مجله البيان (صفحة 348)

أدب وتاريخ

علة اهتمام الأمم بلغاتها

حبيب أبو قيس

إن وجود أمة قائمة ذات شخصية متميزة وكيان مستغل، وذات تقاليد وأعراف

وطبائع نفسية وسلوكية مرتبط تمام الارتباط ببقاء لغة هذه الأمة، بل مرتهن بحياة

هذه اللغة أو موتها ومحاذٍ لمستويات ازدهارها وضعفها.

إن الأمة عندما تفقد لغتها الأصلية وتهيمن عليها لغة أخرى غير لغتها فإن ما

يحدث هو أن نجد بعد فترة من الفترات أمة أخرى لها كيانها وخصائصها التي

تختلف عن تلك الأمة الأولى، فكلاهما أمتان مختلفتان وإن كانوا في الأصل نفس

الأمة السابقة في الموطن الجغرافي والسلالة البشرية، وينطبق هذا إلى حد كبير

على أفراد الجيل الذين يطرأ عليهم هذا التغير اللغوي ويعيشون في عصرين

مختلفي اللغة، فهؤلاء وإن كانوا جيلاً واحداً، إلا أنهم يصح القول عنهم: إنهم

كانوا في اللغة الأولى أناساً مختلفين عما هم عليه الآن من غير نسيان لما للبيئة

الأولى ولغتها على وضعهم الجديد من تأثير على أيّ مستوى يكون.

إن اللغة ذات دلالة وسمة للأمة الناطقة بها، بل: (إن لغة الأمة دليل نفسيتها

وصور عقليتها، بل هي أسارير الوجه في كيانها الاجتماعي الحاضر، وفي

تطورها التاريخي الغابر، لأن وراء كل لفظة في المعجم معنى شعرت به الأمة

شعوراً عاماً، دعاها إلى الإعراب عنه بلفظ خاص، فوقع ذلك اللفظ في نفوس

جمهورها موقع الرضى، وكان بذلك من أهل الحياة، وما معجم اللغة إلا مجموعة

من المعاني التي احتاجت الأمة إلى التعبير عنها، فاختارت لكل معنى لفظاً يدل

على الجهة التي نظرت الأمة منها إلى ذلك المعنى عندما سمته باللفظ الذي

اصطلحت عليه، فلغة الأمة تتضمن تاريخ أساليب التفكير عندها من أبسط حالاته

إلى أرقاها، يعلم ذلك البصير في أبنية اللغة وتلازمها ومن له ذوق دقيق في ترتيب

تسلسلها الاشتقاقي) [1] .

وتزداد أهمية اللغة وضوحاً عندما نتكلم عن ما يعرف بصراع اللغات.

الصراع اللغوي:

لا يعني هذا المقال بالحديث المباشر عن صراع اللغات أو أسبابه أو نتائجه،

وحسبنا هنا أن هذا الصراع قائم، وله وجود في لغات الأمم ذات الاحتكاك الكثير

والمباشر بأمة أو ذات لغات أخرى. وتزداد فاعلية هذا الصراع وحدّته عندما تكون

أمة من الأمم لها أطماع في أمة أخرى.

ولا ريب أن الصراع اللغوي ينشأ من تجاور أو معايشة لغتين واحتكاكهما

ببعضهما، وسواء أكانت اللغتان لأمتين مختلفتين أو أمة واحدة، ومعنى هذا أن

الشعوب ذات اللغة الواحدة ولكنها تتخذ لغة أخرى في بعض شئونها الحيوية

كتدريس بعض العلوم وبخاصة العلمية التطبيقية كالطب والهندسة وما إليهما في

المعاهد أو الجامعات كشأن بعض البلاد العربية مثلاً، فهذه الشعوب قد فرضت على

نفسها صراعاً لغوياً كان بإمكانها دفعه لو استخدمت لغتها الأصلية في هذه المعاهد أو

تلك المصالح الحيوية.

ولقد عرف الناس مغبة من أخذ العلم بغير لغة أمته من قديم، وشاعت في

الناس حكمة يرددونها: إن التعليم باللغات الأخرى ينقل بعض الأفراد إلى العلم،

ولكن التعليم باللغة الوطنية ينقل كل العلم إلى الأمة.

وتقع في شراك الصراع اللغوي أيضاً بعض الشعوب التي تفتح الباب لاستقدام

أناس لا يتكلمون لغة من يستقدمونهم ليباشروا كثيراً من الأعمال الحيوية التي تقف

على إحيائها شركات أو مؤسسات تستخدم أعداداً غفيرة من البشر، فهذه الأفواج

البشرية ستفرض صراعاً لغوياً مع لغة من وفدوا إليهم.

ولا ريب أن نزوح العناصر الأجنبية إلى بلد ما -مع هيمنتهم لإدارة مصلحا

هذا البلد مثلاً- مما يحدث هذا الصراع اللغوي كما هو مقرر عند علماء اللغة [2] ،

ولعل الأمة التي استخدمت هذه العناصر التي لا تتكلم لغتها تنجو من الصراع

اللغوي لو استقدمت أناساً يتكلمون بلسانها ولا غرو أن الأمم التي توقع نفسها في

مثل هذا الصراع اللغوى تعرض نفسها لداء خفي وتقع في خطأ يدل على قصر

النظر.

الصراع اللغوي ليس بالأمر اليسر، بل له أبعاده وخطورته العميقة، ولا

يشعر بحقيقة هذه الخطورة عامة الناس، بل ولا كثير من المثقفين، وإنما يفهم ذلك

اللغويون الذين يعون ذلك جيداً، ولذلك فلا غرابة لما نسمعه من أن أبا الأسود

الدؤلي هاله ما رأى من ظهور اللحن في زمانه، لقد شعر جيداً بالأمر فعدّه من

الأهوال، وهو كما رأى -رحمه الله-، حتى أخذ يناشد الولاة ويستحثهم إلى وضع

ما يدفع به ذلك الداء النازل بهم [3] .

إن الصراع اللغوي يحتاج إلى عشرات بل مئات من السنين حتى يتضح أثره

وتتجلى خطورته، إن هذا الصراع هو صراع بقاء ومحاولة هيمنة لإحدى هاتين

اللغتين على الأخرى، وهذه أمثلة يتجلى بها للقارئ آثار الصراع اللغوي ونتائجه

الخطيرة الأثر في حياة الشعوب [4] .

لقد نتج عن غزو الرومان لوسط أوربا وشرقها وجنوبها أن تغلبت لغتهم

اللاتينية على اللغات الأصلية لفرنسا وأسبانيا وايطاليا وغيرها، ذلك مع قلة

الرومان المغيرين على هذه البلاد بالنسبة لسكانها، وفي العصر الحديث عندما

انتشر الغزو الأوربي لأطراف الأرض كوّنت دول أوربا كتلاً بشرية في مناطق

هجرتها، وكثُر أفرادها مع قوة سيطرتها كان من ذلك أن نجم عن استعمار الانجليز

لأمريكا الشمالية واستراليا وبعض نواح في جنوب أفريقيا انتشار اللغة الإنجليزية

في هذه الأرجاء الواسعة. ونجم عن استعمار الأسبان في أمريكا الجنوبية أن كانت

الأسبانية لغة معظم دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وغيرها.

وإذا كان هذا الصراع السابق مرتبطاً بالصراع السياسي، وكانت ظروفه

تختلف عن صراع آخر أقل جرأة ووسائل كتغلب اللغة العربية بفضل انتشار

الإسلام على كثير من لغات الشعوب الآسيوية وعلى لغة الأقباط ولغة البربر في

أفريقيا؛ فإن هذا لا ينكر خطورة الصراع اللغوي الذي قد تحدثه عوامل أخرى غير

سياسية أو حربية.

وإنما قلت عن تغلب العربية: إنه أقل جرأة ووسائل، لأن المسلمين لم

يفرضوا لغتهم ويتشددوا في ذلك في البلاد التي فتحوها، ولم يكن لهم من الوسائل

العسكرية أو العلمية الحديثة ليستخدموا كل ذلك في نشر لغتهم كما حدث في

الاستعمار في العصر الحديث، ولا ننسى أن العربية لما كانت لغة الدين كان ذلك

دافعاً روحياً للشعوب الداخلة في الإسلام أن ترغب في هذه اللغة وتقبل عليها

وتنشرها في بلادها.

والذي ينتج من غلبة لغة على لغة وحلولها محلها أن تذوب شخصية الأمة

صاحبة اللغة المغلوبة تدريجياً في الأمة الغالبة، وتصبح بعد أن كانت لها مقوماتها

وخصائصها وهي على لغتها الأصلية، تصبح مندمجة في أمة أخرى، وقد فقدت ما

كانت تحمله في ذاكرتها من الأفكار والمعتقدات وسائر المعاني المختلفة عما كانت

تراها وتفهمها، وتراها بعد ذلك بمنظار فكر اللغة الأخرى الذي لابد أن يغاير فكر

اللغة الأولى في كثير من المعاني والتصورات.

ويأتي بعد هذه النتيجة أيضاً أن تُقطع الأمة التي استبدلت لغتها عن تراثها

وأصلها، فتنشأ أجيال هذه الأمة المقطوعة فاقدة الهوية، لا تراث ولا انتماء، وهذا

مما ييسر احتواء هذه الأجيال وإذلالها والتحكم في توجيهها.

إن الجيوش العسكرية التي تتخذها الأمم لنشر سيطرتها وبسط سلطانها تسبقها

جيوش لغوية، تحمل هذه الجيوش لغة الأمة الغازية وتبشر بأفكارها وتذيع مبادئها

وترسم شخصيتها، ولقد كانت هذه الجيوش اللغوية عظيمة الأثر في بث فكرها

والدعوة إليه بين القوم الذين وفدت إليهم، فقبل أن تجيء الجيوش العسكرية

استطاعت جيوش اللغة الأجنبية أن تهيء لها أتباعاً وأنصاراً يحملون فكرها

ويدافعون عنه ويدعون إليه فوق فخرهم بهذه اللغة وميلهم إلى أهلها.

إن الحديث بلغة قوم يفضي إلى الميل إليهم والتعايش معهم -إن لم يكن هناك

حصانة فكرية لمن يتحدث بها- ويقوى هذا الميل عندما تكون هذه اللغة لأمة أرقى

وأقوى من لغة من يعيش معهم من أهل لغته. إن أصدق ما أدلل به على هذا الأمر

ما كان من أمر الاستعمار الأوربي الحديث لكثير من أجزاء العالم وبخاصة العالم

العربي، والذي سبق إليه بغزو جيوشه اللغوية في القرن السابع عشر والثامن عشر

الميلاديين [5] .

لقد تركزت هذه الجيوش في المناطق الخصبة لنموها من حيث سعة الانتشار

والأبعاد السياسية، أتت جيوش اللغة إلى مصر والشام على وجه الخصوص في

شكل إرساليات علمية، اتخذت صوراً كثيرة منها المدارس والمعاهد، ومنها

الكنائس والأديرة والمصحات وغيرها.

لم تأت جحافل فرنسا وبريطانيا العسكرية إلا وللغة الفرنسية والإنجليزية في

مصر والشام شأن لا يمكن تجاهله، يتحدث بها كثير من الناس، ولها مناطق

ومصالح لا يمكن العيش فيها إلا بلسانها، ولقد طغى الأمر في بعض الفترات حتى

كان من أفراد الأمة ومثقفيها من يستنكف عن الحديث بلغة بلاده أو التعامل بلهجة

أهله، وينظر إلى لغته وثقافة أمته بازدراء كبير، وسمع من مثقفي الأمة العربية

وعقلائها من صاح ورفع عقيرته في وجه هذه الظاهرة المزرية [6] .

وأصبح من أفراد الأمة من يباهي بالثقافة الفرنسية لأنه يجيد لغتها، وآخرون

ينافحون عن الإنجليزية لأنهم يلوكونها وقد تعلّموا شيئاً من ثقافتها، غدا كل منهم

كأنما هو فرنسي أو إنجليزى وطبعوا حياتهم -في جوانبها المختلفة- بطابع الحياة

الإنجليزية أو الفرنسية، ولا شك أن ذلك يفصح للناس عن أثر اللغة البعيد الذي قد

لا يظن بعضنا أنه يصل إلى نحو من هذا السلوك في حياة الإنسان.

ضرورة زيادة الاهتمام باللغة:

تأتي هذه الزيادة في أهمية اللغة العربية لارتباط هذا اللسان العربي بملة

الحنيفية دين الإسلام، ولا غرو فقد كانت خاتمة رسالات السماء إلى الأرض تفصح

بلسان عربي مبين، وقد كانت هذه الرسالة هي الدين الذي أراد الله سبحانه ظهوره

وهيمنته في الأرض على سائر الملل والأديان الأخرى، بل حذّر الله البشرية من

العبودية بسواه [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ

الخَاسِرِينَ] فكان -كما هو معلوم- أن نزل القرآن بلغة العرب وبعث الله خاتم

رسله وهو عربي الجنس واللسان، وأوحى إليه من وحيه ما هو مماثل للقرآن من

السنّة، وكان من ذلك الأصلان العظيمان لهذا الدين، أعني القرآن الكريم والسنة

النبوية، وكلاهما بلسان العرب ولغتهم، فكان من ذلك الأصل والمرجع والقاعدة

التي يُعَوَّل عليها في فهم هذا الدين في أصوله وأحكامه، وعلم أسراره وجزئياته،

وبخاصة عندما تضطرب المفاهيم وتقع الخلافات في شيء مما يتعلق بعلوم هذا

الدين وأحكامه، فالأصل موجود ولا مجال لبقاء النزاع، [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ

فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ... ] ولا مراء أن بقاء هذا الدين متوقف على بقاء حياة

هذين المصدرين الأساسيين، وذهابه حاصل بفقدهما، ومن هنا يمكن القول:

أ- إنّ أي محاولة للقضاء على اللغة العربية أو النيل منها، على أيّ وجه من

أوجه النيل المتعددة، سواء ما استتر تحت وجه الإصلاح، أو تظاهر بادعاء

التطوير، أو التفجير اللغوي، أو الدعوة إلى العامية كما حدث في عصرنا الحاضر

أو غير ذلك، كل ذلك سيصل في آخر الأمر إلى مس هذين المصدرين، ومن ثمّ

القضاء عليهما أو مسخهما وتحريفهما عن الحقيقة التي جاءا عليها، وهذا هو

القضاء المبرم والهدم الحقيقي لإزالة هذا الدين من الوجود والتخطيط لاقتلاع جذوره

أو قلب حقائقه.

ب- إنّ معرفة حقيقة هذا الدين والإلمام بأصوله وفروعه والوقوف على

أحكامه لاتكون دقيقة وصائبة إلا بالوقوف على أصول هذا الدين في لغتها الأصلية،

والتي جاء بها النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- فكما هو معلوم لأهل اللغة أن

الترجمة لأي عمل إبداعي وحتى غير الإبداعي تنقص وتعجز كثيراً عن الوفاء

الكامل بما يحمله الأصل من دقة في أفكاره وأساليبه وإيماءاته، فكذلك الحالة هنا،

مع العلم أن القرآن لم يترجم إلا معانيه كما يرى ذلك علماء الإسلام، ولا يغيب عن

البال أن هذين المصدرين في الذروة العليا من الفصاحة والبيان، وقمة الإبداع

اللغوي.

ومن هنا، من هذا الإبداع اللغوي العظيم لهذين المصدرين يتضح لنا القصور

العظيم في أي ترجمة لمعانيهما أو لهما إلى لغات أخرى عن الوفاء بدلالات لغتهما

العربية، وذلك، بلا ريب مدعاة إلى تحريف هذين الأصلين أو الوقوع في ذلك

على أقل تقدير، وتحريف الترجمة والفهم هنا هو تحريف لحكم شرعي أو استنباط

فقهي، مما قد لا يكون هو الحكم الشرعي الصائب، أو ما جاءت به الشريعة

المطهرة، وهذا كله من نتائج الترجمة المباشرة لأي من هذين المصدرين.

أما اعتماد هذه الترجمة لهذين الأصلين عند وجودها لتقوم مقام أصلهما ومن ثم

الركون إليها في استنباط أحكام الشرع والاجتهاد في استخراج الأحكام، فهنا تكون

النتائج أشد خطراً وأبعد كثيراً عن مراد الشارع وما جاء به الدين، وبذا يظهر لنا

جلياً ما ذهب إليه علماء الأمة الإسلامية -رحمهم الله- من سداد الرأي وصائب

الحكمة عندما وضعوا شرط الإلمام الواسع والفهم الدقيق للغة العربية من ضمن

الشروط التي لابد من توفرها في المجتهد، والذي قد بلغ درجة عالية في علوم

الشريعة وفهم دقائقها وجزئياتها، حتى يستخرج للمسائل التي لم يقف على جواب

لها ما يهديه اجتهاده إليه [7] .

ولا يذهب الفهم بالقارئ هنا إلى أن المقصود رفض الترجمة أو جهل قدرها

وفائدتها، وما تدعو إليه الضرورة منها، أو أن الإسلام لا يُقبل ممن لا ينطق

اللسان العربي، فهذا لا يعتقده مسلم، ولكن ما أريده هو التذكير ببعض مزالق

الترجمة، وعمق الطعنة التي تصيب الأمة ودينها من جراء ذلك.

وثمة أمر آخر لا يمكن تجاهله حول أهمية اللغة العربية وهو أن تكون العربية

لغة الثقافة الدينية للأمة الإسلامية، فهي بذلك اللسان الذي يصح اجتماعهم عليه،

بعدما اجتمعوا على دين واحد، ولا غرو أن ذيوع اللغة العربية في الأمة الإسلامية

كبير ويبشر بالمزيد، بل إنه كان لسان كثير من الأمم الإسلامية قبل أن تحيق بها

مؤامرات أعداء الإسلام، والتي فرقت بين هذه الأمم في اللغة والثقافة حتى تصل

إلى تفريق دين هذه الأمم، ومتى تحقق انتشار اللسان العربي بدرجة أكبر في الأمة

الإسلامية كان من أعظم العناصر وآكد الدعائم التي تحيا بها الوحدة الإسلامية

وتزدهر، وتتذلل في سبيلها كثير من العقبات والعراقيل التي منيت بها الأمة

الإسلامية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015