصى من الظروف والأحوال، وحينئذ فإن
قدرات الناس على القيام بأمر الله تتفاوت تفاوتاً كبيراً، خاصة لا يجد المفتي لها
حكماً تفصيلياً يغطيها، وتأتي هذه الآية لتمثل المنطلق الرحب والناموس الأعلى
الذي يحكم فقه الضرورات، وفقه ارتكاب أخف الضررين ودفع شر الشرين،
وتشعر هذه الآية الكريمة المسلم الذي وقع في ظروف حرجة ضاغطة بالطمأنينة
بالسلامة من الإثم ما دام اتقى الله ما استطاع، كما أنها تستنهضه لمقاومة الظرف
الطارئ وبذل الوسع في الاقتراب من المركز أكثر فأكثر، وهتو إذ يفعل كل ذلك
يشعر برقيب ذاتي منبعه خشية الله سبحانه وتعالى.
الوقفة الثانية:
إن دوائر الاستطاعة تتسع على صعيدي القيام والعمل كلما استطاعت الأمة أن
ترقى صعداً في سلم الحضارة. أما على صعيد القيم فإن التقدم المادي والتقني يهيئ
الظروف المناسبة لنشر القيم وحملها، وإذا أخذنا قيمة (الحرية) باعتبارها واحدة من
أخطر القيم المتفق عليها بشكل عام لوجدنا أن هذه القيمة ليست حالة يتصف بها
الفرد أو دعوى يطلقها، وإنما هي عملية مواكبة للإمكانات التي يحصل عليها؛ فإذا
ما امتلك الواحد منا ثروة كبيرة من المفردات اللغوية وجد نفسه حراً في اختيار
الألفاظ والأساليب المتعددة التي تمكنه من نقل المعلومة التي يريد إيصالها لمخاطبيه
مهما تفاوتت مستوياتهم الثقافية. ومن توفرت في بلاده فرص كبير للعمل بشروط
ميسرة وجد نفسه قادراً على رفض ما يمكن أن يتعرض له من ظلم أو حيف من
أرباب العمل وعلى رفض ما يعده مهنة شاقة أو غير مناسبة، وهو بذلك يجد أمامه
مجالات واسعة للحركة وقدراً أكبر من الخيارات المريحة، وقد عبر العرب قديماً
عن هذه الحالة بمثل شائع حين قالوا: (من أخفض تخيّر) .
وفي المقابل فكيف يمكن لمن بحث عن فرصة للعمل سنوات عدة حتى عثر
عليها أن يتصرف كما تصرف الأول، وأن يشعر بأنه قادر على أن يكون حراً يأبى
الظلم ويعيش بعيداً عن القسر والقهر؟ ! !
وأما على الصعيد العملي فإن أكثر المخترعات أعطت جوارح الإنسان نوعاً
من الامتداد في سلطانها وقدراتها؛ فالآلة مدت في سلطان اليد والطائرة في سلطان
الرجل والهاتف في سلطان السمع و (الرائي) في سلطان العين وهكذا..
ويترتب على اتساع دوائر الاستطاعة تعاظم المسئولية ووجود إمكانات جديدة
للمزيد من التقوى وبهذا الاعتبار فإن العمل لتحسين المناخ العام الذي يعيش فيه
المسلم عبادة لله تعالى تهيئ الناس لمزيد من الطاعات والعبادات، وإذا ما حدث
خلل في الارتباط بين الاستطاعة والتقوى فإن ذلك يعني نوعاً من البغي الممقوت
الذي يخل بالتوازنات العميقة بالفرد كما يستنزل المحن والعقوبات له.
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عقوبة شيء من ذلك الخلل حين
ذكر الملك الكذاب في جملة من لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولا ينظر
إليهم إذ أن السلطان ذو قدرات كبيرة فإذا لم يواكبها الصدق أحدث من الضرر ما لا
تنفع معه رقابة الرقباء! ولذلك استحق العقوبة التي تتناسب مع فعله.
الوقفة الثالثة:
لكل منا طاقات محدودة، ولكل منا طموحاته وأهدافه التي يرمي إلى تحقيقها
في هذه الحياة قبل أن يرحل وتنهي الإمكانات والطموحات؛ ومهما كانت قدرات
الإنسان كبيرة فهي محدودة، ونشاهد في كثير من الأحيان أن طموحاتنا أكبر من
طاقاتنا، وكثير منا يصاب حينذاك بالعجز والإحباط ويؤدي بنا هذا إلى البقاء في
إجازة مفتوحة! !
وهذا مع علمنا أن التكليف على قدر الوسع، ولو أننا باشرنا ما هو ممكن
اليوم لصار ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً، ولنوضح هذا بمثال صغير، فلو أننا
عمدنا إلى طفل في الخامسة من عمره لم يدخل المدرسة، وطلبنا منه كتابة اسمه
لوجد أن ذلك بالنسبة له مستحيل، فإذا علمناه كتابة حروف اسمه حرفاً حرفاً، ثم
علمناه الوصل بينهما لوجد أن ما كان مستحيلاً قبل ساعة صار الآن ممكناً وهكذا ...
ونحن في كثير من الأحيان نطوف في المجلس الواحد في أنحاء العالم
الإسلامي متألمين لما يحدث للمسلمين، وشاكين من التآمر عليه، ثم ينفض المجلس
على نحو ما انعقد عليه دون أن يستفيد مسلم من شيء مما قلناه، وذلك لأننا لم
نباشر الممكن، وإنما أذهبنا أوقاتنا في الحديث عن أمور لا حول لنا ولا طول في
التأثير فيها! !
ولو أننا تحدثنا بما يصلح أمراً من أمور الحي أو في كيفية جعل فلان من
الناس يرتاد المسجد لكان ذلك أنفع للمسلمين وأبرأ للذمة من شيء مشغولة به.
الوقفة الرابعة:
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- تركنا على المحجة البيضاء، ووقع التكليف
من الله تعالي باتباع ذلك المنهج والتزامه على قدر الوسع والطاقة، وهذا التكليف
سنة الله تعالى في الأنبياء -عليهم السلام- وسنة أممهم؛ فقد مكث نوح -عليه
السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين، وكانت حصيلته في ذلك وصف الله تعالى: [وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ] [هود 40] نعم إنهم قليل حملتهم سفينة واحدة ومع ذلك
فإن نوحاً ظل رسولاً من أولي العزم الأبرار، ذلك لأن المنزلة على مقدار الجهد
الموافق للمنهج المنزل، وليس على مقدار ما يحقق من نجاح وفلاح.
ولكن الذي يحدث في بعض الأحيان أننا نضع أهدافاً معينة نريد الوصول إليها
عاجلاً، ولو كانت هذه الأهداف تستدعي الضغط على المنهج أو القفز عليه أو
الانحراف عنه، وحين يحدث ذلك تفقد الدعوة انسجامها الذاتي كما تهتز الفلسفة
النظرية التي تستند إليها؛ وربما أدى ذلك إلى استعمال وسائل غير مشروعة.
ولا يعني هذا أن نعفي أنفسنا من عمليات المراجعة، بل يعني أن المراجعة
المطلوبة هي التأكد من موافقة أساليبنا ووسائلنا للمنهج الرباني الذي تعبدنا الله تعالى
باتباعه والحركة على هديه.