في دائرة الضوء
عبد العزيز بن محمد التميمي
الدكتور عبد الوهاب المسيري [*] ، علماني سابق، كان مبشراً بالعلمانية
ومؤمناً إيماناً عظيماً بمستقبلها، وأنوارها القادمة! ورحمتها وإنسانيتها ...
وبالتدريج تكشفت له الحقيقة ... ! «لم تكن العلمانية في يوم من الأيام إنسانية
قط ... ! ! خصوصاً إذا دفعناها إلى نهايتها المنطقية وكنا علميين حقاً ... ! ومن
هنا كان هذا البحث الممتاز له» .
في مطلع هذا البحث المهم يدرس الأستاذ المسيري هذا المصطلح وكيف
تشكَّل بدايةً في القاموس الأجنبي حيث ولد، وفي البيئة الغربية، ومن ثَمَّ استخدمته
الكنيسة كي تذم من يستولون على أموالها بالقوة، ثم صار يطلق على الاستيلاء
الشرعي على أراضي الكنيسة وهو الاستخدام الإيجابي للمصطلح. ثم تحدث عن
استعمالات واشتقاقات أخرى للنص، ثم خلص إلى الحديث عن دلالة النص في
المجال الثقافي العربي؛ حيث ذكر أنها تعني «فصل الدين عن الدولة» وهو
تعريف قاصر وقدرته التفسيرية ضعيفة، ووصفها بأنها في حقيقتها: رؤية معرفية
وأخلاقية مادية محضة. «فالخالق إما غير موجود عند المتطرفين أو غير مؤثر
عند المعتدلين» ، لكن الطرفين يستويان في النموذج المعرفي الفعال. وفي الرؤية
الأحادية المادية للإنسان فهو جزء من منظومة كونية تتحدث من خلاله ولا يتحدث
هو من خلالها، ويخضع لقوانينها نفسها، ولا سر فيه ولا غريب، تتفق في ذلك
علوم الاقتصاد والنفس والتاريخ، بل هي تسعى لاستخدام المناهج والأدوات ذاتها
التي تستخدمها العلوم التجريبية. وتفسر السياسة والقانون بالعقد الاجتماعي الطبيعي،
والأخلاق باللذة والمنفعة. ورغم مقدرة النموذج العلماني المدهشة على التفسير،
والمذهلة على التغيير فهو يواجه مشاكل مهمة منها: أن الإنسان مركَّب وليس
بسيطاً يتحدى المعادلات الرياضية؛ لذلك فقد ينجح هذا النموذج حين يتعامل مع
المادة أو مع الجانب المادي للإنسان، لكنه يضعف أو يخفق حين يتعامل معه بما
يميزه بوصفه إنساناً (تطلعاته، أحلامه، آلامه) ومنها أن حلم العلمانية الكبير
بالفهم المطلق للكون بدأ يتبدد، وأن رقعة المجهول تتزايد ولا تتناقص. ومنها أن
أزمات التلوث والبيئة أثبتت إخفاق القدرات المطلقة للإنسان، وأثبتت الحدود
الانطولوجية والمعرفية للإنسان. ومنها أن النظرية العلمانية ترى أن الإنسان جزء
من كلٍّ هو الكون، وأكبر من الجزء، ولا بد أن يخضع لقوانينه؛ ولكن هذا
الخضوع يعني إلغاء الإنسان؛ فالإنسان في النموذج العلماني يبدأ في المركز
وينتهي بالإعدام.
ومنها أيضاً مشكلة القيمة، والنظرية الأخلاقية؛ فالقوانين الطبيعية تظهر
وكأنها بلا غاية، فهل يمكن إيجاد تفسير «علمي» لقضايا الخير والشر، والحُسن
والقُبح ... ؟ ! في منظومة (سبينوزا) كان الله تعالى هو الطبيعة ثم جاء نيتشه
ليعلن موت الإله عياذاً بالله ثم جاء «جاك دريدا» حيث يختفي معه المركز
ويختفي الإنسان وتعم الفوضى في عالم ما بعد الحداثة.
هذا بالنسبة للنموذج العلماني ... أما بالنسبة للنموذج المقابل له وهو النموذج
الديني فإن الإنسان يدور حول مطلق موحى به، ويؤمن بإله يحفظ الإنسان ويوجه
الطبيعة والتاريخ، ويحتكم الإنسان فيه إلى مجموعة من القيم المطلقة التي تتجاوزه،
أما الآليات العلمانية الإجرائية التي يستخدمها فتظل هي الهامش لا المركز، على
العكس من النموذج العلماني الذي إن وجد فيه المطلق فهو في الهامش.
في العلمانية تتفتت وحدة المؤسسات، لتصبح كل مؤسسة تسعى لتحقيق
كفاءتها الذاتية الامبريقية في غياب أي قيم مطلقة، وكان الاقتصاد والسياسة أول
قطاعين يستقلان؛ حيث جعل «ميكيافيلي» من الأمير خالقاً، و «هوبز» جعل
من وحش الدولة إلهاً علمانياً «يقدس العلم والنشيد الوطني والأرض، والأمة فوق
الجميع» ، ثم تنسلخ الفلسفة؛ حيث تظهر الفلسفة المادية، ثم علمنة الأحلام؛
حيث تدور على الأرض وحدها، ثم الأخلاق والبراجماتية، ثم الأسرة؛ حيث
تتفتت وتظهر حقوق الإنسان الرجل والمرأة والطفل والحيوان وتختفي حقوق أخرى
مهمة مثل حقوق الأسرة، والإنسان تظهر فيه معدلات المنفعة. تنتقل العلمنة إلى
الأدب؛ حيث يصبح مؤسسة مستقلة بلا مرجعية حيث الأدب للأدب، والانغماس
في البنية الهندسية للأدب وموت المؤلف. ويعلمن الجنس، فيصبح هنالك جنس
للإنجاب، وآخر للحب، وثالث للمتعة، وهكذا ... فالمعرفة العلمانية ليست معرفة
المحبين للتواصل مع الطبيعة وإنما تهدف للسيطرة إنها معرفة إمبريالية.
ولذلك ظهر مفهوم (الترشيد) عند «ماكس فيبر» ويعني به تحويل العالم
كله بما فيه الإنسان إلى حالة المصنع.
ثم يتحدث الباحث عن بعض آليات العلمنة، ويذكر ثلاثاً منها هي: العلمانية
البنيوية، وعلمانية الرغبات، وعلمانية النسق الديني. في الآلية الأولى أشار
لتجربة روسيا، وأن دعايتها الإلحادية لم تنجح إلا عندما أقامت كيان الدولة الذي
صنع مؤسسات العلمانية وانتشار المصنع والسوق وجعلها وحدات أساسية. وفي
أمريكا تسير معدلات العلمنة بشكل أكبر. وعن علمنة الرغبات يتحدث الباحث عن
تحويل كل شيء لمساحة تستثمر حتى بدلات الرياضيين وسياداتهم، إنه عالم ما بعد
الحداثة المفتقر للمركز؛ وإنما هو شبيه بالثقوب السوداء؛ حيث لا مكان ولا زمان.
وعن علمنة النسق الديني؛ فيرى الباحث فيه أن الله يُعرف بالعقل لا غير،
ويطوع المؤمن النص ولا يطيع الله، ويفقد الخطاب الديني بعده المركب المجازي
ويهتم المؤمن بجمع الحسنات.
هذه الآليات الثلاث تعمل في العالم الإسلامي كله.... وإذا كان سقوط الفكر
الاشتراكي بسبب سقوط منطلقاته، فكذلك نفهم سقوط الفكر القومي نظراً لنزع
القداسة والإطلاق والدعوة للنسبية والواقعية من هذا الباب ... وبهذه الآليات يمكن
أن نفهم النازية والصهيونية.
من هذا العرض القصير لهذا المبحث الخصب والحيوي تتجلى لنا كيفية
التحول الذي حدث لدى الأستاذ عبد الوهاب المسيري؛ ذلك أن بداياته الأولى كانت
علمانية قومية تحاول تعرية الصهيونية ... ثم لم تلبث أن تبدت له الحقيقة في عدم
فهم الرجل الأمريكي للحق العربي في منهج التفكير والنسق الاعتقادي الذي يحكم
قيم الغرب وحساباته؛ ومن هنا بحث عن سر الأزمة والانقطاع وعدم التواصل بين
تفكيره وتفكير الآخر ... فكانت العلمانية التي تبدت له حقائقها واحدة تلو الأخرى
تبدت له وحشاً ضارياً شديد الفتك تسعى للتسوية والتناظر، ونجحت نجاحاً باهراً
في تسوية خصومها حتى الشيوعية المتطرفة، وهي لا تزال تحاول تفكيك النسق
الديني لمحاولة احتوائه وهي محاولة خطيرة تقضي على آخر بوارق الأمل في
النجاة، ما لم يَعِ الإسلاميون بالذات خطورة هذا الطرح ويستعدون لمواجهته.
وبعد، فلا ريب أن ما قاله الدكتور المسيري وفقه الله بالغ الأهمية ويحتاج
لمزيد من الدراسات والإثراء. والله من وراء القصد.
بقيت ملحوظة مهمة لهذه الدراسة:
ألا وهي الجدة والأصالة والطرافة التي احتواها هذا العمل المتميز؛ إذ
تحولت العلمانية من قول في السياسة إلى قول في كل شيء ... ومن رؤية فكرية
إلى منهج حياة مفصل، ومن سلاح يستخدم ضد خصم إلى نار تلتهم أول ما تلتهم
صاحبها، إنها سرطان يظهر ثم لا يمكن ضبطه بعد ذلك. ولقد تمكن الباحث
بصبر ودأب من تتبع جذورها، وامتداداتها، وآلياتها وفاعلياتها حتى أحاط بها،
وسلط الأضواء عليها، وكشف عن خطورتها، ودلل على وجودها حتى في نقضها
الصريح للنموذج الديني؛ ومن هنا تجيء قيمة هذا المبحث أن يكون بين أيدينا،
ومن هنا تبرز أهمية الموسوعة التي صدرت منذ أكثر من عام! !
وفق الله الجميع وسدد الله الخطا.