الافتتاحية
تشهد الحركة الإسلامية تراجعاً ملحوظاً، شهد بذلك كثير من المتابعين لشأنها، خاصة من أبنائها ومحبيها، كما شمت في ذلك أعداؤها ومناوئوها، وإن سلمنا
بذلك التراجع الذي نعده تراجعاً مركباً في الفكر والأداء والنوع فلا بد أن نقرر بدايةً
أننا حين نتحدث عن تراجع الحركة الإسلامية فإننا نتحدث عن ذواتنا، نتحدث عن
خلل فينا، نتحدث عن التراجع الذي حدث بداخلنا، هذا التقرير نؤكد عليه في
الوقت الذي بدأت تظهر فيه أصوات تطرق الباب ذاته، وهم من أبناء هذه الحركة، بل منهم من كان سبباً في بعض هذا التراجع بتقلباته المتشنجة وتحولاته المتعددة،
وهذه الفئة حين تتحدث عن تراجع الصحوة تستنفر كل مفرداتها المستفزة في تسفيه
الحركة، وتستدعي النائحات المستأجَرَات للمشاركة في هذا المأتم الكبير الذي
صنعوه، وقد ينصب بعضهم سرادقات العزاء في مجالسه الخاصة ومنابره
الإعلامية. إن هذا «المنهج الاستبرائي» مِنْ نسبٍ طالما تفاخروا بالانتساب إليه
مسلك خطير يطلب به القوم البراءة لأنفسهم في الوقت الذي لم يتهمهم فيه أحد،
ولكن يكاد المريب أن يقول خذوني.
أحببنا أن نؤكد على أن نقدنا للحركة هو نقد لأنفسنا للسعي في إصلاحها،
وليس عرضاً لأدلة الاتهام، ومن ثم إصدار الحكم وتنفيذه.
وإن من المسلَّمات أن المد والانحسار لأي دعوة هو من متلازمات سيرها إلى
هدفها، ودين الإسلام لم تخطئه هذه السُّنَّة؛ فقد شهد فترات مد كثيرة، وتراجعات
كثيرة كذلك، كما يشهد التاريخ أن الثورات وصحوات الأمم تشهد في بداياتها زخماً
كبيراً ونشوة قوية وسرعة في الحركة، ثم ما تلبث حين تمضي الأيام أن تفتر الهمم
والعزائم إلى أن يقيِّض الله لها من يجدد الدماء فيها، فتعود إلى سابق عهدها، أو
يكون عكس ذلك فتموت الأمة.
ولذلك تأتي المراجعة لأسباب التراجع خطوة هامة على طريق العودة لمعرفة
الخطأ والصواب، ولإدراك مواطن الضعف والقوة للاستفادة من تجارب خاضتها
الحركة وذاقت فيها طعم الإخفاق أو النجاح.
من أسباب التراجع:
يعزو بعض المتحدثين عن التراجع أن حدوثه راجع إلى أسباب خارجية
صرفة؛ فالكيد الغربي بيهوديته ونصرانيته وتحالفاته مع قوى الشر من المذاهب
الكفرية من جانب، وأذناب الغرب من المنتسبين إلى الإسلام، أو صنيعته من دول
الإسلام من جانب آخر، كان لهم الدور الأكبر في محاربة الدعوة، وهذه الحرب
الشرسة كانت السبب الرئيس في هذا التراجع.
ومنهم من يقصر سبب التراجع على الخلل الداخلي في الحركة بقصورها
الفكري في تطبيق منهج صافٍ بصورة مُرْضِية، أو بتشتتها وتفرقها، أو بأمراض
قلوبها التي لم تبرأ بعدُ من أدوائها.
ولا شك أن لكلا السببين أثراً في تراجع المسيرة المباركة، ولكننا نرى أن
النصيب الغالب لن يكون في كفة الكيد الخارجي؛ فقد قال الله عز وجل: [وَإِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) فالكيد ينفذ ويؤثر
حين يضعف التحصين الداخلي ويغفل الحُرّاس. وعند الإمام مسلم عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: «.. . وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة،
وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا
محمد! إني إذا قضيت قضاءاً فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة
عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم
من أقطارها أو قال: بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم
بعضاً» [1] .
إن الخطورة الحقيقية للخطر الغربي وتوابعه تكمن في عدم إدراك طبيعته،
وعدم التخطيط لكيفية التعامل معه؛ فإن من يسعى إلى أن يحوِّل كل الأرض أن
تصبح خاضعة لحكم الله وشرعه لا بد له أن يدرك هذه الهجمة الشرسة من بداية
سعيه هذا.
ولقد بلغت الغفلة عن هذا الخطر الداهم ببعضٍ أن جازف وارتمى في أحضان
الغرب يطلب الأمان الذي لم يجده في ديار المسلمين، فما نال عنب الغرب ولا تمر
الشرق.
لم تحسب بعض فصائل الحركة جيداً حساب القوى الدولية والإقليمية ولا
فهمت أهدافها إلا بعد زمن طويل تعرضت خلاله إلى خسارات كبيرة.
نعم كانت الهجمة شرسة! ولكن الأبواب كانت مشرعة، ولم يكن هناك
حراس للقلعة.
أما السبب الآخر، وهو الخلل الداخلي، ففيه من التعقيد والتكدير للنفوس ما
لا يعلمه إلا الله؛ فقد ولدت فصائل العمل الإسلامي المنتسبة لمنهج أهل السنة
والجماعة من أرحام فكرية مختلفة وإن جمعها نسب واحد إلا أن هذا النسب الجامع
«المنهج العام» لم يكن عاصماً لبعضها من الانزلاق إلى مخاطر كثيرة، وذلك
لعدم فهمها الصحيح المتكامل لهذا المنهج وتبعات الانتساب إليه، ونتج عن ذلك ما
أدى إلى التراجع الداخلي الذي كان من أسبابه:
1 - غياب كثير من العلماء عن توجيه الحركة؛ فقد كانت بدايات الصحوة
مقترنة بجهود شباب متحمسين من طلبة العلم، ولأن حركة كهذه بضخامتها لا
تستطيع أن توجهها عقول متوثبة للخير بمفردها، لذلك كان غياب العلماء عاملاً
مؤثراًَ في تشتت الجهود وتفرق الفرق؛ حيث الجميع أقران.
وفي الوقت ذاته لم يستفد أولئك الشباب من بعض علماء المؤسسات الدينية
الرسمية ممن عُرِفوا بالتقى والبعد عن الهوى، ولم يحرصوا على استمالتهم إليهم
والاستفادة من علمهم وخبرتهم، بل لقد تم استعداء هذه المؤسسات بشكل سافر،
وختم أولئك على كل علمائها بخاتم «علماء السلطة» .
2 - ضعف الولاء للمنهج العام، وقَصْر ذلك على الفصيل المنتمى إليه، بل
تعدى الأمر ما هو أسوأ من ذلك؛ حيث صارت المعاداة والبراءة تقاس على أفكار
ذلك الفصيل وتوجهاته وسياساته.
3 - ضعف التربية القلبية والوجدانية لدى كثير من فصائل الحركة الإسلامية
مما أدى إلى ظهور أمراض أعلَّت القلوب وأوهنتها، وأبعدت النفوس عن طهارتها
وسلامتها، وأضرَّت النوايا والمقاصد، وأسلمت ذلك كله إلى الظنون والوساوس.
4 - عدم إدراك الحركة لماهية الواقع الذي تحياه وحجم المواجهة التي
تنتظرها؛ فقد تعاملت الحركة ببراءة الأطفال مع واقع تسيطر على سياساته ذئاب
شرسة ماكرة، وشياطين إنس أُشرِبوا العداوة لدين الله حتى استعذبوها.
5 - عدم ترتيب أوليات العمل، وذلك ناتج طبعي لتنوع الفصائل وتوجهاتها
الدعوية. صحيح أن تنوع الفصائل وتوجهاتها يفيد من حيث الجملة في توسيع
شريحة المنتسبين إلى الدعوة إلا أنه أضر بسبب عدم التنسيق. وبسبب الموالاة
على الخط الحركي للفصيل، وبسبب أمراض القلوب أضيرت الجهود والإمكانيات
والطاقات بتشتيتها: فمن رأى أهمية العمل السياسي وضرورة قصر الجهود عليه لم
يلتفت إلى من رأى أهمية التربية العلمية، والأخير لم يلتفت إلى من يرى أن الوقت
بحاجة إلى المواجهة والعمل الجهادي، فراح كلٌّ في وادٍ، وذهب كثير من الجهود
إما إلى خسارة بالغة، وإما إلى نجاحات باهتة، ونسي الجميع مع اختلافهم أن
عدوهم ينظر إليهم حتى عامة الناس أنهم جزء واحد؛ فمن أساء فعلى نفسه وإخوانه.
6- غياب العمل المؤسسي بشكل فاعل في إدارة الدعوة وتوجيهها وتخريج
طاقات علمية وعملية، وغياب هذه الفاعلية نشأ بسبب أن التوجه إلى هذا العمل
جاء متأخراً عن بدايات الصحوة، وعندما أدركت أهميته صار لكل فصيل مؤسسته
أو مؤسساته، فصار التحزب مؤسسياً! !
7 - ضعف توسيع قاعدة الخطاب الدعوي، وقصره في الغالب على فئات
معينة من المجتمعات، وتصنيف عامة الناس الخارجين عن فصائل الحركة
الإسلامية إلى جاهليين، ومن تلطف معهم قال: «نحن» و «هُمْ» فنأوا عن
أكثر الناس وعن الانسياب فيهم، في الوقت الذي استباحهم فيه أهل العلمنة،
فخسرت الحركة قاعدتها العريضة من الناس، وانحازت هذه الفئة إلى جانب
أعدائها في كثير من البلدان.
ولو حاولنا تتبع أسباب التراجع لطال حديثنا، ولكن أحببنا أن نذكِّر أنفسنا
بعيوبنا ونقف معها لنصحها وإرشادها إلى مواطن الضعف، وتنبيهها إلى مواطن
الخطر ومزالق الزلل.
وإن من الأهمية بمكان إدراك أن الوقوف على التوصيف لمسببات التراجع له
فائدته الكبيرة، لكن الفائدة الأكبر والواجب الأهم هو السعي لتغيير هذا الواقع
بتلافي ما سبق والاسترشاد بنتائجه.
ولا يُظن أن الدعوة من بداياتها إلى منتهاها لا تخرج عن طريقها أو تقف
أثناء سيرها، أو أن هذا الطريق سيكون مفروشاً ورداً وأزهاراً، هذا كله نعلمه
«نظرياً» لكن هذا التراجع الذي نراه اليوم جعله لدينا «علم يقين» .
وإن كان من كلمة أخيرة فلن تكون إلا الدعوة إلى الائتلاف الصادق، وترك
العداوة والمبالغة فيها، وإن لم نتفق فلا أقل من أن لا يرى عدونا تناحرنا، وإن لم
نتوحد فبالإمكان أن ننسق، وإن لم ننسق فيبقى الود في القلوب قائماً، والمحبة في
النفوس وافرة، وإن لم تكن المحبة على هذه الصورة فلا أقل من ترك الكراهية
والمعاداة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .