مجله البيان (صفحة 3499)

المسلمون والعالم

الدور الغربي في الصراعات الإفريقية

حسن الرشيدي

«إننا خليط ثقافي، ثمرة تحول أوجده الغرب، لقد جاؤوا إلينا وقالوا لنا:

سنستعمركم، اتركوا جانباً التنُّورات وأوراق الشجر واستخدموا الترجال والبلوجينز

ونظارات ريبان. ثم إذا بهم يغيِّرون رأيهم في منتصف الطريق ويقولون: أنتم

مستقلون لقد قهرنا الرجل الأبيض. والآن بعد أن غيَّروا عاداتنا وثقافتنا ووضعوا

لغتهم على لساننا يقولون إننا أبناء غير شرعيين لحضاراتهم!! !» .

هذه مقولة أحد مثقفي دولة ساحل العاج يعبر فيها عن حالة الاغتراب التي

يعيشها الأفارقة وتحياها إفريقيا وتبلغ معاناة إفريقيا ذروتها في الحروب التي يبدو

أنها لا تنتهي في هذه القارة، فأصبحت تظهر كأنها مستودع للنزاعات لا تكاد تخبو

حتى تنفجر مرة أخرى حاصدة الآلاف من الأرواح ومشردة الملايين من البشر.

فالدم ينزف في أنجولا وغينيا بيساو وسيراليون ويكاد ألاَّ يتوقف في الكونغو

ولا زالت حروب القبائل في الصومال مشتعلة بين الحلفاء أو قل العملاء في

إثيوبيا وإرتيريا. أما مذابح الجزائر فحدث عنها ولا حرج. وفي إحصائية حديثة

«منذ بداية هذا العقد شهدت إفريقيا أكثر من مئة نزاع حدودي» [1] وتقول

إحصاءات أخرى: «إن عدد الدول الإفريقية المتورطة الآن في معارك مباشرة قد

وصل إلى نحو 12 دولة» [2] ولا يقتصر العدد على هؤلاء وحدهم؛ ذلك أن أعداداً

أخرى من الحكومات الإفريقية مشاركة بصورة غير مباشرة، وهناك دول إفريقية

تنتج السلاح وتبيعه للمتقاتلين، وهناك دول أخرى ينتقل السلاح عبر أراضيها

وبرضاء حكوماتها، وهناك دول تقف بعيدة عن أتون الحرب ولكنها لا تنكر

تعاطفها مع طرف أو آخر من المتحاربين ولا تخفيه، وهكذا فإن السحب السوداء

توشك أن تغطي المدى الإفريقي بأكمله.

ولا شك أن العامل الاستعماري الغربي بأشكاله القديمة والحديثة له الدور

الأكبر في إثارة هذه النزاعات وتجددها المستمر، هذا المكر الغربي تجاه إفريقيا هو

جزء من عدائه وحقده العقدي والتاريخي على الإسلام؛ فلقد انتشر الإسلام في القارة

الإفريقية انتشاراً واسعاً في شمالها وشرقها وغربها وفي أجزاء من وسطها وجنوبها، وبلغ انتشاره في القارة درجة أصبح معها المسلمون يشكلون نسباً كبيرة من السكان

في جميع أنحائها؛ فهناك أغلبيات عظمى أو أغلبيات كبيرة وأقليات تتراوح بين

نصف السكان وأقل من عُشْرهم في بعض البقاع، وكان لانتشار الإسلام باعتباره

ديناً وطريقاً للحياة أثره في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعوب القارة،

كما كانت له قوته الثقافية والحضارية التي بها استطاع أن يوجد كياناً ويسهم في

صنع جانب من الشخصية الإفريقية ويحقق فيما بين شعوب القارة بعضها مع بعض

وبينها وبين غيرها خارج نطاق القارة صلات متعددة الجوانب.

إفريقيا في المنظور الغربي:

ينظر الفكر الغربي على وجه العموم إلى المجتمعات الإفريقية باعتبارها

مجتمعات غريبة الشأن؛ فهي مضطربة ومثيرة للأطماع ومتخلفة ومخنوقة

بالمجاعات والحروب الأهلية والجفاف وغارات الجراد والإيدز. فالإنسان الإفريقي

في المفهوم الغربي «نشأ وتطور من الخلية الحية التي نشأت في البرك

والمستنقعات» [3] ، ويوضح فرانسوا بيار هذا الجنس بقوله: «لقد كان من

المفهوم أن جنس السود نوع من البشر مختلف عنا؛ إنها بلاد الذهب المنغلقة على

نفسها، بلاد الطفولة المغلفة بلون الليل الأسود قبل أن يبدأ نهار التاريخ الذي أدركه

الوعي» [4] وهو طبعاً التاريخ الذي يصنعه الأوروبيون بجهودهم الكريمة كما كتب

القبطان فاليه في عام 1900م وهو في أغوار غابات الكونغو: «لا نجد هنا سوى

الفوضى وسوء النية، وباختصار مجتمع لا يزال في عهد الطفولة بلا أي تنظيم

وهو عبارة عن شتات من البشر يستحيل التعامل معهم، ويشلُّون جهودنا الكريمة

بجمودهم» [5] .

ويعترف جان فرانسوا بيار قائلاً: «إن الإحجام عن الاعتراف بالمجتمعات

الإفريقية باعتبارها مجتمعات تاريخية وسياسية كاملة الأهلية يرتبط بإقدام الغرب

على إخضاع أهلها ابتداءاً من النخاسة وحتى الاستعمار» [6] .

وكان اللورد جونستون وهو من منظِّري الإمبراطورية البريطانية «يشك في أن

يكون للأفارقة تاريخ قبل هجمات الغزاة الآسيويين والأوروبيين» [7] .

باختصار: كانت المفاهيم الغربية بالنسبة للمجتمعات الإفريقية تدور حول عدة

عناصر:

- افتقادها لتاريخيتها.

- بلاهة شعوبها ووحشيتها وهمجيتها.

- انعزالها عن بقية العالم وبعضها عن بعض.

ولكن هل ما يزال هذا المفهوم هو المسيطر على عقول الغربيين وخاصة

الساسة منهم؟ بالطبع هؤلاء الساسة لا يصرحون بذلك؛ فطبيعة السياسة وخاصة

هذه الأيام لا تدع للصراحة مجالاً؛ ولكن الأفعال هي التي تجعل الانطباع السائد أن

الفكر الغربي لم يغير نظرته إلى الأفارقة، ويبدو هذا في تصرفات الساسة الغربيين.

مظاهر الدور الغربي في تأجيج النزاعات في إفريقيا:

لقد فعل الغرب بإفريقيا الأفاعيل واستغل شعوبها وثروتها أبشع استغلال،

واستناداً إلى تقديرات كتاب (الزنجي) الصادر في نيويورك عام 1915م فإن

تجارة الرقيق الأمريكية أدت إلى إزالة ستين مليون زنجي على الأقل من إفريقيا

توفي منهم حوالي خمسين مليوناً قبل وصولهم إلى أمريكا « [8] .

وتتجلى ممارسات الغرب الاستعمارية في إفريقيا خاصة منها الذي يساعد على

إثارة الخلافات في ثلاثة مسارات:

أولاً: الصراع العرقي:

العرقية أو القبلية أو كما يسميها علماء الاجتماع (الإثنية) هي ظاهرة شديدة

التعقيد؛ فهي تتميز بالتمركز حول النوع والوعي المشترك والإحساس بالهوية

والانغلاق» [9] وهي مثل أي ظاهرة في المجتمع ليست ثابتة بل يمكن أن تغير

شكلها وموقعها ودورها في حياة المجتمع؛ بل وربما تظهر عناصر جديدة في

محتواها؛ ومن أهم خصائصها أنها «لا تتواجد في شكل نقي بل ترتبط وبشدة

بالرؤى السياسية القانونية والاجتماعية الأخرى التي تشكل مكوناتها

الضرورية» [10] .

لقد ظهرت القبلية لأول مرة على يد الاستعماريين؛ فهم أول من نشر هذا

المنظور؛ إذ كان جزءاً من جهودهم لإخضاع إفريقيا المستعمرة، واحتلت القبلية

موقعاً هاماً في الأيديولوجية العنصرية للاستعمار فقد صُوِّرت أمراً يتسم بالسحر

والبدائية والبربرية تميز الإفريقي وينظر إليها رابطاً رئيساً بين الماضي الإفريقي

اللاتاريخي البدائي البربري المزعوم الخالي من أي مبدأ إنساني من ناحية والمهمة

الحضارية وعبء الرجل الأبيض الاستعماري من ناحية أخرى.

ولكن كيف افتعل الاستعمار هذا الصراع؟

«بدأ الاستعمار يقسم المجموعات الإفريقية اللغوية إلى قبائل لتسويغ هذه

الرؤية العنصرية للأفارقة لينشأ بينها تفاوت في الثقافة ويروج فكرة أن الصراع فقط

هو ما يميز التواصل بينهم ويتجلى امتداد هذه العنصرية في ميل المستعمر إلى

اعتبار المجموعات اللغوية الإفريقية بعضها أعلى أو أدنى من بعض حسب تشابه

تنظيمها الاجتماعي السياسي لتنظيم المستعمر وتقدمهم في بلوغ مصائر المستعمر

السياسية والاجتماعية» [11] .

ثم جاءت الخطوة الثانية «جمع الاستعمار مجموعات عرقية متباينة تحت

إدارة سياسية واحدة، وفي بعض الحالات نجد مجموعة عرقية واحدة مقسمة إلى

أقسام تديرها قوى استعمارية مختلفة أو منضوية تحت إدارات سياسية مختلفة بين

قوة استعمارية واحدة» [12] وقد وضَّح بايار دور المستعمر في صنع الصراع

العرقي وإن لم يعتبره العامل الوحيد؛ فإن هناك عوامل أخرى أسهمت في هذا

الصراع فقد «حرصت نظرة المستعمر على تصور الأوضاع البشرية التي يعوزها

الوضوح على شكل هويات متميزة تخيلها وفق نموذج هابط (للدولة الأمة) لعدم

تصوره ما هو أفضل، وكان مفهوم الإدارة الفرنسية المعتادة على المركزية الإدارية

مفهوماً قائماً بكل وضوح على تحديد المساحات؛ بينما كانت فكرة الحكم غير

المباشر البريطانية أميل إلى النزعة الثقافية. وأياً كانت هذه الفروق فقد تم تنظيم

الحكم الاستعماري حسب هذه التصورات، واتجهت النية لترتيب الواقع على هذا

الأساس. وقد استخدم القهر لتثبيت الإقامة قسراً والتحكم في حركات الهجرة وتجميد

الهويات العرقية بطريقة مفتعلة إلى حد أو آخر من خلال البطاقات الشخصية

وجوازات السفر الداخلية» [13] .

إن الصراع العرقي استخدم من قِبَل الغرب لإخضاع الشعوب، ولقد كان

المحدِّد الرئيس لهذا السلوك الاستعماري هو رغبة المستعمرين في إخضاع الأفارقة، كما لعبت سياسة (فرِّق واحكم) دوراً هاماً في عملية الإخضاع هذه؛ فشجعوا

المشاعر العرقية بين الأفارقة، واستغلوا كل فرصة متاحة لنشر أسطورة تمايزهم.

تأخذ القبلية في إفريقيا أشكالاً عدة:

- يغالي القبلي باستمرار في صفات رجال قبيلته وعشيرته وأعمالهم ويفاخر

بها، وعلى العكس فإنه ينكر عيوبهم، ويحاول التستر عليها باستمرار؛ وموقفه من

القبائل الأخرى هو عكس ذلك تماماً.

- يمارس القبلي المحسوبية بالنسبة لأفراد قبيلته في توزيع المزايا المادية

وإسناد كافة المناصب المسؤولة إليهم.

- يعتقد القبلي أن مَنْ هم ليسوا من أفراد قبيلته وعشيرته لا يستحقون

مساعدته.

- ويتمادى بعضهم في القبلية إلى حد الاعتراض على الزواج بين القبائل

وإلى تفضيل الزواج بين البيض والسود عليه.

- ويتمثل الشكل الأقصى للقبلية على الصعيد السياسي في المطالبة بتأسيس

جمهوريات ذات استقلال مزعوم ولكن على أساس قبلي، وإذا لم يتيسر ذلك الحل

تتم المطالبة باتحاد فيدرالي واستقلال ذاتي إقليمي على أن تتم تجزئة السلطة

السياسية والإدارية في إطار طبقي.

كذلك كان للمبشرين البروتستانت الذين قدموا مع الاستعمار دور في إثارة

صراع الأعراق فقد «ساعد المبشرون خاصة البروتستانت منهم على تنميط لغات

إقليمية ونشرها عن طريق التعليم وترجمة الكتاب (المقدس) وتكوين نخب محلية

رفيعة المستوى. ومن أشهر هؤلاء: الأب جونسون في بلاد اليوروبا، والقس

كاجام في رواندا» [14] ويقول الشيخ عيسى جيسيسي مفتي رواندا: «القبيلتان

المتناحرتان (التوتسي والهوتو) يعود أصلهما إلى أسرة واحدة؛ إلا أن الاستعمار

استطاع أن يخلق جواً من التوتر بينهما، وأصبحت كلتا القبيلتين في صراع محتدم

للوصول إلى السيطرة على البلاد، وكان للكنيسة دور أساس في إشعال نار الفتنة

بين القبيلتين كلما أوشكت أن تهدأ، وكانت تبذل كل ما يمكن لقتل المزيد من الناس

أما عن موقف المسلمين من هذا التناحر والصراع فهو موقف مشرف؛ فقد

التزموا الحياد ولم يسببوا أي توتر بين القبيلتين حتى إن الحكومة الحالية قامت

بجمع تقارير عن سبب الفتنة، فأبرزت أنه لا يوجد مسلم واحد متورط في هذه

الفتنة مما دفع رئيس الجمهورية ومعه نائبه معلنين أمام حشود كبيرة من الناس أن

المسلمين لهم دور كبير في إخماد نار الفتنة التي أشعلتها الكنيسة حتى إن رئيس

الدولة أمسك بيديه القرآن الكريم وقال للناس: إن هذا الكتاب هو الذي منع

المسلمين أن يتدخلوا في الصراعات التي حدثت، وإن ما دعاهم لذلك هو الدين

السمح الذي يعتنقونه» [15] ويعترف أحد علماء الاجتماع الفرنسيين المعاصرين

بأثر الإسلام في تجانس الأعراق وتوحدها فيقول: «إن الحركات الثقافية الكبرى

التي انتشرت في القارة قبل الاستعمار تتجاوز الأعراق ومنها الإسلام» [16] ويقول

آخر عن قبائل كوتوكو التي تعيش في غانا: «بفضل الإسلام الذي اعتنقوه توحدوا

برغم العناصر المتباينة بينهم» [17] .

لقد تغلغلت فكرة التقسيم العرقي التي ابتدعها المستعمر حتى بات كثير من

الأفارقة يتقبلونها ظناً منهم أنها الأصل، وأضحت العرقية المعاصرة قناة يتحقق من

خلالها التباري من أجل الحصول على الثروة والمركز. وتستفيد المجموعة العرقية

لحزب الطبقة الحاكمة من الامتيازات والاستثناءات، وتغدو الجماهير الضحية

الحقيقية لهذا الاستقلال السياسي وما يصاحبه من تميز إثني وعرقي.

ثانياً: إيجاد الصفوة المختارة:

أوجد الغرب قبل أن يرحل فئةً من الشباب الإفريقي تلقوا تعليمهم في مدارس

وجامعات غربية وتربَّوْا على مناهج الغرب فكانوا صنيعته في إفريقيا، وساهمت

الإرساليات التبشيرية الأوروبية في هذا المخطط «ففي أوغندا ظل التعليم حتى عام

1925م تتولاه الكنائس، وفي غرب إفريقيا 557 مدرسة تعينها الحكومة مالياً منها

521 مدرسة تشرف عليها أو تديرها البعثات التبشيرية؛ وذلك بخلاف 2175

مدرسة غير معانة معظمها تمولها هيئات التبشير المختلفة. وفي الكونغو تسيطر

الكنيسة الكاثوليكية على نسبة 80% من التعليم، وفي هذه المدارس تلقَّى التعليمَ

القادةُ الذين برزوا في الحركات التي خلفت الاستعمار مثل نكروما ولومومبا

وسيكوتوري ونيريري وغيرهم» [18] والجامعة الإفريقية في أوغندا التي يشرف

عليها البريطانيون تخرج منها أفورقي وزيناوي وموسيفيني وجارانج [19] ،

وعمدت كل دولة غربية إلى تهيئة الظروف أمام هذه النوعية لتتمكن من أخذ زمام

الأمور بيدها «لقد عمد البرتغاليون إلى خلق فئة من أهل المستعمرات وثيقة الصلة

بالبرتغال وموالية لها؛ وطبقاً لهذه الفكرة يمكن للإفريقي أن يندمج إذا استوفى

شروطاً معينة مثل معرفة القراءة والكتابة باللغة البرتغالية، واعتناق المسيحية،

والاستعداد لنبذ بعض العادات السائدة كتعدد الزوجات. وهذه الطبقة من المتطورين

التي أطلق عليها (الطبقة المختارة) أريد منها أن تعرقل سير الحركة الوطنية [20] ، وطبقاً لهذه الفلسفة فإن الفرد لن يتمتع بحقوق متساوية، وسوف يرغم أغلبية

الأفراد لزمن غير محدود في المستقبل على الخضوع لأقلية تحمي امتيازاتها

الخاصة.

لقد استخدم الاستعمار على نطاق واسع وسطاء من سكان البلاد الأصليين

الذين استغلوا امتيازاتهم فرصة للإثراء من خلال عملهم معاونين للإدارة، وهكذا

أصبح الفساد أحد تروس جهاز الحكم غير المباشر.

ولم يغادر الاستعمار الدول الإفريقية إلا بعد أن وضع على رأس الحكم

مجموعات أو طبقة موالية له تتكون من الأفراد الذين كانوا وسطاء بين الاحتلال

والأهالي؛ ففي رسالة بعث بها أعضاء من الحركة الوطنية في الكونغو إلى

رؤسائهم في الحزب الحاكم:» نحن أصحاب الفضل في الحركة الوطنية الكونغولية

بتنا أشبه بالكلاب وسيدها؛ ففي الصباح الباكر يذهب الكلب مع سيده إلى الغابة

للبحث عن صيد والكلب مستعد دائماً لالتقاط الصيد وإحضاره للسيد.. . وفي

المساء يعودان للقرية لأكل الصيد، وعندما يُطهى اللحم يوضع في الطبق ويبدأ

السيد بطرد الكلب قبل أن يبدأ الأكل مع أن الكلب هو الذي أحضر اللحم؛ ونحن

أيضاً حاربنا للمطالبة بالاستقلال؛ وكثيراً ما كانوا يدبرون المؤامرات (يقصد

زعماء الحزب) مع المستعمرين لإلقاء القبض على مناضلي الحركة الوطنية

الكونغولية، وهم حتى الآن جالسون فوق كافة المقاعد ولا يزالون يواصلون إلقاء

القبض علينا لكي يضعوا حداً لنشاطنا « [21] .

لقد أصبح المركز في السلطة موقعاً للنهب، ويلجأ القائمون على هذه السلطات

إلى احتكارهم للقوة الشرعية للمطالبة بمنتجات وإتاوات وخدمات» ففي شمال

الكاميرون مثلاً فرضت على القرويين غرامة قدرها 60 نايرا (عملة محلية)

بسبب سرقة جرس دراجة، وثمن هذا الجرس يعادل 5 ناير في السوق، والناير

يتمكن من إطعام شخص بالغ طوال اليوم، ومن المفروغ منه بالطبع أن رئيس

الناحية احتفظ لنفسه بكل بساطة بمبلغ الغرامة « [22] .

وهناك نوع آخر من النهب أشد خفاءاً يرجع إلى علاقات أصحاب المراكز في

السلطة في المدن مع أوساط الإجرام» ففي كينيا نسبت موجة من عمليات السطو

مع استخدام القوة إلى بعض رجال السياسة، كما تورط رأس السلطة في زامبيا

وهو رئيس الجمهورية في مختلف عمليات التهريب ومنها تهريب المخدرات «كما

يعطي المركز في السلطة الفرصة للحصول على الرشاوي تحت مسميات عديدة؛

فنجد في الكونغو (زائير سابقاً) أغنى هذه المسميات فتسمى الرشوة:» شيء

بسيط حافز مظروف لزوم آخر الشهر التفاهم حق الدخان الأخذ والعطاء التوصل

إلى حل زائيري؛ وجميعها تعبيرات للإشارة إلى المتاجرة في الأختام والتوصيات

وقرارات التعيين « [23] .

كذلك يمتد الفساد ويتشعب مع الخارج» فقد اتهمت شركة فرنسية بدفع

97,10 مليون ناير داخل نيجيريا لحساب الحزب الحاكم هناك وذلك من أجل عقود

يبلغ إجمالي قيمتها 746 مليون ناير «كما تطبق الحكومات الإفريقية نظاماً

للجمارك يدعو للسخرية» فلقد فرض حسين حبري عام 1983م في تشاد

رسوماً على المعدات العسكرية الفرنسية التي كان يلح في المطالبة بها،

وأقدمت سلطات موزامبيق على فرض جمارك على التوابيت التي كان سيشيَّع

فيها جنازة الرئيس سامورا ميشيل وأصحابه في كارثة الطائرة التي سقطت

بهم « [24] .

لقد سلم الغرب إلى هؤلاء السلطةَ بعد أن أفسدوا الضمائر وخربوا العقائد

وأشاعوا الفساد في جميع جنبات الحياة؛ فكان هؤلاء المفسدون ثمرة تربيتهم

وخططهم الخبيثة، وعانت إفريقيا، ولا يزال يعاني أهلها من الظلم والاستبداد

والفساد.

ثالثاً: اللعبة الأمريكية:

منذ بداية التسعينيات نزع عدد من الزعماء الأفارقة إلى التعامل مباشرة مع

الولايات المتحدة بصفتها القطب الأوحد في عالم اليوم، وتقديم خدمات لمصالحها

المباشرة وغير المباشرة في المنطقة، والمساهمة في الجهود الأمريكية الخاصة

بإعادة هيكلة القارة الإفريقية، وإقامة حلف أمني وعسكري معها متمثل في دفع

المبادرة الخاصة بإنشاء قوة حفظ سلام إفريقية تتبناها بجانب الولايات المتحدة كل

من فرنسا وبريطانيا عبر تقديم السلاح والتدريب والاستشارات الفنية، والتأكيد

على أن هذه القناة هي المؤهلة فقط لإمدادات السلاح الأمريكي للدول الإفريقية

الواقعة جنوب الصحراء. والمعروف أنه برغم عدم موافقة منظمة الوحدة الإفريقية

على هذه المبادرة فقد تمت مرحلتها الأولى» حيث أنهى الأمريكيون تدريبات

للجيشين الأوغندي والسنغالي في سبتمبر 1997م، وأشرف البريطانيون في إبريل

1997م على تدريبات في زيمبابوي لقوات من 8 دول إفريقية تنتمي إلى مجموعة

الكومنولث في حين تقوم فرنسا بإنشاء قاعدة للتدريبات العسكرية في ساحل

العاج « [25] .

إن السياسة الأمريكية تتوجه إلى قادة الدول الإفريقية وتهتم بالأشخاص

لاعتبارات تتعلق بمدى قربهم من وجهات النظر الأمريكية أكثر من كونهم قادة

متمسكين بسياسات انفتاحية أو بعيدة الصلة عن الفساد في بلدانهم؛ فدولٌ مثل

أوغندا وغانا ورواندا تفتقر إلى الحد الأدنى من الحريات السياسية، وقادتها

محاطون بنخب ليست بعيدة عن التورط المباشر في الفساد، ومع ذلك فهم موضع

اهتمام أمريكي لاعتبارات أمنية واستراتيجية.

وفي أثناء زيارة كلينتون الأخيرة إلى إفريقيا ترددت عبارة على لسانه قبل

الزيارة وأثناءها وبعدها:» إنه باسم الولايات المتحدة سوف نقدم مظلة الحماية لكل

إفريقيا « [26] وقد أثارت هذه الجملة الكثير من الشكوك التي أحاطت بحقيقة النيات

الأمريكية الكامنة وراء الانقلاب الذي حدث في السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا، وقد

بلغت هذه الشكوك حد الحديث عن عودة للاستعمار ولكن في ثوب جديد وبأسلوب

متطور يتفق مع سمات العصر وتوجهات النظام العالمي الجديد.

والواقع أن الحديث عن محاولات الهيمنة الأمريكية لم يأت من فراغ؛ فهو

يمثل امتداداً طبيعياً للسياسات الأمريكية المنفَّذة حالياً في كثير من مناطق كثيرة من

العالم سواء في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط، والغريب أن يعلن كلينتون عن

هذه المظلة دون أن يطلب منه أحد من قادتها هذه الحماية ثم يتحدث عن الاستقلال

الكامل والحرية المطلقة للدول الإفريقية؛ ومثل هذا القول قد اعتبرته العديد من

الدوائر الإفريقية أنه يعني استبدال الحماية الفرنسية البريطانية الاقتصادية على

العديد من دول القارة بالحماية الأمريكية. لقد تركزت السياسة الأمريكية على فتح

أبواب القارة أمام الاستثمارات الأمريكية وفتح أسواقها الضخمة أمام السلع

الأمريكية.

أما الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية فهما وسيلتان للضغط على الدول

الإفريقية بوصفهما ورقة مساومة عند اللزوم وفي الوقت نفسه تغطية لأهداف التدخل

الأمريكية في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية وتكريس الزعامة الأمريكية عالمياً.

هذا النفوذ الأمريكي المتعاظم استتبعه زيادة حدة الصراع في القارة المتمثل

في:

- التنافس على السيادة الإقليمية ولقب شرطي المنطقة ولعل النموذج

الإرتيري الأثيوبي خير شاهد على ذلك وما تلاه من حرب ضروس وهلاك الحرث

والنسل بين أكثر حلفاء أمريكا في القارة: أفورقي، وزيناوي.

- زيادة حدة المذابح؛ وأوضح مثال على ذلك منطقة البحيرات العظمى نتيجة

دعم قبيلة أو نخبة ضد أخرى مما أطال أمد الحرب بين موبوتو وكابيلا ثم بين

كابيلا نفسه والمتمردين التوتسي.

- الحرب على الإسلام وخاصة في السودان، ولولا دول الحزام المسيحي

المحيط به الداعم لتمرد جارانج لانتهى تمرده من فترة طويلة.

ومند عشرات السنين والكتب تنشر، والشعر يُلقى، والقصص تُروى عن نضال

إفريقيا وكفاح شعوبها ضد الاستعمار ورموزه وأدواته، وعن المارد الذي كسر

الأغلال، وحطم القُمْقُم، وتحرر من الرق والاستبداد؛ فهل يجيء اليوم الذي

يصبح فيه هذا الحلم حقيقة؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015