المسلمون والعالم
عماد حيدر الصالحي
من المؤشرات المريبة اليوم على الساحة العربية بل العالمية ما جرى في
سورية بعد انتقال الرئيس حافظ الأسد من الفانية إلى الباقية؛ فقد أفاق العالم شرقاً
وغرباً على ولادة أول جمهورية وراثية على وجه الأرض بعد توريث كيم إيل
سونغ الحكم لابنه في كوريا الشمالية.
إلا أنه لا بد لنا أن ننوه بماهية التركيبة الطائفية لحكمٍ كل ما فيه ينطق
بالطائفية المذهبية؛ فطبيعة الحكم في سورية وعلى مدى نيِّف وثلاثين عاماً كان
حكماً طائفياً صرفاً على الرغم من تقمُّص شعارات حزب البعث وتنظيماته واتحاذها
ستاراً يتوارى خلفها.
وقد راق للمعلق السوري الدكتور عماد فوزي شعيبي أن يدفع عن الحكم
الأسدي صفة الطائفية فكتب في صحيفة الحياة يوم 24/6/ 2000م مقالاً لا نقول
إنه يحاول به رفع تهمة بل يريد به طمس حقيقة ماثلة للعيان لا تحتمل الخوض فيها
ولا ينتطح فيها عنزان؛ إلا أن الدكتور الشعيبي نفسه يعلم بطلان دعواه؛ فإن كان
علويا نصيرياً فإني أقسم أنه يعلم أن الحكم نصيري طائفي، وإن كان مسلماً سنياً
فإني أقسم أيضاً أنه يذوق طعم الطائفية يومياً، وإن كان نصرانياً فليس في نصارى
سوريا على مختلف طوائفهم وكنائسهم من يجهل حقيقة الحكم السوري. وحتى
العرب خارج سورية يعلمون ذلك ولا يجهلونه، والمسلمون في شتى أقطار الأرض
قد عرفوا النصيرية ولم تعد مجهولة حتى عند عامتهم، والعالم الغربي من خلال
دوائره المعنية أكثر معرفة بدقائق ذلك الحكم الطائفي وتفصيلاته.
لقد أراد (الشعيبي) أن يقدم أمثلة تخيَّلها مما يساعد على إهدار الحقيقة،
فقاس قياساً فاسداً حين نفى طائفية الحاكم للخلاف الذي حصل بينه وبين كل من
اللواء محمد عمران، واللواء صلاح جديد وكلاهما نصيري. أما محمد عمران فقد
تم تصفيته جسدياً في مزرعته الخاصة قرب طرابلس اللبنانية، وأما صلاح جديد
فلم يرَ النور بعد دخوله السجن الذي قضى فيه نحبه عليلاً مريضاً. والقاصي
والداني يعرف أن فعلة الحاكم هذه بفرد أو أفراد من بني ملته لا تعني أنه غير
طائفي، كما أن الخلاف بين باراك ونتنياهو لا تجعل الآخر منهما نصرانياً أو
مسلماً؛ كما أن قتل رابين لم يجعله يهودياً ولا جعل قاتله غير يهودي؛ وحتى
القتال بين المسلمين لا يُخْرِج طائفةً من المقتتلتين من الإسلام؛ فكل منهما مسلمة
ولو انتصبت لأختها بالسيف، ولولا ذلك ما دعا الله المؤمنين لرأب الصدع بين
إخوانهم بقوله - تعالى -: [وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] (الحجرات: 9) .
لقد كان الخلاف الدائر بين رؤوس النصيرية في الجيش السوري ينطلق من
أن بعضهم يعتقد أنه أقدر على تحقيق أحلام الطائفة في إعادة بناء الدولة النصيرية
التي أقامتها لهم فرنسا في محافظة اللاذقية وأعطتهم مسمى (العلويين) بدلاً من
(النصيرين) وهو الاسم الذي يحرص النصيريون على التخلص منه لما يحمله من
معاني يعرفونها منذ قام النصيريون أيام صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله -
باغتيال عدد من علماء المسلمين؛ حتى إن صلاح الدين نفسه لم يسلم من محاولات
عديدة للاغتيال على أيديهم، ولكن الله سلمه منهم فكان شوكة في حلوقهم وسيفاً بتاراً
لمن خلفهم من الصليبيين.
إن الصورة التي أعقبت موت الأسد أكثر تجلية للأهداف التي حملها طيلة ثلث
قرن؛ فكل حركة ونأمة وإجراء تشرح بما لا يقبل شكاً أو جدلاً أنه كان طائفياً حتى
نخاعه، ولم يكن إعلانه في خطاب عامٍّ أمام التلفزيون في أعقاب الإضراب العام
في سورية أوائل عام 1980م أنه يصلي منذ ثلاثين عاماً إلاَّ زيادة في النكاية
وضرباً من التقية والخداع.
وما دام الأسد الأكبر قد هلك، وأفضى إلى ما قدم من عمل فإن ظُلامات
كالجبال ما تزال ماثلة فوق كل حبة من تراب سورية، ولن تتاح للرجل إعادة هذه
الظلامات إلى أهلها؛ فهو رهين ما قدم ولن تنفعه هتافات الهاتفين ولا الإسراف في
الألقاب ولا الغوص في بحار المديح التي تكال له كيلاً وتُغرف غرفاً مما زعموا له
من صفات ونعوت كان بعيداً منها وكانت بريئة منه؛ فقد قيل إنه صاحب القلب
الكبير وقد ضاق عطنه عن سماع همس الهامسين، ولقد سمَّاه الغوغاء الأبَ القائدَ
في الوقت الذي حرمَ فيه عشرات الآلاف من الأطفال من آبائهم الذين قتل منهم من
قتل، وسجن منهم من سجن، وشرد الآلاف منهم حتى لم تعد منطقة في الأرض
تخلو من سوريين يقرأ العالم في عيونهم مرارة التشريد على حين تُفتَح سورية على
مصراعيها لليهود العائدين إلى دمشق للمساهمة في بناء سورية الأسد! ولم يكن
لهؤلاء المواطنين من ذنب سوى أنهم لا يؤيدون طغيانه وجبروته، وما زال حتى
الآن الآلاف من أهل السنة قيد سجونه، ولا يُدرى عن كثير منهم أأحياء هم أم
أموات؟ وجل السجناء الذين ادعى أنهم من (الإخوان المسلمين) هم ممن لم يحمل
سلاحاً ولم يهتف بسقوط الأسد بل كان صابراً صبر شعبه منتظراً فرج الله، ومع
ذلك لم يسلم من الظلم لسبب لا يقع تحته عقوبة ولا تأنيب؛ لأن الذين قاوموا الأسد
بالسلاح وهم فئة قليلة قتل منهم من قتل في الاشتباكات التي وقعت بينهم وبين
رجال الأمن، والباقون منهم وهم قلة توجهوا إلى خارج البلاد.
أما بطل الصمود والتصدي في حرب الأيام الستة حرب حزيران التي جرت
بين العرب واليهود يوم 5/6/1967م فقد كان يومها وزيراً للدفاع في الحكومة
السورية، وكان هو صاحب البلاغ العسكري بسقوط القنيطرة في أيدي اليهود ولم
تكن قد سقطت حتى ساعة إصدار ذلك البيان المشؤوم أو اقترب منها جندي
إسرائيلي واحد، وكيف يتقدم اليهود منها والجنود السوريون متشبثون بها تشبث
الأبطال الميامين المدافعين عن كرامة أمتهم وشعبهم؛ ولكن البلاغ العسكري
المباغت الذي أصدره حافظ الأسد بوصفه وزيراً للدفاع أصاب الجنود المتقدمين في
الجبهة في مقابلة العدو الصهيوني بالذهول؛ فالقنيطرة خلفهم وهذا يعني في العرف
العسكري أن اليهود قد قاموا بحركة التفافية عليهم ولم يبق أمامهم إلا الاستسلام للعدو
أو الفرار من المعركة غير المتكافئة، وزاد الوضع العسكري للجنود السوريين
إرباكاً حين أُتبع بلاغ سقوط القنيطرة بأمر عسكري آخر من حافظ الأسد يقضي
بالانسحاب الكيفي للجيش؛ وما أدراك ما الانسحاب الكيفي لأفراد الجيش الذي يزيد
النفوس هلعاً ويصبح حال الجميع: نفسي نفسي.. (انجُ سعدُ فقد هلك سعيد) .
فما الذي دعاه لإعلان غير صحيح عن سقوط مدينة القنيطرة ومعها الجولان
كله؟ وإذا كان حافظ الأسد يومئذ قد وقع ضحية لمعلومة كاذبة أبلغته بسقوط
القنيطرة ولم تكن قد سقطت فلِمَ لم يفصح عن ذلك؟ إن إخفاءه للحقيقة التي تقف
خلف ذلك البلاغ المشين جعل أبناء الجيل المعاصر لتلك الفعلة الشنعاء يدعونه باسم:
(بائع الجولان) !
إن كل السوريين والعرب الذين تبلغ أعمارهم ثلاثاً وثلاثين عاماً لم يشهدوا
تلك الواقعة ولم تسمع آذانهم ذلك البلاغ، وكل الذين يبلغون الأربعين لم يعوا تلك
الأيام السود، وقد فات الأسدَ شرفُ تسجيل الكتب المدرسية ضياع الجولان على
يديه، وإن لن يحظَ أبناؤنا بدراسة ذلك فلا شك في أن أحفادنا سوف يكون لديهم
الأدلة المقنعة بأن الخيانة عار لا يغفره التاريخ.
وإذا تركنا ذكر تلك الأيام السوداء من عمر سورية وتوجهنا للتعرف إلى
ملامح السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية فلسوف نرى العجب
العجاب.
أما السلطة التشريعية في عهد الأسد الأول فقد كانت معطلة وإن كان لها
مجلس ولوائح وأعضاء يقبضون مرتباتهم الشهرية وعلاوات التصفيق للرفيق
القائد؛ فليس على المجلس الموقر إلا صياغة الرغبة الرئاسية التي كانت
تضمِّخ كل تشريع أو قرار بعبارة: «بناءاً على كذا.. وبناءاً على كذا..
وبناءاً على توجيهات السيد رئيس الجمهورية الرفيق المناضل نقرر ما يلي..» .
وليس لتلك البناءات من شأن إلا للبناء الأخير وهو توجيهات الرئيس؛ فأي حاجة
لهذا المجلس سوى التصفيق والموافقة؟
وأما السلطة التنفيذية فقد كانت طيلة عهد الأسد مطلقة الأيدي والألسن
والفروج، لا يردعها رادع، ولا تخضع لقانون أو نظام؛ فالكل (إيدو إلو) ولا
يقف في وجهها واقف إلا الحاكم نفسه على الرغم من الفترات المتباعدة التي يعلن
فيها عن محاربة الفساد وتطهير الأرض من المفسدين والتي لم تكن في حقيقتها إلا
صراعاً بين المفسدين وعملاء النظام على مكامن استثمار الفساد واستنباته، وقد
أثبتت الأحداث التي سبقت موت الأسد والتي تلته أن العينات المدروسة المستهدَفة
لو طبق عليها الأسلوب العشوائي لما أخطأت من أصابت؛ لأنك أينما ألقيت حصاة
وقعت على رأس فاسد أو مرتش أو ظالم؛ فقد زُرِعَت الأرض منهم على مدى ثلث
قرن فساداً وإفساداً نَعِم بكافة الشروط التي جعلته يستشري ويستفحل ويصبح له
مليارديرات؛ وتتكون له عصابات وعشائر.
وفي مقال لكاتب يساري هو الدكتور (طيب تيزيني) يصور من خلاله بعض
ملامح ثلث القرن الأسدي؛ وذلك على مدى ثلاث حلقات في صحيفة تشرين
السورية الناطقة باسم السلطة بعنوان: (ثلاثية الفساد في أسبابه وآلياته ونتائجه)
كان ثالثها يوم 24/5/ 2000م - أي قبل موت الأسد بأيام - تكلم فيه عن «فاسد
تحت الطلب» وكان مما قاله في المقالة الثالثة: «في مقالتنا الأولى حاولنا وضع
يدنا على واحد من المفاصل الكبرى التي جعلت من تكريس الفساد وتعميمه وتأييده
مهمتها الحاسمة وسمَّينا هذا المفصل باسمه وهو» الدولة الأمنية العربية «بشعارها
الاستراتيجي التدميري: يجب أن يُفسَدَ مَنْ لم يُفسَد بعدُ؛ بحيث يصبح الجميع مُداناً
تحت الطلب!» .
وهذا أمر يعرفه السوريون جميعاً القائم منهم على حدود الله أو الواقع فيها؛
فللرفاق الحزبيين جميعاً ملفات خاصة؛ فمنها الوثائق المؤرخة، ومنها المقترنة
بالشهادة المسبقة من شهود صادقين أو كاذبين، ومنها حقائق يشهد عليها الجمُّ الغفير،
ومنها ما هو بالصوت والصورة التي تظل مُسْلَطة عليه تمنعه من مبارحة طريق
الفساد، ويظل مهدداً بها كل حين ولا فكاك له منها، ولا سبيل إلى النجاء منها
والإفلات من أشراكها إلا بالإمعان في الطاعة والاستمرار في إضافة وثائق جديدة
إلى ملفه الأسود، وفي حادثة انتحار رئيس السلطة التنفيذية محمود الزعبي
مؤشرات ذات دلالات تعبِّر عن طبيعة النظام الكلية في الفساد والإفساد وتربية
ضحاياه وإعدادهم ليوم يغسل بدمائهم ما علق بصورته من معالم الجريمة ولو كانت
الضحية ممن عاش ربع قرن خادماً أميناً وطائعاً لا يتسرب إليه الملل في خدمة
النظام الذي أباح له كل شيء، ولم يعصمه من أن يصبح في أية لحظة كبشاً يفتدي
به نظامه الجبروتي الذي ليس في قاموسه السلوكي معنى للود أو الرحمة أو الحياء؛
فهو في مركب قرصان لا يتورع عن إلقائه في عباب البحر تخفُّفاً من الثقل الذي
يهدد مركبه الآثم بالغرق.
وقد يعجب المرء: كيف أتيح لـ «تيزيني» أن يقول هذا؛ والرؤوس من
حوله تتطاير؟ فنقول له: إن مقتضيات اللعبة قد تسمح بأكثر من هذا وحتى نفاد
البضاعة المعروضة على الجمهور؛ فلْيتكلم ما شاء مما يشاء النظام السماح به لفترة
معقولة جداً تفي بالغرض المقصود وبعدها يا ويل من يتنفس.
وأما السلطة القضائية فقد طُورِدَ فيها القضاة الأكفياء، ومن بقي منهم فلسان
حاله يقول: اللهم سلِّم سلِّم، اللهم اختم أعمالنا بالصالحات. وصال في المحاكم على
مختلف درجاتها قضاة أكثرهم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.
أما حزب البعث فحسبك معرفة بحقيقته أنه لم يُدْعَ لاجتماع طيلة خمسة عشر
عاماً وهو كما يقال حزب حاكم وليس حزباً ممنوعاً مطارداً لا يتاح له التجمع تحت
سقف آمن!
أما الشعب السوري الذي قيل عنه يوم كان تعداده خمسة ملايين نسمة بأنهم
خمسة ملايين رئيس جمهورية فقد تحول خلال ثلث قرن من الطغيان المتعمد المنظم
إلى ألاَّ تجد فيه فرداً واحداً بلغ الأربعين ربيعاً من عمره في الأول من كانون الثاني
(يناير) من عام 2000 م يصلح أن يكون رئيساً للجمهورية؛ فبُحِث في أبناء الـ
39 صيفاً فلم يُعثَر فيهم على من يصلح للمنصب، فتداعى العدد نزولاً حتى استقر
المؤشر عند أبناء الاربعة والثلاثين خريفاً، فدُووِل بينهم وكانت المفاجأة التي
أعادت الثقة إلى النفوس أن واحداً من هذا الجيل - واحداً فقط - تبين أنه يتوفر
على الصفات المؤهلة له ليحمل أمانة إنقاذ الأمة من الانقراض ويجنبها وصاية
الأمين العام للأمم المتحدة؛ لينادى باسمه «وبس» !
لن نتحدث عن متاعب المبعدين عن الوطن المشردين بين أقطار الدنيا الأربع
ولن نتحدث عن مآسيهم ولو من خلال جوازات السفر المحجوبة عنهم وعن
أولادهم الذين ولدوا في الشتات، ولن نتحدث عن الذين طلبوا العودة إلى سورية
بلدهم وأرضهم فرُفضت طلباتهم في أبشع إجراء ودون أي تعليل للرفض سوى
عبارة: (مع عدم الموافقة!) فلا تلوموا (إسرائيل) إذا رفضت عودة
الفلسطينيين إلى ديارهم؛ فحكومة قلعة الصمود والتصدي الطائفية تقف الموقف
نفسه من المشردين السوريين في أقطار الدنيا! وقد لا تعتلي وجهَ أحد من رجال
السلطة ممن قد يقرأ هذه الحقيقة حُمرةُ الخجل؛ فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم
حقيقة الذين جف ماء الحياء فيهم حين قال: «إنما أدرك الناس من النبوة الأولى
إذا لم تستح فاصنع ما شئت» [1] .
ولن نتحدث عن تجويع الشعب السوري وحرمانه من الغذاء والدواء وإفقاره
وإذلاله، ولن نتحدث عن الراشين والمرتشين والرائشين بينهم، ولن نتحدث عن
مجازر مدينة حماة التي بلغ عدد الضحايا من سكانها على أقل التقديرات 20 ألف
مواطن من العزل الذين لم يساهموا في أي نشاط ضد الحكومة الطائفية، ولن
نتحدث عن الدور المعدّ الذي توجهت فيه قوات النظام إلى لبنان للقضاء على
الحركة الوطنية اللبنانية التي كان يقودها أحمد الخطيب، وللغاية الأهم وهي إخراج
آخر فدائي فلسطيني يعكر مزاج الصهاينة من أرض لبنان! ولن نتحدث عن دك
مخيم تل الزعتر على رؤوس سكانه من الفلسطينيين نساءاً وأطفالاً وشيوخاً ... كل
ذلك وغيره كثير كثير لن يغفره أحد لنهج (الرئيس) الذي فاجأه الموت ولم تُتح له
الفرصة للنطق بالتوبة أمام الأيتام والثكالى والمقعدين.
أما مسألة الموقف الصلب والصمود في وجه العدو الذي كان يمثله فأعتقد أنه
كلام لا يساوي قيمة مداد حروفه وهو من نوع تسميته بـ «محرر القنيطرة» .
وقبل أن نختم كلامنا نضع أمام بصر القارئ وبصيرته صورة إدارة المفوَّض
السامي الفرنسي للبلاد السورية في فترة الاستعمار الفرنسي لسورية ليقارن بين حكم
يعلن صراحة أنه استعماري، وحكم يتوارى خلف مسمى حكم وطني [2] ؛ فقد أورد
الدكتور شمس الدين الرفاعي وصفاً لما آلت إليه سورية بعد أن تم لفرنسا احتلال
البلاد في 24 تموز (يوليو) عام 1920م فقال:
«أنشأ الجنرال غورو أربع حكومات، ونظم إدارتها كلاً على حدة بعد تقسيم
البلاد إلى أربع دول هي: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، وحُكْم جبل
الدروز. وكان حكام الدول الثلاث الأولى فرنسيين. أما المفوَّض السامي فقد كان
بمثابة (الحاكم) بما كان يحيط به نفسه من مظاهر الأبهة والسلطان، وأصبح
مصدر السلطات ورئيسها جميعاً، يسير في نظام دكتاتوري لا يبالي بما يصنع،
ولا يرى أنه مسؤول أمام أحد، ويمنح نفسه ما يشاء من صلاحيات تشريعية
وإجرائية وقضائية، ويصدر ما يشاء من قوانين ولوائح، ويلغي بجرة قلم ما لا
يروقه من أنظمة وقوانين. وأسس شبكات الجاسوسية والاستخبارات في مختلف
المدن السورية لتأليب أنصار الفرنسيين ومواليهم على الحركات الوطنية والأهداف
الوطنية والعهود الوطنية ورجالاتها وكذلك إلى استغلال الصفة الطائفية في الدروز
والنصيرية..» .
ألا ترى قارئي الكريم أن الفروق بين المفوَّض السامي الفرنسي والمفوَّض
السامي العلوي تضيق جداً حتى تكاد تكون مفقودة؟ !
ومهما تقمص الطائفيون من أشكال، ومهما لبسوا من أقنعة، وبأي لغة تحدثوا
فهم عراة إلا من حقيقتهم ولولا سيطرتهم على مقدرات البلد وخاصة طيرانها
ومدفعيتها وبنادقها وأسطولها لما تجرؤوا على النيل من شعب ودَّع الفرنسيين
بالبيض والبندورة. ومهما امتد بهم من زمن فإنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا
الجبال طولاً [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] (الشعراء: 227) .
سلام عليك يا سورية يا صانعة الأمجاد ويا من مات على ثراك سيف الإسلام
خالد بن الوليد رضي الله عنه.
سلام عليك يا سورية التي أنجبت الغر الميامين من أمثال ابن تيمية قاهر
التتار، ومحمد الأشمر وإخوانه من هازمي فرنسا ومخرجيها من بلادنا.
سلام عليك يا شام الإسلام والعروبة يا أرض المحشر ويا روضة المؤمنين ويا
دار الصالحين؛ فعلى أرضك عقدت ألوية النصر التي جعلت لسان العرب لسان
الحق، ودين العرب دين الدنيا، ولم يحملها ذلك على شيء إلا أن تثبت على إيمانِ
أنه «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى» .
سلام عليك يا شآم العز وأنت اليوم تُتَّهمين بالعقم؛ ولطالما كنت النجيبة المنجبة
على مر الدهور والعصور، وإذا كان الباطل قد رماك عن قوس واحدة فاعلمي يا
بارَّةُ أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً، ولا يهولنْك هذا الباطل السفيف؛
فإن كيده ضعيف كما قال رب العزة: [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ
الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] (الطارق: 15-17) و [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً]
(النساء: 76) .
ولسوف تنتصرين بقوة الله ثم بإرادة أبنائك المخلصين وسواعدهم القوية،
وستهزمين الأعداء كما هزمت من قبل جحافل الصليبيين والتتار، ولسوف تعلو
فيك من جديد كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله بكل معانيها الشرعية واللغوية،
ومهما استنسر فيك البغاث فلسوف يسلِّطك الله عليه وستغلبينه وسيردد المسلمون
معك في أقطار الأرض ما قاله الفاروق من قبل: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام
ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله» .
وفي الختام نتمنى لسورية في عهدها الجديد أن تستقر أمورها، وتشيع فيها
روح العدل، وأن ينعكس ذلك إيجابياً على شعبها الصابر بما يضمن له التقدم
والازدهار بإذن الله.