في دائرة الضوء
د. محمد يحيى
في محاولة تتبع الجوانب المختلفة للدعوة ودحض ما يروَّج له مما يسمى
بحوار الأديان بين الإسلام والنصرانية على وجه التحديد لا ينبغي إغفال مسألة
السياق العام أو الظروف والأوضاع التي تطرح هذه الدعوة في سياقها أو يراد لها
أن تجري في ظلها، ولعل أبرز ما يشد الانتباه هو ذلك التفاوت الحاد بين السياق
الذي تنشط فيه النصرانية بكنائسها هذه الأيام والسياق الذي يمر به الإسلام وهذا
التفاوت الحاد في الظروف والسياق؛ حيث يكشف عن الجانب المريب أو على
الأقل غير المتكافئ وغير المناسب لهذه الدعوة وهو ما سعيت إلى الكشف عنه من
زوايا أخرى في مقالات سابقة حول الموضوع نفسه.
إن النصرانية العالمية بكنائسها وحركاتها ولا سيما في أمريكا وأوروبا تمر
بحالة من المد تزداد قوة على مدى الأعوام الماضية؛ حيث أخذت تستعيد مكانتها
الفاعلة والمؤثرة في المجتمعات على حساب تراجع أكبر في الأنظمة والمذاهب
والتوجهات العلمانية التي تحكم تلك المجتمعات الغربية أو كانت تحكمها حتى عهد
قريب، وتقترن بهذه القوة المتنامية في المجتمعات الغربية للنصرانية من حيث إنها
دين وعاملُ فعلٍ اجتماعي ثقافي سياسي عمليةُ توسُّع كبرى وطرح للذات على
مستوى العالم كله، ولم تعد هذه الحركة تقتصر على ما يسمى عادة في الكتابات
الإسلامية بالتبشير أو التنصير على الأصح بل إنها تعدَّت ذلك بكثير لتصبح
النصرانية قوة دولية نشطة تسهم في شتى التحركات السياسية تحت شعارات
أبرزها: (السعي للسلام والوفاق) والطروحات الثقافية (قضايا التعاون بين
الثقافات والتقارب والحوار فيما بينها) بل والجهود الاقتصادية تقديم معونات
(التنمية) والخدمات الصحية والتعليمية على نطاق عالمي ... إلخ) ، ولسنا بحاجة
لضرب الأمثلة الكثيرة والمتواترة على هذا الوضع الجديد للنصرانية العالمية الذي
نكتفي بتلخيصه بأنه تحول من حالة انحسار وضعف داخلي إلى وضع القوة الدولية
الفاعلة في مجالات تتجاوز ما اصطلح على وصفه بـ (الديني) لتصل إلى الأبعاد
الكاملة لما يوصف بـ (السياسي) وهي قوة تزداد فاعليتها وأثرها على سياسات بلدانها؛ بل تكاد توجهها.
ويرتبط بذلك وفي السياق نفسه بل ويترابط معه بشكل المسبب للسبب تصاعد
موجة العداء للإسلام في الغرب وهو العداء الذي يحاول بعض اللادينيين في البلدان
الإسلامية التهوين منه بالقول بأنه مجرد رد فعل لممارسات المسلمين (الإرهابية)
أو (الظلامية) . كما يحاول بعضٌ آخر التقليل من خطره بالقول بأنه مجرد بحث
من جانب الغرب عن عدو جديد بعد زوال الشيوعية؛ غير أن شراسة هذا العداء
واستمراريته واتخاذه لأشكال منظمة ومخططة واسعة المدى يدحض تلك الأقاويل بل
الأباطيل، ويكشف عن أن الهجمة الغربية على الإسلام تأتي من مستويات أعمق
من مجرد ردود الأفعال وأن هذا العداء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوضع القوي الذي
أصبح للمسيحية بحركاتها وكنائسها في وضع الاستراتيجيات الكبرى في الغرب
وإدارتها؛ دون أن ننسى بالطبع دور اليهود والصهيونية في صنع هذه العداوات
وتأجيجها وتوجيهها.
والحق أن دعوة الحوار تبدو غريبة بل مثيرة للشكوك عندما تأتي في هذا
السياق الغربي من عداء منظم ضد الإسلام يشمل نطاق الفعل السياسي الغربي (من
وسائل الإعلام إلى الجامعات ومراكز الأبحاث إلى مخططات المعونة الاقتصادية
والفنية إلى النشاطات الثقافية والفكرية إلى الاستراتيجيات العسكرية والأمنية)
وأيضاً من تنامي قوة النصرانية العالمية باعتبارها عنصراً فاعلاً وعلى امتداد نطاق
الفعل نفسه في كل جوانبه على المسرح العالمي، وفي ظل هذا العداء المستحكم من
ناحية والقوة الصاعدة الواثقة للنصرانية الدولية من ناحية أخرى فإن الدعوة إلى ما
يسمى بـ (حوار الأديان) وبالذات مع الإسلام تبدو وكأنها ورقة سياسية ضاغطة
تستخدم لتحقيق أهداف بعينها تخدم هذه القوى والسياسات الغربية أكثر منها دعوة
صادقة أو واضحة للتقارب والتعاون حسب ما يُدعى لها علناً وفي وسائل الإعلام؛
ذلك لأن للسياسات الغربية والكنسية أولوياتها المحددة وثوابتها الكبرى واهتماماتها
الأسمى في هذه المرحلة أولها (جدول أعمال) خاص بها على حسب مصطلح
المؤتمرات.
ولا تمثل دعوة الحوار الديني أياً من هذه المبادئ والأولويات الجوهرية لكنها
مجرد أداة من أدوات تحقيق هذه الأولويات السياسية تستخدم بقدر وبشكل مؤقت
لتحقق ما يُبتغى منها ثم تُنَحَّى جانباً، وليس غريباً أو مما يستبعد أن نحدد أهداف
هذه الأداة في نوع من التحذير للمسلمين أو لفت أنظارهم بعيداً عن المواجهة
المطلوبة أو (التجسس) للتعرف على الكيفية التي يفكرون بها ويتصرفون من
خلالها أو وهذا هو الأهم تعديل مواقفهم وأفكارهم وتحويرها لإبعادها أو إضعافها
عن المواجهة مع الغرب الصليبي وحليفه اليهودي الصهيوني وذلك عن طريق
العلمنة قبل أي شيء آخر.
وتزداد الشكوك المحيطة بدعوة حوار الأديان بين النصرانية والإسلام إذا تبينا
السياق الذي تُروَّج فيه هذه الدعوة على الجانب الإسلامي وهو سياق مقلق على أقل
تقدير، ومرة أخرى لسنا بحاجة إلى اجترار المفردات الأليمة لذلك السياق الذي
يعيش فيه الإسلام والمسلمون داخل بلدانهم؛ ولكن يكفي أن نلخصه في عملية
اجتياح وضرب للمؤسسات الإسلامية والحركات الدينية والأوضاع الاجتماعية
والثقافية والاقتصادية بل والسكانية (تحت ستار تحديد النسل) إلى عملية الإبادة
الفعلية أو (المذابح) الموجهة للمسلمين التي لم تعد تلفت الأنظار لكثرتها، وهذه
العملية تحدث بدرجات وأشكال متفاوتة في شدتها وكيفيتها على امتداد عالم الإسلام،
وتقودها نخب علمانية لا دينية حاكمة أو صاحبة نفوذ قوي على الحكام وصلت
بفضل المساندة الغربية القديمة والمتجددة إلى مقاعد الحكم والتوجيه وصنع القرار
في هيئة دكتاتوريات عسكرية وبوليسية أو حتى حكومات (ديمقراطية ليبرالية) .
والحجج والمسوِّغات، والأسباب التي تساق؛ لهذا الاجتياح معروفة هي الأخرى
لفرط تكرارها، وهي تتراوح بين التحديث، والعصرنة إلى مكافحة التطرف
والإرهاب (الإسلامي) !
وفي هذا السياق الخطير رأينا العجب: رؤساء الوزارات والهيئات التي
أنيطت بها السيطرة على شؤون الإسلام يُعيَّنون من العلمانيين الأقحاح ذوي العقليات
المتغربة؛ بينما المساجد تغلق، والعلماء يُنَحَّوْن عن المنابر ويسجنون، والجمعيات
والهيئات الإسلامية تحاصَر، وأعمال البر والتقوى تحظر.. إلخ.
ويتشابه السياق الإسلامي الذي تطرح فيه دعوة الحوار الديني مع السياق
الغربي أو المسيحي للدعوة من زاويتيه بشكل مذهل. ففيه أيضاً تتحول النصرانية
أو الكنائس المحلية للأقليات النصرانية إلى عناصر قوة تتكامل مع قوة المسيحية
الدولية، وفيه كذلك يسود مناخ العداء المرضي ضد الإسلام في وسائل الإعلام
ودوائر الحكم والسلطة العلمانية وفيه أخيراً يبرز نفوذ اليهودية الصهيونية من وراء
ستار الماسونية وأندية الروتاري والليونيز والإباحية في الفنون وما شابهها.
الإسلام والمسلمون هم العنصر الغائب والمضروب في السياقين المسيحي
الغربي و (الإسلامي) لدعوة الحوار الديني؛ وكأن أعداء الإسلام وخصومه في
النهاية هم الذين يتحاورون مع بعضهم بعد أن قسَّموا أنفسهم إلى فريقين: أحدهما
مسيحي أصيل واثق من نفسه حر مستقل يتمتع بالمستوى المطلوب من الكفاءة
الفكرية والسياسية والحوارية والآخر (الإسلامي) يمثله موظفون يأتمرون بأمر
النخب العلمانية الحاكمة ولا يتمتعون بأي حرية أو استقلال أو كفاءة أو غيرة على
الإسلام.
سياق دعوة الحوار الديني إذن أو الظروف والأوضاع التي تجري فيها أو
يراد لها أن تجري فيها يبعث على التأمل بل يثير الشك والريب، وهو سياق يبلغ
فيه التفاوت الحاد والتناقض البين حد إلغاء فكرة الحوار بين طرفين متكافئين من
أساسها لتحل محلها حقيقة أن النصرانية العالمية في وضعها المسيطر تخترع مع
الاستراتيجية الغربية المعادية للإسلام خدمة لهيمنتها أداة أسموها بالحوار يبتغون
فيها تحقيق أهدافهم الخاصة وحدها و (يحاورون) فيها طرفاًَ أسموه
بـ (الإسلامي) وما هو في الحقيقة بممثل للإسلام؛ لأن الإسلام وممثليه الحقيقيين غائبون ومغيبون ويعانون من سياق مضاد من الضعف والضغط والهجوم يكاد يلغيهم من الوجود.
حوار الأديان مرة أخرى:
لا تفتأ الدعوة إلى ما يسمى بحوار الأديان بين الإسلام والنصرانية، تتكرر
من مصادر عديدة أكثرها هذه الأيام: بعض ممن يسمون بالشخصيات الدينية
الرسمية في بلدان تخضع فيها المؤسسات الإسلامية للتوجيه المباشر من الجهات
السياسية بل والأمنية، وقد كتب صاحب هذا القلم في الماضي على صفحات هذه
المجلة حول جوانب من هذه الدعوة التي تحتمل مع ذلك المزيد من التناول لتشعُّب
نواحيها، ولعل أحد أبرز هذه الجوانب هو تصور الأطراف لأهداف هذا الحوار
ومراميه الذي يقصد به عادة الإسلامي النصراني رغم وجود مذاهب ومعتقدات
أخرى يعتنقها الملايين وتتصل بهم مصالح وحياة الكثير من المسلمين ولا سيما في
بلدان آسيا، والواقع أن اقتصار دعوة الحوار الديني على الحديث مع الكنائس
المسيحية وبالذات الغربية منها يكشف عن جوهر الدعوة ومقصدها الأول ألا وهو
التقرب للغرب والانضواء تحت لوائه وتكريس التبعية له. ويجلِّي هذا المقصد أن
نعود إلى مسألة تصور هذا الحوار والداعين إليه وأهداف الداخلين فيه.
على الجانب الإسلامي نلاحظ أول ما نلاحظ غيبة مثل هذا التصور الواضح؛
فدعاة الحوار من الموظفين الرسميين المكلفين بذلك يكتفون بالحديث عن الحوار مع
النصرانية وتحبيذه وكأنه هو الخير الأسمى للمسلمين في هذا العصر، وهم لا
يوضِّحون لنا لماذا يعد هذا الحوار أمراً جيداً ومرغوباً فيه؟ كما لو كان مجرد طرح
كلمة (الحوار) يغني عن أي بيان لطبيعة هذا الحوار وسياقه وأهدافه ومضمونه.
والأخطر من ذلك الغموض المحير؛ إذ إن بعض هؤلاء عندما يفكر في اختراع
تصور للحوار يخرج علينا بمفاهيم سقيمة ومتردية؛ ففي الآونة الأخيرة خرج
بعض من هؤلاء في مصر يقولون: إن الحوار مع النصرانية الغربية مطلوب
لتحسين صورة الإسلام في عين الغرب بعد أن شوهتها ممارسات المسلمين
الموصوفين بالأصولية (وليس كيد الإعلام الغربي) ! وهكذا فتصور هؤلاء
المسؤولين أو الرموز الإسلامية المعنية عن هذا الحوار الذي يطنطنون به هو
تصور دفاعي اعتذاري تسويغي وكأنهم منذ البداية يحددون صورة الحوار في هيئة
المواجهة بين الادعاء والمتهم وبين جهة الاتهام واللص المقبوض عليه متلبساً؛
فالكنائس وقساوستها تجلس من ناحية تطرح التهم والشبهات ويجلس (ممثلو)
الإسلام من الناحية الأخرى (وهم ليسوا في الواقع ممثليه الحقيقيين أو الغيورين)
جلسة المحرَج والمعتذر الذي يحاول أن يرد على هذه الاتهامات بأي شكل حتى لو
تعسف في ذلك إلى درجة التنازل عن ثوابت العقيدة والشريعة الإسلامية.
ومثل هذا التصور (للحوار) ينسف فكرة الحوار ذاتها منذ البداية ويلغي أي
نِدِّيَّة وتكافؤ وتوازن بين الأطراف الداخلة فيه، فليس بين وكيل النيابة والمتهم
حوار بل هناك استجواب ومساءلة بغرض الإيقاع بالمتهم والحصول على اعترافه
بارتكاب الجرم، ولا يهم بعد ذلك إن قدم الأعذار والتسويغات لجريمته، بل المهم
أن يدان. بينما يجلس المدعي (الطرف النصراني) مجلس المتفوق وهو المكان
الذي ينبغي أن يتبوَّأه الضحية الذي عانى من إجرام الطرف المواجه وتعصبه
وعدوانيته، بل ليس هذا حواراً وإنما هو أشبه بالتأنيب والتلقين من جانب الأستاذ
للتلميذ الخائب الفاشل.
وفي كل الأحوال وبصرف النظر عن التشبيهات والكنايات فإن العلاقة التي
تنشأ وفق تصور هذا (الطرف الإسلامي) المزعوم نفسه ليست علاقة (حوار) بين
أنداد متكافئين بل هي علاقة خضوع واستسلام من طرف لآخر، وفي أحيان أخرى
يلجأ هؤلاء الممثلون للطرف الإسلامي إلى طرح تصور بديل لهذا (الحوار) في
محاولة لتغطية تخبط مفاهيمهم أو لحجب الطبيعة الحقيقية للعملية المطلوبة تحت
مسمى الحوار؛ فهم يدَّعون أن الحوار مع المسيحية مطلوب في سبيل دعم السلام
العالمي ودفع جهود التنمية وتحقيق الرخاء للشعوب ... إلخ، وهذه كلها دعاوى
سخيفة لا محل لها من الاعتبار؛ فالداخلون في الحوار هم هيئات وجهات دينية لا
علاقة لها بالاقتصاد الدولي ولا بمجريات السياسة الدولية وإن كانت الكنائس تمثل
أحد المؤثرات المهمة في صنع السياسات العالمية لبلدانها وللكتلة الغربية عموماً.
ثم كيف يخدم السلام العالمي والتنمية الدولية إذا كانت الكنائس تنغمس في عمليات
التنصير الواسعة حتى بين المسلمين، وحتى وهم يجلسون على مقاعد الحوار
المزعوم، بل وما هو دور ممثلي الطرف الإسلامي في السلام والتنمية العالمية
والكل يعلم (وهم قد يصرحون بذلك في مناسبات) بأنهم مجرد موظفين تابعين لدولهم
وليس لهم صلاحيات أوسع من مجرد الحديث باسم رؤسائهم ووفق التكليفات المحددة
والمحدودة التي تصدر لهم؟
التصور عن الحوار إذن غير موجود على الجانب الإسلامي؛ بل والأسوأ من
ذلك أنه قد يكون موجوداً ولكن في شكل متهافت وخطير؛ لأنه ينم عن حقيقة أن
المطلوب ليس حواراً كما يفهم ويعرف ويمارسه الناس؛ بل شيء آخر هو أقرب
إلى الإذعان لما يريده الطرف النصراني من هذه اللقاءات والتمشي مع أهداف هذا
الطرف الآخر، وعلى الجانب المسيحي في المقابل نجد أهدافاً وتصورات واضحة
ومحددة لما يريدونه من هذا (الحوار) وهم قد يتحدثون على سبيل المجاملة
السطحية والعابرة عن خدعة المحبة والمودة والتفاهم بين أصحاب الدينين؛ لكنهم
يأتون إلى اللقاءات بمجموعة من التصورات لا تخطئها عين المراقب، ولعل أبرز
هذه التصورات هو الحصول من الجانب الذي يفترض أنه يمثل الإسلام على
اعتراف وتقبُّل بصحة ما تمثله الكنائس من عقائد ودعاوى، وندِّيته وتميُّزه، وهو
اعتراف ثمين للغاية في إطار سياسات الكنائس وأوضاعها داخل بلدانها وخارجها،
فهو من ناحيةٍ ورقة مهمة للغاية تطرح أمام جموع المسلمين في البلدان المستهدفة
بالجهود التنصيرية؛ حيث يقال لهم: إن (مشايخ الإسلام) في بلاد القلب الإسلامي
يجلسون مع أرباب الكنائس يتعاونون ويتباسطون و (يتقاربون) مع المفاهيم
النصرانية ولذلك فلا حاجة للتوجس من جهود البعثات التبشيرية أو الابتعاد عن
ممثليها؛ بل لا بد أيضاً من التواصل معهم وهو ما يفتح آفاقاً أوسع أمام العملية
التنصيرية لا سيما في بلدان آسيا وإفريقيا.
ومن الناحية الأخرى والأكثر أهمية فإن الكنائس تستغل هذا الحوار لتعزيز
مكانتها داخل بلدانها؛ حيث تخاطب الجمهور العريض ودوائر الحكم والنفوذ ورجال
الأعمال والثراء بأنها تقوم بدور خطير في التعرف على (العدو الإسلامي المحتمل)
وجس نبضه وكف عدوانيته وشراسته وتعديل مفاهيمه (الأصولية) مما يستدعي
توجيه الدعم المادي والمعنوي لها واعتبارها من الأدوات الفعالة للسياسة الغربية
عموماً تجاه العالم الإسلامي وهي السياسة التي أصبحت تركز الآن على عالم
الإسلام واعتباره هدفاً رئيساً بعد انهيار الكتلة الشيوعية. ومن الناحية الثالثة تسعى
الكنائس من خلال الحوار مع أطراف يدعى لها تمثيل الإسلام كما أنها لا تتسم بأي
عمق أو جدارة فكرية إلى أن تتوصل وبواسطة طرح سيل من الاتهامات إلى تعديلٍ
وعلمنةٍ وتغريبٍ للكثير من المفاهيم والتصورات الإسلامية الشرعية تحت ستار
التحديث والعصرية والاجتهاد الملائم للواقع وما شابه ذلك؛ حيث يتبارى (ممثلو
الإسلام) في تقديم هذه (التنازلات) أو المواجهات في مجالات معروفة كالجهاد
وأوضاع المرأة والأقليات غير المسلمة والتعامل مع الغرب والأخلاق
والقيم.... إلخ، وذلك في سبيل السعي المحموم لنفي التهم التي يطرحها الطرف النصراني في الحوار ودحضها.
والخلاصة هي أن التصورات الموجودة حول الحوار الديني عند الطرفين
الإسلامي والنصراني (وبصرف النظر عن الجوانب الأخرى لهذا الحوار مثل
مصداقية ممثلي الأطراف أو السياق الذي يجري فيه أو الأهداف المتحققة لكل
طرف) لا تبعث على الثقة؛ بل تثير أشد المخاوف؛ لأنها لا تدل على (حوار)
يجري بين أنداد متكافئين يملكون رؤية واضحة حول ما يريدون؛ بل تشير إلى أن
طرفاً واحداً فقط هو الذي يمتلك مثل هذه الرؤية الواضحة والهدف المحدد بينما
يضطر الطرف الآخر بسبب افتقاده إليها إلى مجاراة الجانب النصراني مجاراة ذليلة
تابعة يدور في فلك أهداف الآخر ونواياه ويضر بمصالح الإسلام وأوضاعه من
خلال تمييع مفاهيمه وعقيدته وإضعاف هويته وتميزه وتحويله إلى تابع يسير وراء
النظام الغربي العالمي الجديد كما سارت الدول والأنظمة والسياسات.