فتاوى أعلام الموقعين
فضيلة العلامة: محمد الأمين الشنقيطي
في هذا العدد نورد جواباً متيناً قائماً على أدلة شرعية مع استدلال عميق
واستنباط دقيق.. إنه جواب الشيخ العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي [1] صاحب
تفسير أضواء البيان رحمه الله تعالى عندما سئل أثناء رحلته إلى الحج إلى بيت الله
الحرام سنة 1367هـ: هل يوجد نص شرعي يدل على وجود دولة لليهود في
آخر الزمان؟ فذكر رحمه الله جواباً غاية في التحرير والتحقيق، فبيّن الشيخ من
خلال نصوص شرعية بعض الأحوال المستقبلية في آخر الزمان، دون جمود
ظاهري، أو تكلف في الاستدلال، أو تحميل للنصوص الشرعية ما لا تحتمله كما
وقع فيه بعض المعاصرين، فإليك ما قاله هذا الإمام رحمه الله:
سألَنا بعضُ طلبة العلم: هل عثرنا على نص من الكتاب أو السنة يُفهَمُ منه
وجود دولة لليهود في آخر الزمن؟
فكان جوابنا: إنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل
بالدلالة المعروفة عند الأصوليين بدلالة الإشارة على وجود دولة لهم في آخر الزمان، أما النص الذي دل على ذلك بدلالة الإشارة فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم
الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم! هذا يهودي
ورائي فاقتله» رواه البخاري بهذا اللفظ، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
وقد أخرج هذا الحديث البخاري في كتاب الجهاد والسير في باب: قتال اليهود.
ومسلم في كتاب «الفتن وأشراط الساعة» في باب: لا تقوم الساعة حتى يمر
الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء. ومثل الحديث المذكور
قوله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلون اليهود فتُسَلَّطون عليهم حتى يختبئ أحدُهم
وراء الحجر فيقول الحجر: يا عبد الله! هذا يهودي ورائي فاقتله» رواه البخاري
ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. أما البخاري فقد أخرجه في (كتاب الجهاد
في باب قتال اليهود) وأما مسلم فقد أخرجه في كتاب الفتن مختصراً. فهذا نص
صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من قتال المسلمين واليهود حتى
تكون عاقبة النصر والظفر للمؤمنين.
والمقاتلة بحسب الوضع اللغوي تقتضي وجود القتال من طائفتين مقتتلتين؛
لأن المفاعلة تقتضي الطرفين وضعاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلون
اليهود» على وجود جنس مقاتل من اليهود.
وذلك إنما يكون من طائفه متحدة الكلمة تحت طاعة أمير يقاتل بهم؛ وذلك هو
معنى دلالة الحديث على وجود دولة لهم في آخر الزمان؛ لأنهم لو كان دائماً عليهم
مضمون قوله تعالى: [وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً] (الأعراف: 168) وكانوا
متفرقين غير مجتمعين أبداً تحت أمير على كلمة واحدة ما صح قتالهم مع المسلمين
الذي نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فإذا حققت ذلك
فاعلم أن دلالة الإشارة في اصطلاح الأصوليين في دلالة اللفظ على معنى ليس
مقصوداً منه بالأصل بل بالتبع؛ لأن ذلك المعنى لازم للمعنى المقصود من اللفظ
كدلالة قوله تعالى: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] (البقرة: 187)
المعنى: بغايةٍ هي تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؛ أعني قوله
تعالى: [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ] (البقرة: 187) الآية على صحة
صوم من أصبح جنباً للزومه للمقصود به من جواز جماعهن ليلة الصيام إلى آخر
جزء منها؛ بحيث لا يبقى بعد ذلك الجزء المجامَع فيه جزء من الليل أصلاً حتى
يغتسل فيه قبل النهار، فلزم جواز إصباحه جنباً وصحة صوم من أصبح جنباً؛
فالمقصود بلفظ النص المذكور إباحة الجماع في ليلة الصيام إلى انتهائها، ولم يقصد
باللفظ صحة صوم من أصبح جنباً إلا أنها لازمة للمقصود باللفظ؛ لأنه إذا جاز له
الجماع في جزء الليل الأخير الذي ليس بعده إلا النهار لزم كونه جنباً في النهار،
فدل بالإشارة على صحة صوم من أصبح جنباً، ومن دلالة الإشارة أخذ علي رضي
الله عنه كون أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً] (الأحقاف: 15) مع قوله تعالى: [وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ] (لقمان: 14) ،
وقوله تعالى: [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ] (البقرة: 233)
لأن ثلاثين شهراً التي هي أمد الحمل والفصال إذا أسقط منها العامان اللذان هما أمد
الفصال بأربعة وعشرين شهراً بقي للحمل ستة أشهر هي باقي الثلاثين، فإذا حققت
ذلك فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود» المقصود
منه أن قتال اليهود والمسلمين واقع لا محالة إلا أن هذا المعنى المقصود بالنص
يلزمه كون اليهود فئة متحدة الكلمة تحت إمارة أمير يقاتل بهم؛ وذلك هو معنى
وجود حكومة منهم في آخر الزمان دل عليها النص بالإشارة.