ندوات ومحاضرات
ندوة حول المستقبل الاقتصادي
طوفان العولمة واقتصادياتنا المسلمة
(1 - 2)
إعداد: وائل عبد الغني
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، وعلى
آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.. وبعد:
فقد تحدث الناس قديماً عن العنقاء بوصفها إحدى المستحيلات ذلك الطائر
الغريب الأطوار.. الضخم الذي يضرب بجناحه المدينة الكبيرة.
وحديثًا تحدث الناس عن العولمة باعتبارها واقعاً، ورأوا فيها ذلك المستحيل
القديم.. تلك القضية المثيرة للجدل التي تتكرر فيها قصة العميان والفيل مع فارق
أن فيلنا متناهٍ في الضخامة والتعقيد والشراسة.. وعمياننا ضعفت لديهم سائر قوى
الإدراك.. وقلَّ أن تجد معنى في بطن شاعر.. وعز من يداوي..!
وفي ندوتنا هذه نتناول الجانب الاقتصادي للعولمة، والذي لا نقول: إنه
الأخطر ولكنه بحق من أخطر الجوانب.
والأمر الذي نريد بلوغه وإبلاغه هو تصوُّر لمستقبل هذه الأمة الممتحنة في
ظل هذا الخطر.
لا نزعم أنا سنتناول كل شيء عن القضية.. ولكن حسبنا أن ننصب الأقدام
على الطريق الصحيح.. ونخطو عليه خطوات، ونرتقب الرافد من بعد. نحن
على ثقة أن المستقبل بيد الله تبارك وتعالى وهو سبحانه يداول الأيام بين الناس..
ثقتنا هذه هي لب زادنا ونحن نسعى لأن نقدم لأمتنا ولأنفسنا كما أمرنا ربنا.
معنا في ندوتنا هذه أربعة من خيرة الاقتصاديين المتخصصين:
* الأستاذ. يوسف كمال، أستاذ الاقتصاد الإسلامي غير المتفرغ بكلية
التجارة جامعة عين شمس الدراسات العليا.
* الدكتور/ عبد الرحمن يسري، رئيس قسم الاقتصاد الإسلامي بجامعة
الإسكندرية.
* الدكتور/ عبد الحميد الغزالي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة.
* الدكتور / رفعت العوضي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة.
والضيوف الكرام أصحاب إسهامات قوية في مجال الاقتصاد الإسلامي كما أن
لبعضهم كتابات متنوعة أخرى في التفسير والمنهجية والحضارة.
نبدأ ندوتنا عن العولمة بوصفها مصطلحاً.. فماذا يعني هذا المصطلح في
حقيقته وفق نظرة موضوعية مدققة؟
د. عبد الرحمن يسري:
قضية العولمة قضية من أعقد قضايا العصر؛ فهذا المفهوم ظهر في الحقبة
الأخيرة، وحاول أنصاره أن يروِّجوا لفكرة أن العالم أصبح قرية واحدة، بينما رأى
غيرهم أنه في سبيله لأن يصبح تلك القرية، ورأى فريق ثالث أنه لن يصبح كذلك
أبدًا، كما كثر الجدل حول حيادية هذه الفكرة ومصداقيتها.
وتحريًا للموضوعية علينا أن نبحث في المضمون حتى يمكننا استخلاص
صياغة تقربنا من فهم العولمة.
هذا المصطلح ظهر من خلال الأطر الاقتصادية والثقافية والسياسية
والاجتماعية التي تعكس تجربة العالم الغربي التاريخية والحضارية واتجاهاتها
المستقبلية. وإذا كنا سنتناول هذه القضية من شقها الاقتصادي كما هي طبيعة الندوة
فإني لا أزعم أن الشق الاقتصادي هو أهم الجوانب، وإنما بمنظورنا الإسلامي
يجب أن يلحق البعد الاقتصادي دائمًا بأبعاده العقدية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
وحتى لا نسهب أكثر يمكن أن نستخلص مفهومًا اقتصاديًا للعولمة من خلال
كتابات أنصار العولمة في الفكر الغربي؛ حيث تعني: «تحرر العلاقات
الاقتصادية القائمة بين الدول من السياسات والمؤسسات القومية والاتفاقات المنظمة
لها بخضوعها التلقائي لقوى جديدة أفرزتها التطورات التقنية والاقتصادية تعيد
تشكيلها وتنظيمها وتنشيطها بشكل طبيعي على مستوى العالم بأكمله وجعلها وحدة
واحدة» .
ومن ثم فإن اقتصاديات بلدان العالم ستصبح بلا سياسات قومية، وإنما تخضع
لنظام عالمي مسيَّر بقوانين طبيعية حتمية بما يحقق مصالح الجميع، وهذا هو ما
يفهمونه أو ربما يريدونه في العالم الغربي الذي يقود قاطرة الحضارة في عصرنا
الحاضر.
د. رفعت العوضي:
الدكتور عبد الرحمن حاول أن يقدم صياغة قريبة لمفهوم العولمة، ولكنها من
حيث إنها مفهوم أو مصطلح حتى في الغرب ما زال يشوبه قدر كبير من
الغموض.. هذا الغموض ربما ينتج من أن العولمة ما زالت في طور التشكُّل؛
حيث تقابل الصياغة الفلسفية بمشاكل تطبيقية ضخمة وغير متوقعة، وأرى أن من
المهم هنا أن أربط بين العولمة باعتبارها فكرة وبين الرأسمالية باعتبارها نظرية؛
لأن العولمة تعني إخضاع العالم كله لطور من أطوار هذه الرأسمالية التي مرت
بثلاث مراحل يمكن التمييز بينها:
المرحلة الأولى: رأسمالية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين: في
هذه المرحلة كانت الرأسمالية تتسم بسمتين بارزتين:
الأولى: اعتمادها على استنزاف موارد الدول الأخرى من خلال الاستعمار.
والثانية: تغييبها العدالة الاجتماعية. وانعكس ذلك من خلال تركُّز الملكية في
شريحة داخل المجتمع، ومن تغييب الاهتمام بإعادة توزيع الدخل، وجعل علم
الاقتصاد يدور محورياً حول التوازن.
المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد قيام الثورة الشيوعية عام 1917م وحتى
سقوطها عام 1990م: وفي هذه المرحلة أخذت الرأسمالية في تهذيب أنيابها لتحافظ
على وجودها في مواجهة المد الاشتراكي. في هذه المرحلة أعادت (الكينزية)
دورًا للدول، كما طرح الاهتمام بقضية الفقر وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
وهذه المرحلة شهدت حركة الاستقلال بعد نضال قاس ومرير من الدول التي كانت محتلة.
المرحلة الثالثة: ما بعد 1990م حيث انفردت الرأسمالية بالسيطرة على العالم، وعادت إلى نهب موارد العالم الثالث من جديد؛ ولكن النهب هذه المرة لم يكن باستعمار مباشر وإن كان واردًا، وإنما من خلال منظومة فكرية ومؤسسات دولية، وهنا غاب البعد الاجتماعي بصورة أبشع. وتسويقاً للفكرة صدرت عدة كتب في الغرب ككتاب «نهاية التاريخ» لفوكوياما الذي حاول أن يوصل للعالم أن الإنسان في كل تجاربه التي مرَّ بها من حيث النظم التي ابتدعها وأخضع نفسه لها قد انتهى إلى نظام واحد هو النظام الليبرالي سياسيًا الرأسمالي اقتصاديًا، ولعله حاول أن يقنن لواقع كان يصنع.
أ. يوسف كمال:
العولمة كغيرها من القضايا لا بد من أن أناقشها من زاوية كوني مسلمًا له
رؤيته المستقلة ومنهجيته في تناول الأمور، وله عالمه الخاص بمنأى عن أي انتماء
آخر سواء كان عالمًا ثالثًا أو غير ذلك، حتى وإن كانت هناك اتفاقات جوهرية.
لهذا يروق لي جدًا أن نبدأ مناقشة العولمة من كتاب «صراع الحضارات»
لهنتنجتون؛ لأن مؤلفه حدد بصراحة أن ما يواجه الغرب المسيحي إنما هو الإسلام.
والمتفحص للأحداث العالمية يجد أنهم لا يُحكمون الحصار إلا على العالم
الإسلامي، ولذا نبدأ المسألة من كونها حربًا عقدية في الدرجة الأولى، وهنا نفهم
القرآن ونستطيع أن نفهم حركة التاريخ فهمًا جيدًا فاعلاً.
في هذا الكتاب يشير مؤلفه إلى طبيعة المواجهة المقبلة؛ حيث يقول: إن
عصر الحروب القومية انتهى، والعالم مقبل على حروب حضارات، وهو لا يعني
بالحضارات مجرد الثقافات، وإنما يعني الأديان التي تشكل الحضارات،
ويحصرها في ثلاث: الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية المسيحية،
والحضارة الصينية الكنفوشيوسية، ثم يؤكد ويؤكد أن المواجهة الرئيسة ستكون مع
الإسلام.
د. عبد الحميد الغزالي:
العولمة ليست مصطلحًا، وإنما اكتسبت هذا الانتشار وهذه الشهرة؛ لأن
الغرب وأمريكا يحاولون أن يجدوا إطارًا لتنفيذ سياساتهم على العالم بعد انتهاء نظام
القطبين، بعد أن أصبح العالم يسير وفق نظام دولي أحادي القطبية، ومن ثم فهي
محاولة نقل ما هو محلي إلى بقية دول العالم، ليس في الاقتصاد وحده وإنما في
السياسة والاجتماع والثقافة، وكأي ظاهرة يتعين أن ندرسها بموضوعية وبهدوء
وبعمق، ولهذا أرى أن كتاب نهاية التاريخ وصراع الحضارات كلاهما مكمل للآخر. فالأول يبشر بسيادة النموذج الغربي، وبالذات في بُعده الأمريكي، والثاني يحذر
من الحضارات الأخرى، ويقترح تآمريًا «الآخر» الجديد، بعد انهيار «الآخر»
القديم، وهو الاتحاد السوفييتي السابق؛ وذلك بالتركيز على الحضارات الشرقية،
وبالذات الإسلام.
وفي الحقيقة فإن صانعي العولمة لم يعنوا بعولمتهم نهاية التاريخ فحسب وإنما
جعلوها خمس نهايات:
النهاية الأولى: نهاية التاريخ التي تعني سيطرة النموذج الرأسمالي على العالم
بعد انتهاء الشيوعية.
والنهاية الثانية: نهاية الجغرافيا: وهو أمر مهم جدًا؛ لأن نهاية الجغرفيا
تنقلني مباشرة إلى الشركات العملاقة التي تجاوزت الحدود الجغرافية والتي تعادل
ميزانية إحداها ميزانية العالم الإسلامي بأسره!
والنهاية الثالثة: نهاية الدولة: وهذا يتم من خلال استخدام الشرعية الدولية
للتدخل في شؤون الدول الأخرى وضرب السيادة الوطنية من قبل الناتو.
ثم النهاية الرابعة: وهي أبشع وهي نهاية الهوية: ومن ثم القضاء على
الخصوصية بالنسبة للشعوب.
أما خامس النهايات: فهي نهاية الأيديولوجية «الدين» : وإحلال آلهة المادة
ويقولون أستغفر الله بموت الإله!
هذه النهايات الخمس تشكل الأساس المذهبي للعولمة، ومن ثَمَّ لنا أن نتصور
كيف تكون العولمة المطروحة والتي تقابلها عولميتنا أو عالمية الإسلام، ومن ثَمَّ
فهي تستخدمها لذاتها.. ولمصالحها، بينما قامت عالميتنا لصالح البشرية جمعاء،
نورًا وهدى للعالمين.
د. عبد الرحمن يسري:
كي تكتمل الصورة وباعتبار العولمة هي بدعة غربية جديدة علينا أن نفرق
بين العولمة «Globalizaion» وبين التدويل «internationalism» ،
فالعولمة كما ذكر الدكتور عبد الحميد الغزالي تتجه إلى إلغاء كل السلطات الشرعية
الوطنية وعلى رأسها سلطة الدولة التي عرفت في النظام السابق على العولمة وما
زالت قائمة. وأود هنا أن أقول: إن النظام العالمي القائم على تشابك سلطات الدول
المختلفة واتفاقها على إجراءات «مستقلة» من قِبَل كل دولة قد بلغ شأوه في حقبة
التسعينيات. وهذه هي ظاهرة التدويل. لقد نمت ظاهرة التدويل وشهدت تصاعدًا
بعد الحرب الأوربية العالمية الثانية؛ فقامت مؤسسات مختلفة ذات طابع دولي:
الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وصندوق النقد، والبنك الدولي، واتفاقية الجات.
هذه المؤسسات هيأت للعولمة ابتداءاً، ثم هي الآن في طور تعديل برامجها وأهدافها
ومواثيقها لتتماشى مع العولمة.
د. رفعت العوضي:
لا بد أن نبين أن العولمة ارتبطت بالفكر الأمريكي؛ لأن الولايات المتحدة هي
التي تقود المدنية الغربية اليوم من خلال ذراعها القوي الذي يرهب العالم باسم
الشرعية الدولية وسيطرتها على حلف الناتو، ومن خلال قيادتها لمجموعة الدول
الصناعية السبع الكبرى استطاعت أن تفرض سياستها الاقتصادية على العالم،
إضافة إلى فرض معاييرها وقيمها من خلال المنظمات الدولية ونفيرها الإعلامي،
ومن خلال اتفاقية التجارة العالمية كذلك التي حولتها إلى منظمة ملزِمَةٍ ولها سلطتُها
على الجميع. ونذكر في هذا الصدد أن مصطلح النظام العالمي الجديد استخدمه
لأول مرة (جورج بوش) الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية في عام
1991م بعد حرب الكويت العراق.
البيان: هذا يذكرنا بكلمة لأحد الكتاب: «إن الدولة التي لا تتصهين سياسيًا
ولا تتعولم اقتصاديًا يكون مصيرها الحل العسكري» فالخيارات واضحة ومحددة
ومعلومة للجميع، والأمثلة على ذلك معروفة تكاد تنحصر في عالمنا الإسلامي!
لكن هنا يجدر سؤال حول السرعة التي تسير بها العولمة وتنتشر وتتطور، لو
قورنت بأي نظرية سابقة حتى قال عنها أصحابها: «ستدرككم العولمة ولو كنتم في
بروج مشيدة!» مشبهًا إياها بالموت الذي يتجاوز كل الحصون، ومع أن العبارة
تحمل نوعًا من المبالغة وربما الحرب النفسية، إلا أن الجميع يعترف بعموم بلواها
مع أننا موقنون من هشاشتها بنسبة كبيرة ولذا لا بد من معرفة السر الذي ربما لم
يعد سرًا.
د. عبد الرحمن يسري:
السر وراء هذه المقولات التي شاعت أخيرًا هو أن العولمة تمتلك قوى غير
عادية لم تتوفر لأي مشروع من قبل، وأهم هذه القوى تتمثل في الأمور الآتية:
حرية الاستثمار في أي مكان في العالم، وهذه الحرية اقترنت بحرية تحرك رأس
المال الخاص دون قيود على مستوى العالم.
- حرية إقامة الصناعة في أنسب الأماكن لها في العالم بغض النظر عن
الجنسية أو السياسة القومية لأي دولة.
- عالمية الاتصالات التي تعتمد على التقنيات المتطورة والأقمار الصناعية
التي سهلت عملية انتشار الفروع وإمكانية إدارتها من أي مكان في العالم.
- عالمية المعلومات التي ترتبت على تطور تقنيات الكمبيوتر ووسائل
الاتصال، وتوفر شبكات معلومات عالمية تخدم صناع القرار في كل المجالات.
- توحد النمط الاستهلاكي عالميًا، وإطلاق حرية المستهلك في اختيار مصدر
شرائه؛ بحيث استطاعت العولمة أن تدخل أسواقًا جديدة وتنافس عليها دون
عقبات.
هذه القوى أتاحت للعولمة الانتشار والسيطرة في ظل تهميش السلطات
الوطنية؛ فحرية الاستثمار تعتمد على حرية رأس المال، وكلاهما يفتح الطريق
أمام حرية إقامة الصناعات في أنسب مكان في العالم هذا المكان يتم انتقاؤه بعناية
من خلال التراكم المعلوماتي وتقنيات الاتصال العالمية والتي من خلالها أيضًا
يستطيع المستهلك العالمي التعرف على كل الخيارات.
أ. يوسف كمال:
تستخدم العولمة شعارين للسيطرة على العالم: شعار التحرير، وشعار التجديد
وشعار التحرير معناه فتح الأسواق دون قيود أمام حركة التجارة الخارجية.
ولتقوم الشركات الدولية بعمليات إغراق وتكتل واندماج يمكنها امتلاك السوق
المحلية كليًا، ومن ثم القضاء على الصناعات المحلية في أي لحظة تريدها،
وتدفقت رؤوس الأموال قصيرة الأجل لصناديق الاستثمار الدولية التي تملكها
الشركات الاحتكارية ذات النشأة الدولية كما حدث في ماليزيا؛ حيث قام (سوروس) بلعبته وانهارت العملة، واتجهت العولمة بشراء المؤسسات هناك بثمن بخس
تحت مسمى الإصلاحات، متسترة بستار التحرير، ولكن (محاضر محمد) عاد
إلى لون من التقييد في سعر العملة وحركة رؤوس الأموال؛ ليحافظ على البقية
الباقية من الاقتصاد المنهار ورفض معونة صندوق النقد وشروطه التي تربط
سياسات الإصلاح ببرامج تدمر الاقتصاد لخدمة العولمة؛ ولهذا شددوا الحملة عليه.
وبهذا حين نسحب رؤوس الأموال قصيرة الأجل تعاني البنوك من قلة السيولة
ثم تعاني المؤسسات وراءها، ثم تنخفض أسعار العملة وتهوي وراءها أسعار
الأسهم.
وهذه العولمة التمويلية تجذب معها إلى الهاوية القطاعات الحقيقية لإنتاج السلع
والخدمات رغم أن لديها المقومات التكنولوجية والمادية، والحاجة إليها ماسة.
أما التجديدات المالية فتؤدي إلى تضخم القطاع التمويلي بصورة مبالَغ فيها إذا
ما قيس بالقطاع الإنتاجي الحقيقي، وهو ما يعرف «باقتصاد البالونة» ؛ نظرًا
لاستحداث أنواع من عقود المقامرة والاتِّجار في المال التي أصبحت مصدر ثراء
واسع للعالم الغربي واليابان في منتصف التسعينيات؛ حيث كانت حركة التجارة
العالمية 30 تريليون دولار، بينما حجم التجارة الحقيقي 3 تريليونات فقط، و27
تريليون بيع وشراء في الهواء بعقود ما أنزل الله بها من سلطان.
التجديدات المالية تحيل المال الذي تُقَوَّم به الأشياء سلعةً تباع وتشترى؛ وهذا
فساد كبير لحياة الناس كما قال فقهاؤنا.
د. رفعت العوضي:
آليات العولمة ومؤسساتها تركِّز الغنى في جانب والفقر في الجانب الآخر،
ويزيد التضخم لأسباب كثيرة منها نظام الفائدة، وهو نظام يواجه انتقادات حادة من
الاقتصاديين.
البيان: ذكر الدكتور عبد الرحمن أن الحرية هي أحد الأسس أو القوى التي
تقوم عليها العولمة ولكنها حرية ذات مذاق خاص غير الحرية التي يتحدث عنها
مروِّجو العولمة في بلادنا، أليس هذا صحيحًا؟!
د. عبد الرحمن يسري:
فكرة الحرية هنا تحمل ازدواجية؛ فهي حرية من طرف واحد وإذعان من
طرف آخر؛ والمراد ألاَّ تمارس الدولة أي ضغوط لتحقيق مصالحها أو حمايتها ضد
أي دولة أخرى، ولكن الولايات المتحدة نفسها تكسر هذه القاعدة حين يمارس
كلينتون ضغوطًا شديدة على اليابان بشأن شراء سيارات أمريكية، وحين يمارس
كوهين وزير دفاعه مرارًا ضغوطه على دول عديدة لشراء أسلحة رغم عدم الحاجة
إليها ورغم أن هذه الدول مدينة وستستدين من أجل إنعاش الصناعة الأمريكية!
هناك كذلك حروب القوانين الاقتصادية كقانون داماتو، حرب الموز. أما
حرية الاستثمار فلا تحمل مصلحة للدول الفقيرة؛ لأنه كما يدخل بسهولة يمكن أن
يخرج أيضًا بسهولة مخلفًا الدمار.
وفي المقابل لا تملك الأيدي العاملة الحرية نفسها في الانتقال. إذن! هي
حرية لطرف ضد طرف؛ فإذا وضعنا في الاعتبار أن غالبية المشروعات
الاستثمارية الوافدة لا تستهدف خدمة اقتصاد البلد المضيف بل ربما ذهبت إلى
مجالات قد تضر أكثر مما تنفع كمجال السياحة والفنادق والأعمال الإباحية
وصناعات التجميل وسلع الرفاهية.
د. رفعت العوضي:
اتفاقية تحرير التجارة تحوِّل العالم إلى سوق شاملة واحدة يعمل فيها قانون
واحد هو قانون الأقوى الذي يتاح له كل شيء بهدف تضخم أرباحه بأكبر قدر في
أقصر زمن وإن تضرر من تضرر.
أشير في هذا الصدد إلى أن دراسة تاريخ الاقتصاد للدول المتقدمة الآن كشفت
عن أنها كلها استخدمت الحماية وهي في بداية تقدمها؛ ففرنسا استخدمت قوانين
خاصة لحماية صناعتها الناشئة في مواجهة إنجلترا التي سبقتها إلى الثورة
الصناعية، وألمانيا فعلت الشيء نفسه، والولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن التاسع عشر فعلت ذلك. ولهذا فإن إجبار الدول المتخلفة التي تسعى الآن إلى التقدم إجبارها على فتح أسواقها وعدم حماية صناعتها الناشئة يعتبر أمرًا غريبًا على تجارب النمو.
د. عبد الرحمن يسري:
يؤسفني أن أقول: إن الدول الإسلامية دخلت مرحلة التحرير أعني تحرير
الأسواق وحركة رؤوس الأموال وعولمة للاستثمار دون رصيد، بل وهي محملة
بأعباء الماضي التي تراكمت فيها المديونيات نتيجة لعدم اكتراث الحكومات العلمانية
بالشريعة وتبعيتها للغرب؛ وهنا أشير إلى أن استمرار ارتباط إنتاجنا المحلي
بوصفنا دولاً إسلامية بالسياسات العالمية دون أية ضوابط أو حتى تفهم لاتجاهاتها
ومضامينها قد لا يكون من ورائه كسب على الإطلاق بل ربما خسائر محققة خاصة
إذا احتكمنا إلى معاييرنا الإسلامية الصحيحة.
البيان: وماذا عما يردد من أن الاقتصاد العالمي في طريقه لأن يقاد من خلال
قوى خفية من شأنها أن تنظم السوق العالمي بحياد تام ودون تحيز؟
د. عبد الرحمن يسري:
فلسفة اليد الخفية التي تدير النشاط الاقتصادي وتهيمن عليه هي مسألة فلسفية
غير واقعية وقد وضع أساسها آدم سميث في القرن التاسع عشر ليدل على أن
استخدام الموارد المتاحة والقيام بالإنتاج والاستهلاك لا يستدعي تدخل الدولة، بل
إن هذا التدخل يفسد الأمور. ويريد الآن فلاسفة العولمة في العالم الغربي أن يقولوا
مثل ما قال سميث ولكن على مستوى العالم بأسره، وهذا غير مقبول. إن مثل هذه
المقولة التي ثبت إخفاقها من قبل على مستوى الاقتصاد القومي حينما ظهرت
الاحتكارات وحينما اضطرت الحكومات إلى تقديم برامج للخدمة الاجتماعية أو
للتكافل الاجتماعي سوف تثبت إخفاقها بشكل أكبر على المستوى العالمي. وغير
مقبول أن نصبح ونحن أمة إسلامية جزءًا من العالم ليس لنا إلا التبعية لما يجري
فيه وليس لنا دور التأثير فيه.
إن الحق تبارك وتعالى جعل للإنسان عقلاً وإرادة وتدبيرًا وقدرة على تصحيح
الأخطاء وهو ملزم بذلك، وهذا لا يعني أن الإنسان مطلق الإرادة وإنما هو محكوم
بسنن ربانية؛ وهذه السنن لا تلغي إرادة الإنسان. كذلك فإن سنة نبينا وهدي
القرآن العظيم تجعلنا نقيم أهمية كبيرة لدور الدولة الراعية، ومن ثَمَّ فإن أي مجتمع
إسلامي لا يمكن أن يقبل أو يسلِّم لهذه الفكرة ظنًا بأن الخير قد يأتي في نهاية
الطريق؛ لأن هذا مخالف لعقيدتنا بوصفنا مسلمين.
د. عبد الحميد الغزالي:
كيف لنا أن نقبل بفكرة من هذا النوع في ظل وجود آليات تتدخل وتدير
وتراقب وتتابع وتخطط، هذه الآليات ذات أشكال وملامح مختلفة، ولكنها في
الحقيقة تهدف إلى تكريس العولمة وخدمة أهدافها ومصالحها، وهو ما يعني بالطبع
سيطرة النموذج الغربي!
البيان: إذنْ! فكرةُ حيادية قوى العولمة غيرُ متصوَّرة في ظل المعطيات
الواقعية.
د. عبد الرحمن يسري:
فكرة الحيادية أو سيادة منافسة خالصة بين جميع الأطراف في معاملاتهم
وتحرك عناصر الإنتاج من مكان إلى آخر وفقًا للقدرة على استخدام هذه العناصر
بشكل أكفأ ليست حقيقية؛ فالتجربة التاريخية للنظام الاقتصادي الحر الذي تحكمه
قوى الطلب والعرض في إطار المنافسة الكاملة بعيدًا عن التدخل الحكومي والذي
كان الاعتماد فيه على فلسفة اليد الخفية للمواءمة بين المصالح الفردية والمصلحة
الجماعية على مستوى المجتمع الواحد لم يدم طويلاً وتعرض لهزات أدت إلى
تغيرات هيكلية وأزمات اقتصادية تفشت فيها البطالة.. فإذا كان هذا على مستوى
المجتمع الواحد فهل يمكن أن نثق بتجربة مشابهة تجري على مستوى العالم؟ ولهذا
فعلينا من حيث إننا دول إسلامية أو فقيرة ألاَّ نسلِّم بقضية الانصهار في عالم بلا
حدود بحجة حتمية فلسفية لا أكثر.
حتى وإن سلمنا بحياديتها التامة وبما سنجنيه من مكاسب اقتصادية، فهل
يجوز لنا نبذ سياستنا المستمَدة من شريعتنا.. وخاصة أن الجانب الاقتصادي لا
يمكن فصله عن الجوانب الأخرى؟ وهذا يعني دخولنا بوصفنا مجتمعات إسلامية
في أطر لا نقبلها إطلاقًا لأنفسنا ولنسائنا وأولادنا.
أ. يوسف كمال:
العالم بكل مستوياته يتوجس خيفة من العولمة ولا يتصور حياديتها، أما نحن
المسلمين فربنا يقول لنا: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) والتاريخ يروي لنا عن حروب القرصنة التي شُنَّت على البلاد
الإسلامية في الأندلس، وحروب العصابات التي جاءت لنهب العالم الإسلامي والتي
استمرت حتى اليوم من خلال المعايير المزدوجة بمخالبهم في الشرعية الدولية في
مجلس الأمن والجات والشركات الدولية النشاط.
ولعل أزمة جنوب شرق آسيا تكشف لنا بعض هذه الحيادية؛ فبعد تلك الأزمة قدم
صندوق النقد الدولي لكوريا الجنوبية 80 مليار دولار دون أي شروط في حين
اشترط لتقديم 43 مليار دولار لأندونيسيا مزيدًا من التحرر الاقتصادي من أجل بيع
مؤسساتها بأبخس الأثمان في الوقت الذي انهارت فيه العملة الأندونيسية؛ مع العلم
أن عدد السكان 43 مليوناً في كوريا بينما في أندونيسيا أكثر من 220 مليون.
فالمسألة واضحة سواء من زاوية الواقع أو من زاوية الرؤية القرآنية التي
تعطينا المفاتيح الصحيحة.
د. رفعت العوضي:
في كتاب «المدخل الاستراتيجي للقرن الحادي والعشرين» لبول كينيدي
وهو من أقوى المفكرين المؤثرين في الغرب يقول المؤلف: إذا كنا نريد أن ندخل
القرن الحادي والعشرين فمن خلال نظرية (مالثس) في السكان، وهي نظرية
مؤسسة على أن السكان أكبر من الموارد؛ ولذلك لا بد من التخلص من جزء منهم،
والحروب القائمة في العالم الآن وخاصة في الدول الإسلامية هي إعمال لهذه
النظرية.
العولمة وهي تتبنى نظرية مالثس تفرض صيغة معينة على العالم.. هذه
الصيغة هي نظرية 20: 80 أي: 20 % فقط من سكان العالم هم الذين لهم حق
الملكية والعمل وكذلك العيش، في مقابل 80% يمثل فائضًا بشريًا في دول العالم
الثالث، والحديث عن هذه النظرية جاء في كتاب: (فخ العولمة) وقد ترجم إلى
العربية ونشر في سلسلة عالم المعرفة التي تصدر من الكويت.
د. عبد الحميد الغزالي:
أعتقد أن الصورة الحالية أبشع من هذا، فقد تكون 10: 90 % أو أقل من
عشرة.
10 % دول متقدمة في مقابل 90 % متخلفة أو نامية تأدبًا!!
د. عبد الرحمن يسري:
لا يمكن تصور الحيادية في ظل سيطرة القلة على كل شيء واحتكاره
لصالحهم؛ فهم يدَّعون أنه في ظل تحرير التجارة ستتكافأ الفرص، وأنا أقول: إنها
حتى في ظل ذلك لن تتكافأ لا إنتاجيًا ولا استهلاكيًا؛ ففي ظل توحيد النمط
الاستهلاكي على مستوى العالم هل نتصور أنه سيكون هناك تكافؤ فرص بين
مواطن من سيراليون متوسط دخله السنوي 180 دولارًا ومواطن ياباني متوسط
دخله السنوي 30000 دولار؟
وحتى على المستوى الثقافي فإن تعميم النمط الاستهلاكي العالمي يحمل في
طياته نمطًا أخلاقيًا مغايرًا، وعلى سبيل المثال: فلسفة «السندويتش» أو الوجبات
الخفيفة.. تعني أن الأسرة لا تجتمع على طعام واحد أو مائدة واحدة!
أما على المستوى الإنتاجي ففي ظل احتكار الأموال والمعلومات، وانعدام القدرة
التنافسية والتفاوضية لدى العالم الفقير.. لا يمكن تصور هذه الحيادية!
د. رفعت العوضي:
أود أن أشير أيضًا إلى جانب آخر من عدم الحيادية؛ إذ إن الغرب بما يملكه
من تراكم معلوماتي وجرأة تجريبية وعمل مؤسسي قوي وتبني الشخصيات النابغة
استطاع أن يولِّد ثورة في المعلومات اختص نفسه بها، وزاد من سُعار هذه الثورة
توفر التقنيات الحديثة من كمبيوتر وشبكات اتصالات ومعلومات لديه مع احتفاظه
بأسرارها، كما أنه يملك برامج متكاملة ومتطورة للتعامل مع قاعدة البيانات. إن
احتكار الغرب لهذه الأمور باعتبارها ضمانة أخرى لتفوقه لن يولد الحيادية
بصورتها الوردية كما يزعم منظِّر والعولمة.
د. عبد الرحمن يسري:
يشبِّه بعض الكُتَّاب الثورة العلمية بالجنِّي الذي خرج من القارورة ليخدم سيده، ولكن علينا أن ندرك أن القارورة ما زالت بيد السيد الذي صنعها، أعني بذلك أن العالم الغربي هو وحده الذي يملك أسرار التقنيات ويتحكم في استخداماتها.
وهذا تحدٍّ آخر أمام الفقراء كما أشار الزميل الدكتور رفعت؛ فرغم أن
المعلومات متاح كثير منها عبر شبكة الإنترنت إلا أن الفجوة ما زالت في اتساع بين
عالمين متقدم ومتخلف، هذه الفجوة تمثل في جانب منها تحديًا اقتصاديًا وسياسيًا،
كما تمثل في جانبها الآخر تحديًا ثقافيًا يشكل خطرًَا على الهوية الإسلامية.
البيان: تحدثنا فيما سبق عن العولمة ومفهومها وبعض القضايا الفلسفية
والتطبيقية المتفرعة على ذلك، وتحدثنا كذلك عن القوى التي تمتلكها العولمة في
بسط سيطرتها وهيمنتها على العالم، ولا شك أنها تعتمد مع هذه القوى على آليات
تدعمها وتسعى على خدمتها من خلال أدوار يكمل بعضها بعضًا؛ ولذلك نود تسليط
الضوء على هذه الآليات وما تقوم به في خدمة العولمة.
د. عبد الحميد الغزالي:
هناك آليات عملت واستفادت من القوى التي توفرت للعولمة بل وساعدت هي
على تكريسها، هذه الآليات ذات طبائع مختلفة لكنها متكاملة الأدوار ابتداءًا من
المنظمات الدولية: منظمة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي،
وما يعرف الآن بهيئة برلمانات العالم، هذه المؤسسات فرضت ما يسمى بالبرامج
الإصلاحية وتنظيم حركة الأسواق ومتابعة التشريعات القانونية على مستوى الدول
لضمان التجاوب الأسرع مع سياسات العولمة.
- هناك كذلك منظمة التجارة العالمية التي ورثت الجات عام 1994 والتي
تنظم عمليات انفتاح الأسواق وتحرير التجارة من القيود الحكومية وتتابع ذلك.
- ثم يأتي بعد ذلك المؤتمرات الدولية المتخصصة (ابتداء من مؤتمر الأرض
مؤتمر السكان مؤتمر المرأة.. الخ) لفرض ثقافة العولمة.
- ثم الشركات العملاقة عابرة القارات والتي تعد المستفيد الأكبر والمحرك
القوي للعولمة.
- ثم التكتلات الاقتصادية (أوروبا الموحدة النافتا دول النمور فيما سبق..
وما تبع ذلك من تكتلات أخرى) .
ولهذا أقول: إن الربط بين العولمة وفكرة اليد الخفية بمعنى الحرية بعامة
والاقتصادية بخاصة المراد منه إلغاء المقاومة الذاتية في مواجهة قوى الجذب
الغربية.
أ. يوسف كمال:
هناك آلية أخرى من آليات العولمة وهي المشاريع المطروحة للتطبيق في
منطقة القلب الإسلامي لإذابة إسرائيل في المنطقة أولاً من خلال المشروع الشرق
أوسطي الذي تطرحه الولايات المتحدة والذي بدأ مؤتمراته من الدار البيضاء في
عام 1994 في العام نفسه الذي تشكلت فيه منظمة التجارة العالمية بل وفي الدولة
ذاتها المغرب؛ حيث عقد في مراكش. أما المشروع الثاني فهو الشراكة الأوروبية
المتوسطية وهو المشروع الذي تطرحه أوروبا في مقابلة المشروع الأمريكي، وهو
يهدف لذات الهدف بحيث يتحول الصراع العقدي تدريجيًا إلى تنافس اقتصادي ثم
تكامل تتزعمه إسرائيل بما لديها من تقدم صناعي يموله رأس المال الإسلامي ويمده
بالأيدي العاملة وبالمواد الخام وبأسواق الاستهلاك في الوقت ذاته.. وبالمناسبة فإن
المؤتمر الاقتصادي الشرق أوسطي الخامس يجري الإعداد له هذه الأيام على قدم
وساق.
د. رفعت العوضي:
بالنسبة لاتفاقية تحرير التجارة التي ترعاها الآن منظمة التجارة العالمية
ويساعد في ذلك كل من صندوق النقد والبنك الدولي، هذه الاتفاقية هي في الواقع
أقرب إلى سياسة الفرض منها إلى الاتفاق؛ لأن الدول الإسلامية مرغمة على
التعامل مع صندوق النقد والبنك الدولي كي تتهيأ للدخول في منظمة التجارة العالمية، وهي بذلك أمام قائمة طويلة مما يعرف بالإصلاحات الاقتصادية باتباع سياسات
نقدية ومالية معينة وسياسات سعر الصرف وتخصيص القطاعات الإنتاجية العامة
وفرض أسلوب معين في الإدارة وفق معايير هم يضعونها.
وهنا نلاحظ أن منظمة تحرير التجارة تؤدي الدور نفسه الذي أداه الاحتلال
قديمًا في استغلال موارد الدول الفقيرة لصالح الدول الغنية وفرض التخلف والتبعية
على هذه الدول.
لهذا فإن التحرير لن يؤدي بالضرورة إلى نمو كل من المبادلات وحركة
الاستثمار والتشغيل في كل الدول التي يحلم شعوبها بالرفاهية والرخاء؛ لأنه في
ظل الإنتاج من جانب واحد تفقد الدول الميزة النسبية لخاماتها؛ حيث تبيع الخامات
بأسعار رخيصة ثم تشتري نفس الخامات بعد تصنيعها بأسعار كبيرة جدًا.
د. عبد الحميد الغزالي:
لم تتضمن اتفاقية تحرير التجارة أي إشارة لانتقال الأيدي العاملة مع العلم أننا
دول الفائض، ولكن الدول الغربية لم تشأ النص على حرية انتقال العمالة خوفًا على
الخصوصية الثقافية والسكانية والمصالح الاقتصادية لمجتمعاتها، وحفاظًا على
الوضع الاقتصادي حيث متوسط الدخل هناك 000. 20 دولار سنويًا في مقابل
000، 2 دولار في المتوسط للدول الفقيرة وهذا من شأنه أن يزيد الفجوة
الاقتصادية.
د. عبد الرحمن يسري:
قد ترحب الدول الغربية بشيء من النمو الاقتصادي يتحقق في بعض الدول
كي تضمن أسواقًا لمنتجاتها لكن دون أن يبلغ هذا النمو حد المنافسة الحقيقية، وإذا
ما استشعرت خطرًا على مصالحها سارعت بالانقضاض على تلك التجارب
الناجحة.
ولهذا فإن العالم الغربي دائم الحرص على توسيع الفجوة التقنية ليضمن عدم
اللحاق به؛ وهذا من شأنه أن يضعنا في الجانب الأضعف في أي وضع تفاوضي.
كما أشير إلى أنه ينبغي علينا ألا نُخدع بوصفنا مسلمين بموجة التخصيص المطلقة
التي تأتي على كل شيء؛ لأن هناك على الأقل ملكية مشتركة حددها النبي صلى
الله عليه وسلم بـ «الماء والنار والكلأ» والاجتهادات الحديثة تقول: إن النار
تشمل موارد الطاقة، والماء يشمل جميع الموارد المائية، والكلأ: الموارد الطبيعية
غير المملوكة ملكًا خاصًا لأحد؛ وعليه يجب علينا المحافظة عليها بعيدًا عن
استنزاف الشركات عابرة القارات، ويدخل في هذا أيضًا كل ما من شأنه أن يحافظ
على المصالح العامة للأمة أو للشعوب.
قد يقال إن مجهودات الشركات الأجنبية وما تتملكه من موارد وطنية يمكن أن
يندرج تحت مسمى حق الإحياء، وهذا لا يصح؛ لأن حق الإحياء لأراضينا يكون
للمسلمين وحدهم ولمن عاش معهم من أهل الذمة دون غيرهم، أما حق الإقطاع
مقابل الاستصلاح فينبغي ألاَّ تُملَّك الأرض وإنما تؤجَّر لمدة معلومة مقابل
الاستصلاح إذا دعت إلى ذلك الحاجة.
البيان: وماذا عن الشركات دولية النشاط التي أشار الدكتور عبد الحميد
الغزالي إلى أنها أصبحت إحدى آليات العولمة وأحد أكبر المستفيدين منها في الوقت
ذاته، هذه الشركات بعد أن كانت عابرة الحدود عبرت اليوم حدودًا أخرى من خلال
ما أصبحنا نسمع عنه من ثورة اندماجات عالمية يصعب على المتابع إدراك أبعادها، وبعض المتابعين والمحللين عدها أهم آليات العولمة على الإطلاق؛ لنفاذها إلى
مجالات أكثر تأثيرًا، هذه الشركات نريد أن نلقي الضوء على نشاطها وأهدافها
وسياساتها ومخاطرها.
د. رفعت العوضي:
هناك حركة اندماجات عنيفة جدًا بين الشركات فوق العملاقة؛ والدراسات في
هذا الموضوع مخيفة للغاية؛ فلم يكتف العالم المتقدم بإقامة تكتلات اقتصادية بين
الدول كالاتحاد الأوروبي، والنافتا في أمريكا، فقام بتطوير أشكال التكتل كي
يضمن الهيمنة المطلقة على السوق الدولية.
ومن هنا فإن اندماج الشركات دولية النشاط من شأنه أن يُحْكِمَ السيطرة
السياسية والاقتصادية والعسكرية لصالح قطب واحد.
هذه الشركات تسعى للاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير والانتشار
الجغرافي في توسيع أسواقها، وتخفيض تكلفة الإنتاج والنقل، وإعادة تقسيم العالم
على المستوى الدولي بما يدعم كفاءتها الاقتصادية وفرض سيطرتها على الأسواق.
هذه الشركات أصبحت تتضخم بشكل مفزع من خلال الاندماجات السريعة
والمتلاحقة حيث أصبح العالم أمامها سوقًا واحدة.
على سبيل المثال سوق السيارات يتوقع أن تسيطر عليها أقل من عشر
شركات في العالم في الدول المتقدمة.
سوق البترول سوف تسيطر عليها أقل من خمس شركات.
حتى الشركات غير الوطنية دخلت في عمليات اندماج؛ فشركة كهرباء لندن
اشترت شركة كهرباء نيويورك.
أما مصرفيًا فسوف يسيطر على العالم 26 بنكًا.. ومن ذلك أن اندماج بنكين
في الولايات المتحدة الأمريكية كانت حصيلته رأس مال يقدر بـ 600 مليار دولار، علماً بأن هذه الشركات تدير 70% من تجارة العالم.
وبينما نجد أن شركات الدول الكبرى تتوحد وتكبر فإن العالم كله يتفتت؛ ومن
ثَمَّ فإن الكلام عن عجز الحكومات أمام هذه الشركات في ظل تحرير التجارة أمر لم
يعد جديدًا؛ لأن هذه الشركات أصبحت تمارس ضغوطًا شديدة وتملك صلاحيات في
كثير من البلدان وعلى المستوى الدولي أحيانًا بما يمكنها من تحقيق مآربها وأهداف
الدولة الأم.
د. عبد الرحمن يسري:
الدول العربية والإسلامية لم تنتفع بوجود الشركات الدولية خلال عقدي
السبعينيات والثمانينيات على أراضيها إلا قليلاً، وما يقال حول دور هذه الشركات
في عمليات الإنماء لا تشهد له التجارب ولا الواقع.
فعلى مستوى التقنية الحديثة فإن هذه الشركات تحتفظ بأسرارها للدولة الأم ولا
تصدرها إلا في مجالات محدودة جدًا وهامشية؛ وإذا ما اضطرت إلى نقل فعلي
للتقنيات الحديثة فإنها تسعى جاهدة للاحتفاظ بإدارة أجنبية للنشاط بعيدًا عن الخبرة
المحلية؛ وعلى سبيل المثال فإن فرنسا عندما خرجت من الجزائر قامت بتدمير كل
تقنيات البترول الحديثة التي خلَّفتها.
وفي الإطار نفسه إذا ما اضطرت إلى توسيع نشاطها الإنتاجي من خلال عقود
التراخيص كما فعلت في دول جنوب شرق آسيا فإنها تقصر تلك العقود على حلقة
إنتاجية واحدة حتى لا تتسرب الأسرار التقنية.
وهناك نوع ثالث من العقود التي تلجأ إليها وهي عقود تسليم المفتاح الذي
يكثر تطبيقها في التعامل مع دولنا؛ حيث إن الخبرة المحلية لا تعرف عن التكوين
التقني إلا مجرد الاستخدام دون اطلاع على أسرار أو معرفة كيفية الصيانة ومن ثم
تقوم بإدارة المشروع إما من خلال الخبرة الأجنبية أو من خلال الإرشادات المملاة
كما هو الحال في الأجهزة المنزلية.
وهناك نوع آخر هو نقل الصناعات كثيفة العمالة خفيفة التقنية التي تحتاج
إلى العمالة الرخيصة وهي متوفرة لدينا بالطبع أو المشروعات ذات معدل التلوث
العالي التي تلاحقها منظمات البيئة هناك وتفرض عليها ضرائب باهظة فتلجأ إلى
البلاد الفقيرة التي نحن منها، وذلك هربًا من القيود التي تفرض عليها في بلادها.
وأخيرًا لجأت هذه الشركات إلى تضمين اتفاقية تحرير التجارة بنودًا عن حفظ حقوق
الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وبهذا تحجز هذه التقنيات من المنبع خاصة،
وأكثر الدول قد وقَّعت على هذه الاتفاقية.
أ. يوسف كمال:
لا بد من التنبيه إلى خطر فتح الأبواب على مصاريعها أمام الشركات الدولية
النشاط والاستثمار الأجنبي، فبالإضافة إلى ما ذكره الأخ الدكتور عبد الرحمن
يسري فإن هناك جانباً آخر ربما كان أكثر خطورة وهو جانب الاستثمار؛ لأن هذه
الشركات نادرًا ما تدخل في شكل استثمارات مباشرة (أي طويلة الأجل) ، وإنما
تدخل بما يعرف «بالأموال الطائرة» في استثمارات قصيرة الأجل وسريعة العائد
التي تحقق لها عوائد هائلة دون أن يكون لذلك مردود على التنمية المحلية، بل ربما
يحدث مثلما حدث في دول النمور.
وإن حدث وقدمت استثمارات مباشرة فإنها قبل ذلك تأخذ ما يكفيها من
التسهيلات والضمانات السياسية والاقتصادية التي لا تحظى بها رؤوس الأموال
المحلية، بما يعرقل الاقتصاد المحلي.
أضف إلى هذا أن جُلّ أنشطتها يقتصر على السلع الاستهلاكية ذات العائد
الأسرع نتيجة للنمط الاستهلاكي السائد والذي يشكَّل خصيصًا لأجل هذا الغرض في
بلادنا! ومن هنا فالواضح أن الاعتماد على هذه الشركات في إقامة قاعدة إنتاجية
تنموية في بلادنا أمر مستبعد، وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه الشركات تقوم
بامتصاص الفوائض المالية لدى المستهلكين عن طريق الإغواء والإغراء
الاستهلاكي.
وغالبًا ما تعيد تصدير عوائدها إلى الدولة الأم أو إلى أي مكان يمكن
استثمارها فيه بشكل أفضل، وبهذا تتآكل المدخرات المحلية وتضعف القدرة
الشرائية لدينا مع الوقت.
وفي أحيان أخرى تدخل هذه الشركات شريكاً بالخبرة والإدارة إلى السوق
المحلية، ثم تقوم بتمويل نشاطها من خلال الاقتراض أو الاكتتاب المحلي دون أدنى
مخاطرة بأموالها لفتح أسواق جديدة لها!
ومن ثم يتعين علينا أن نمحِّص المزايا التي يتحدثون عنها، والتي قد يصعب
أن تتحقق للاقتصاد المحلي من جراء فتح الأبواب أمام هذه الشركات للاستثمار في
بلادنا.
البيان: وماذا عن التكتلات الدولية التي أصبحت تنذر بمزيد من التهميش
لعالمنا الإسلامي في ظل العولمة؟
د. رفعت العوضي:
هناك بعض الدول ذات الحجم الكبير التي تُعَدُّ بذاتها كتلة سواءاً بمعيار حجم
الإنتاج القومي أو عدد السكان أو حجم التجارة الخارجية، وهذه الدول بالتحديد هي: الولايات المتحدة والصين والهند واليابان، ومع بروز الصراع الاقتصادي في
ظل العولمة سارعت بعض هذه الدول في الدخول في تكتلات تضمن لها بقاءًا أقوى، فدخلت اليابان في مجموعة الآسيان، وشكلت الولايات المتحدة مع كندا والمكسيك
مجموعة النافتا وهي عبارة عن اتحاد جمركي ذي سياسة واحدة، فيما تسعى
الولايات المتحدة إلى دمج الأمريكتين في منطقة تجارة حرة تمهيدًا لخطوات أخرى
نحو التكتل.
وفي الاتجاه نفسه سارت الدول الأوروبية بعد أن قطعت شوطًا؛ حيث
وصلت إلى مرحلة الوحدة؛ إذ أصبح لها برلمان واحد وعملة واحدة «اليورو»
وسياسة اقتصادية واحدة في مواجهة الدول والتكتلات الأخرى، وعلى غرار هذه
التكتلات قامت تكتلات أخرى في كل من آسيا وإفريقيا؛ ولكنها لا تعتبر تكتلات
بالمعنى المعروف لضعف التنسيق بين دول المجموعة الواحدة، وضعف مستواها
الاقتصادي كذلك.
ولهذا فإن العالم الفقير والذي منه الدول الإسلامية بالطبع سيحاول اللحاق بهذه
التكتلات في أحسن أحواله لضمان الفتات! وإذا تصورنا أن الاقتصاد العالمي عبارة
عن طاولة فإن الذين يملكون الجلوس عليها في ظل العولمة هم الكبار فقط والذين
يملكون زمامها هم الكبار جدًا؛ لأنهم يملكون سياسة واحدة! ومن ثَمَّ فإن الأمر ينذر
بمزيد من ضعف القدرة التنافسية وباتساع أكبر للفجوة الدخلية والفجوة التكنولوجية
وبانخفاض أسعار صرف العملات الإسلامية؛ مما يعني مزيدًا من الاعتماد على
الخارج ومزيدًا من التبعية.