المسلمون والعالم
زيارة بابا الفاتيكان:
خطوات جديدة على طريق الاختراق
عبد العزيز كامل
رغم الضجيج العالمي الذي سبق زيارة (بابا) الفاتيكان إلى منطقة الشرق
الأوسط وما صاحبها، وبرغم الأضواء المبهرة التي سلطت عليها إعلامياً، إلا أن
ذلك لم يكشف بشكل كامل عن أبعاد تلك الزيارة؛ فقد صورها الإعلام الدولي على
أنها إحدى مظاهر الاحتفال العالمي بـ (اليوبيل) الألفي لميلاد المسيح عليه السلام.
أما الإعلام العربي في غالبه فقد صور الزيارة بصورة مقطوعة عما قبلها وما بعدها، ومارس عملية تضليل كبرى في إخفاء معانيها ومراميها البعيدة، وشاركت
أضواؤه الخدَّاعة في خطف الأبصار عن إدراك الحقائق على ما هي عليها، إمعاناً
في المزيد من إطالة الغيبوبة المتواصلة للوعي العربي، والتي بدأت منذ إدخاله
غرفة الـ (إن عاش) العلمانية الجاهلية الرديئة.
لقد أصر ذلك الإعلام على أن يفجعنا في عقيدتنا وفي ثوابتنا، بل وفي أذواقنا
ومشاعرنا عندما استعلن بإظهار شعائر الوثنية، ومظاهر الشرك ليذيعها على
الملايين من المسلمين، وعلى الهواء مباشرة، لا ليطلعوا على رداءة الكفر وأهله،
ولكن لتزيينه وتزويقه بكلمات النفاق وشهادات الزور على ألسنة المعلقين والمحللين
المكتوبة والمسموعة، وقد أطْلَعَنا هذا الإعلام على ما لا تشتهي الأنفس وما لا تلذ
الآذان والأعين، فسمعنا من الذين أوتوا الكتاب ومن الذي أشركوا أذىً كثيراً،
وأصاب القذى أعيننا والأسى قلوبنا ونحن نرى حامل الوثن يُعظَّم وتعد خطواته
وكلماته وهو يرفع ذلك الوثن المتخذ على شكل الصليب وقد عُلِّق به تمثال عيسى
عليه السلام الذي اتخذوه إلهاً. ومما زاد في الفجيعة أن ذلك الاحتفاء بالشرك الأكبر
والجُرم الأعظم لم يكن في ديار بطرس أو مرقس أو قسطنطين، وإنما كان على
أراضي الأنبياء التي أرادها الله خالصة للتوحيد، واستحفظها أمة خاتم الأنبياء
ليطهروها ويعمروها. لقد شاهدنا غلاظ الأكباد من بني جلدتنا وهم يروِّجون في تلك
الأيام المعدودات لتجارة الشرك المسماة بـ (التبشير) .
ونسجل هنا شهادة وقد جعل الله تعالى أمتنا شاهدة على الناس أن ما يسمى
باحتفالات (ميلاد الرب) لم تلقَ نجاحاً في أي مكان على ظهر الأرض مثلما وجدته
على أرض الإسلام وفي بلاد العرب، ولم يلق حامل وثن (الإله المصلوب) ترحيباً
ولا تبجيلاً ولا تكريماً في تلك الاحتفالات مثل ما لقيه من المتحدثين باسم المسلمين،
فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله نشكو غربتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس.
لقد كادت الجوقة العربية المشاركة في شركيات الاحتفال أن تلهينا بتناقضاتها
المتنافرة ومواقفها المتخاذلة عن تتبع التفاعلات الحقيقية للحدث، حتى نضعه في
سياقه ونسلكه في نظامه ضمن سلسلة التطورات الحادة التي تمر بها قضايا أمتنا
فيما يسمى بمشكلة الشرق الأوسط.
وقد سبق أن تناولنا على صفحات البيان الغراء مع القارئ الكريم قضايا عديدة
ذات اتصال بالعلاقة المريبة والغريبة القائمة اليوم بشكل مستقر بين اليهود
المعاصرين والنصارى البروتستانت في كل من إنجلترا وأمريكا، وكانت المناسبة
في ذلك ما تم تناوله على صفحات المجلة في حلقات (حمى سنة 2000) وقد ظهر
من خلال المادة المعروضة فيها أن العلاقة بين هؤلاء وأولئك قد استقرت على شكل
وفاق واتفاق جعل قوى البروتستانت في أمريكا دابة مطيعة ذلول يركبها (شعب الله
المختار) سواء كانت هذه الدابة هي الفيل الجمهوري أو الحمار الديمقراطي [1] .
والآن أجد في أخبار زيارة كبير الأحبار مناسبة لإلقاء الضوء على علاقة
جديدة لا تزال العناكب السامة تنسج خيوطها بين اليهود وبين الطائفة الأكبر عددياً
والأخطر تاريخياً من أمة النصارى وهم (الكاثوليك) [2] ، وحتى لا نقفز فوق
المقدمات إلى النتائج باستعراض آثار تلك الزيارة المشبوهة فإني أجد من المهم أولاً
أن نلقي ضوءاً على بعض الخلفيات التي كانت تحكم العلاقة بين العدوين التاريخيين: اليهود والكاثوليك، حتى عصر قريب جداً.
الإصلاح الديني على الطريقة الكاثوليكية:
شاع إطلاق وصف (الإصلاح الديني) على التغيير الذي أدخله البروتستانت
على الديانة الكاثوليكية في القرن السادس عشر للميلاد على يد (مارتن لوثر) وقد
انشطرت النصرانية بعد ذلك التغيير إلى شطرين فيما يتصل بالموقف من اليهود
واليهودية: شطر أبقى على عقائد النصرانية المعادية لليهود وهم الكاثوليك
والأرثوذكس وشطر أقبل على إجراء تغيير جذري في (تصحيح) العلاقة مع اليهود
وهم (البروتستانت) الذين طوروا تلك العلاقة بعد ذلك، فاحتضنوا اليهود وأيدوهم
وأمدوهم بكل أسباب العون والمساعدة حتى قامت دولتهم وقويت شوكتهم في القرن
الأخير؛ ولكن البروتستانت رغم تقاربهم الشديد من اليهود إلى حد قريب من التهوُّد، لا يمثلون سوى نسبة السدس من مجموع النصارى في العالم، وكذلك الأرثوذكس؛ بينما يمثل نصارى الكاثوليك القسم الأكبر من أمة النصارى؛ إذ يبلغ رعايا
الكنيسة الكاثوليكية وحدهم ملياراً ونيفاً من (الضالين) الذين اتخذوا حيال (المغضوب
عليهم) موقفاً عدائياً دينياً ينطلق من صلب العقيدة الصليبية.
فالعداء لليهود كان جزءاً أساسياً من عقيدة النصارى الكاثوليك الذين يعظمون
الصليب، وما كان للصليب أن يتخذ شعاراً لتلك الديانة، لولا اتهام النصارى لليهود
بأنهم هم الذين تسببوا في صلب المسيح عليه السلام حتى قتل كما يزعمون ولهذا
ظلت النصرانية الكاثوليكية على موقفها العدائي الديني من اليهود حتى وقت قريب
مما دعا أحد مفكريها المعاصرين أن يقول: (إن القوى ذاتها التي (صلبت) المسيح
طيلة 1900 سنة تسعى اليوم إلى صلب كنيسته. لقد فُرِضَ على المسيحية في
عصرنا الراهن نضال عظيم نهايته ستحدد مصير المسيحية: حياةً أو موتاً) [3] .
ونحن الآن في ضوء التطور الأخير بين الديانتين نحاول أن نراقب (مصير
المسيحية الكاثوليكية حياةً أو موتاً) مع قرب نهاية عمر أكثر باباوات الكاثوليكية
غموضاً (يوحنا بولس الثاني) . إن هذا الرجل الذي يقود دينياً ما يقرب من ربع
سكان العالم يتربع على عرش صغير لدولة هي الأصغر في العالم من حيث المساحة
والعدد، ولكن لهذا العرش حصانة غير مسبوقة؛ فمنصب (بابا الفاتيكان) هو
المنصب الديني الوحيد في العالم الذي لا يخضع لنفوذ جهة أعلى منه، سواء كانت
دولة أو حلفاً أو منظومة عالمية، وهو فوق ذلك لا يخضع لأي سلطة في تعيينه أو
خلعه من خارج الدائرة الفاتيكانية، وقد أحكم وثاق هذه الحصانة أو بالأحرى شدِّد
خناقها على النصارى الكاثوليك بالقرار القديم للمجمع المسكوني في روما عام
1896م باعتبار صاحب منصب البابوية إنساناً معصوماً، وهو ما يعني أن مواقف
البابا الكاثوليكي هي في مرتبة الوحي المنزل من السماء في اعتقاد أتباعه. ولقد
أضفى (يوسف فوجتيلا) [4] أو (جون بول) أو (يوحنا بولس) الثاني بشخصيته
الرمادية أبعاداً أخرى من الإثارة والغموض على ذلك المنصب، فهو أول (بابا)
يرأس البابوية الرومية من خارج روما. وتاريخه القديم مليء بعلامات الاستفهام
وخاصة علاقاته اليهودية الخاصة.
إن هذا الرجل الذي يرتدي مسوح المسكنة، ويتقنع بلباس السكون يحمل بين
جوانحه نفساً بعيدة الأغوار، سحيقة الأسرار؛ فقد قطعت الكاثوليكية في عهده
أوسع خطاها وأسرعها نحو التقارب مع اليهود؛ ولا ندري على وجه التحديد إن
كان الرجل بدوره يحتل موقع الفاعل أم المفعول؛ فمنذ أن تولى منصبه في عام
1978م وهو يسير وئيداً نحو واقع جديد لتقريب الشُّقة بين بوابتي هيكل
بطرس [5] وهيكل سليمان.
وقبل أن أشرع في عرض أو سرد التسلسل في خطوات الشيطان نحو ذلك
الوفاق النكد؛ أحب أن أشير إلى أحد أدوار هذا (البابا) على الساحة الدولية؛ لأدلل
بها على أنه ليس شخصية هامشية في المجريات العالمية.
معاول الصمت:
يوحنا بولس الثاني، مولود في بولندا، وقد اجتاحت النازية بلاده، مما تسبب
في اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومثلما قامت الحرب باجتياح (هتلر) لبولندا فقد
انتهت بدخول الجيش الأحمر إليها مخترقاً شرق أوروبا، وأقامت روسيا نظاماً
شيوعياً في بولندا كان ركيزة للحلف الشيوعي الدولي المعروف بحلف (وارسو)
وليستمر بعد ذلك الوجود الشيوعي في بولندا طيلة 35 عاماً، ولأن الرجل لم يكن
دوره المرسوم أن يبقى محبوساً في (قمقم) الرهبنة والانعزال عن السياسة كما هو
مشاع عن دور الكنيسة فقد تهيأت أمامه فرصة لإثبات أن الدين ولو كان باطلاً لا
يزال عامل دفع وتحفيز للشعوب؛ نصرةً للحق أو ثأراً بالباطل.
كانت بولندا منطقة التماسِّ بين المعسكرين العالميين قبل انتهاء الحرب الباردة، وكان لنشاط المخابرات الأمريكية فيها دور ملموس لتحسس أخبار الند الشيوعي
عن قرب، وقد أثمر هذا النشاط إبراز الشخصية التلفزيونية اللامعة (ليخ فاونسا)
زعيم نقابة التضامن البولندية ذلك الزعيم الذي دفعته إلى مقدمة الأحداث في بولندا
ومقدمة الأخبار في العالم (كلمة) من كلمات بابا الفاتيكان.
لقد أوقد ذلك (البابا) في هدوء عود ثقاب على أرض بولندا؛ سرعان ما أشعل
نيران ثورة عارمة في أنحائها ضد الحكم الشيوعي، وكانت البداية زيارة قام بها
إلى هناك بعد سبعة أشهر فقط من تسلُّم منصب البابوية، وعندما هبط من الطائرة
في يوم من أيام يونيو عام 1979م، انكب كعادته الطقسية على الأرض ليقبلها أمام
(الكاميرات) العالمية، فُدقَّت لذلك أجراس الكنائس في كل دول أوروبا الشرقية،
ودبت روح من اليقظة الدينية في أوصالها، بدأت في بولندا ثم انتشرت حولها،
وأثناء الزيارة أقام يوحنا (قُدَّاساً) أمام نحو 300 ألف بولندي كاثوليكي، ألقى فيه
خطبة تخللتها الكلمة التي كان لها ما بعدها، لقد قال أمام الحشود: (لا يمكن
استبعاد السيد المسيح من تاريخ البشرية في أي بقعة من العالم، من أي خط عرض
أو طول، أو شمال أو جنوب، إن استبعاد المسيح خطيئة في حق البشرية) ! وبعد
أن انتهى من خطبته دوَّى التصفيق بشكل متواصل مدة عشر دقائق كاملة، وسط
ترديد الحضور لأهازيج منظمة يقولون فيها منشدين: (المسيح سينتصر.. المسيح
سيملك.. المسيح سيحكم) ثم انفضَّت الجموع حاملة في نفوسها مشاعل الثورة التي
قادها حركياً (فاونسا) ونظم لها روحياً ومعنوياً يوحنا بولس الثاني، وقد انتبه لهذا
التطور في وقت مبكر الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريجان) الذي شاهد
(القدَّاس) من خلال وسائل الإعلام، وعلق وقتها على ما شاهده قائلاً: (إن تحولاً
هائلاً يُنتظر أن يحدث في العالم الشيوعي، وإن هذا القداس في قلب وارسو ما هو
إلا نقطة البداية) وهذا ما كان بالفعل؛ فقد اشتعلت الثورة في أنحاء بولندا إلى أن
انتهت بسقوط الحكم الشيوعي فيها، ثم تساقطت الأنظمة الشيوعية بعد ذلك في دول
أوروبا الشرقية طيلة عقد الثمانينيات حتى انتهت بتفكك المنظومة الشيوعية بعد
سقوط سور برلين في آخر الثمانينيات، ثم أعقبه تفكك الاتحاد السوفييتي في أوائل
التسعينيات، وقد اعترف آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي (ميخائيل جورباتشوف)
بخطورة الدور الذي لعبه بابا الفاتيكان فقال: (يمكن للمرء أن يقول إن ما حدث في
أوروبا الشرقية في السنوات الأخيرة، كان مستحيلاً لولا الدور الذي قام به البابا،
والمجهود الهائل الذي أداه من خلال الدور السياسي الذي لعبه على الساحة
العالمية) [6] .
هذا إذن هو (البابا) وهذه كلماته وهذه خطواته وهذه مخططاته التي لا ندري
والحق يقال: هل هي لحساب كنيسته أم لحساب الذين رفعوه لرئاستها بعد الوفاة
المفاجئة لسلفه يوحنا بولس الأول الذي مات في ظروف غامضة بعد شهر وثلاثة
أيام من تولي منصبه.
الكاثوليكية واليهودية.. من يخترق الآخر؟
لو لم تكن عمليات شد الحبال ومحاولات الاختراق المتبادل بين اليهود
والنصارى (بروتستانت وكاثوليك) تجري على أرضنا الإسلامية، لما ألقينا لها
بالاً، ولا أرعينا لها سمعاً، ولكن لما كانت تلك الصراعات الدينية تتخذ من أرض الإسلام ميداناً في جزء من أقدس بقاعه؛ فإن المسألة يصير لها شأن آخر.
إن الصراع القديم بين الكاثوليكية واليهودية قد تواصل حتى العصر الحديث؛
فعندما ظهرت الحركة الصهيونية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد على
يد (تيودور هرتزل) ، اتخذت الكنيسة الكاثوليكية موقفاً مناقضاً ومناهضاً لتلك
الحركة، برغم حرص الصهيونية العالمية وقتها على كسب كنيسة روما لجانبها في
مشاريعها المستقبلية في المنطقة، أو تحييدها على الأقل.
ولكن الكاثوليك ظلوا على موقفهم المعادي لليهود ما داموا باقين على عداوة
المسيح وعدم الاعتراف به، وعندما جمع لقاءٌ بين هرتزل وبابا الفاتيكان في
زمنه، رفض ذلك البابا وهو (بيوس العاشر) التماس اليهود بالتجاوب مع المطالب الصهيونية باستيطان أرض فلسطين، بل إن (البابا) اشترط على هرتزل صراحة في ذلك اللقاء الذي تم في 25/1/1904م، أن يتنصر اليهود أولاً قبل الحديث في أي موضوع يتعلق بالعودة إلى الأرض المقدسة وقال له: (إن بقاءكم على انتظار مسيح غير يسوع يجعلكم باعتقادكم هذا منكرين ألوهية يسوع، ولا يمكننا حينئذ مساعدتكم) [7] .
وقد وجد اليهود الصدر الرحب والأذرع المفتوحة لدى النصارى البروتستانت
الذين ساروا معهم على طريق العودة من بدايته، حتى أوصلوهم إلى عتبة الدار،
بعد أن بنوها وهيؤوها لهم عبر عقود الانتداب الثلاثة؛ كل ذلك والكاثوليك
يرفضون مجرد الاعتراف بهذا الواقع الجديد؛ فعندما صدر وعد بلفور سنة 1917م
على لسان الملكة البريطانية رفضته البابوية الكاثوليكية ولم تعترف به، وعندما
أعلنت الدولة في سنة 1948م لم تعترف البابوية الكاثوليكية بها، وعندما احتل
اليهود القدس ثم أعلنوها عاصمة موحدة أبدية لهم لم تعترف البابوية الكاثوليكية بذلك، وظل الأمر على هذا حتى انتصف القرن العشرون وجاء عقد الستينيات.
رياح التغييرات تهب من أمريكا:
شهد عقد الستينيات الميلادية وصول أول رئيس من طائفة الكاثوليك [8] إلى
سُدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الرئيس (جون كنيدي) وهو الذي
قُتل بعد ذلك ومع بداية ولايته بدأ اللوبي الصهيوني بالتعاون مع رجال دين من
الكاثوليك الأمريكيين في الضغط على الرئيس الأمريكي لمطالبة الفاتيكان باتخاذ
مواقف مغايرة من الديانة اليهودية والدولة اليهودية، وبالفعل بدأت تلك المساعي
تؤتي شيئاً من ثمارها؛ إذ اتخذ المجمع المسكوني النصراني المنعقد عام 1962م
قراراً بتبرئة اليهود من دم المسيح! ثم بدأ الأمريكيون الكاثوليك في نشر مناخ جديد
يطالب بتطبيع العلاقة بين الكاثوليكية العالمية ودولة (إسرائيل) فأصدر القس
الأمريكي الكاثوليكي (إدوارد فلا نيري) وثيقة في 1/12/1969م يطالب فيها
الكنيسة الكاثوليكية باتخاذ موقف لاهوتي جديد من دولة (إسرائيل) وطالب بعده
الأسقف (أوستريشر) في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز في (26/5/1971م)
بالاعتراف بحق اليهود في القدس وقال: (إن القدس مدينة يهودية ... أطالب
المسيحيين بالاعتراف اللاهوتي بالصهيونية ... ، إن إسرائيل هي تعبير عن إرادة
الله) !
ثم تطور النشاط من شكل فردي إلى شكل جماعي، ففي 23/11/1984م
وقَّع أكثر من عشرين نائباً كاثوليكياً في مجلس النواب الأمريكي علي رسالة إلى بابا
الفاتيكان يطالبونه فيها بالاعتراف الرسمي بـ (إسرائيل) وتبادل التمثيل الدبلوماسي
معها.
ومع هذه المساعي المحمومة والمشاعر الحميمة من نصارى أمريكا الكاثوليك، إلا أن اليهود ظلوا يشكون من وجود عثرات كبيرة تعترض مجرى التطبيع بين
الكاثوليكية العالمية والصهيونية العالمية وهي:
1- عدم اعتراف الفاتيكان بـ (إسرائيل) باعتبارها دولة.
2- عدم الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لها.
3- عدم الاعتذار عن سكوت البابوية الكاثوليكية على جرائم النازية في حق
اليهود [9] أثناء الحرب العالمية الثانية.
4- عدم إدانة معاداة السامية [10] .
5- عدم الاعتراض على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار
الصهيونية حركة عنصرية [11] .
البابا يقيل عثرات اليهود:
لقد نصب البابا نفسه لدحرجة تلك الأحجار عن طريق الوفاق التاريخي مع
اليهود، وشرع يزيلها الواحدة تلو الأخرى.
- أما الاعتراف بدولة (إسرائيل) فقد أعلن باسم الفاتيكان اعترافه الرسمي
بدولة (إسرائيل) في عام 1993م، ثم أقام علاقات دبلوماسية كاملة معها في عام
1994م.
- وأما الاعتذار فقد أقر به قبل زيارته الأخيرة وأثناءها؛ فقد قام بوضع
إكليل من الزهور على النصب التذكاري لضحايا المحرقة في متحف (يافا شيم) ،
ودعا في كلمة ألقاها هناك إلى إقامة جسور جديدة مع اليهود تعتمد على (الجذور
المشتركة) بين الديانتين وقال معتذراً عن المحرقة بلسان فصيح: (إنه لا توجد
كلمات تكفي للتعبير عن الأسف على المأساة المروعة التي حدثت ضد اليهود) .
- وأما الإعراب عن إدانة معاداة السامية والصهيونية فقد أتى به ضمناً في
إطار زيارته لتل (صهيون) حيث ألقى كبير حاخامات (إسرائيل) كلمة أمام (البابا)
أكد فيها على أن القدس هي العاصمة الأبدية الموحدة لدولة (إسرائيل) ولم ينبس
(البابا) ببنت شفة اعتراضاً على هذه العبارة التي قيلت بمناسبة استقباله؛ فهل
يطمع البابا بهذه (العطايا) أن يصل في النهاية إلى كسب اليهود تمهيداً لتنصيرهم في
آخر الأمر ليحقق نبوءة تنصرهم قبل عودة المسيح ... ؟ ربما، أم هل يريد أن
يشكل تحالفاً غربياً كاثوليكياً ينافس التحالف البروتستانتي في السيطرة على العالم؟
قد يكون.
على أي حال فقد جمع كبير الكاثوليك في تلك الزيارة كل ما في جعبته
لإهدائها لليهود حتى أقر أعينهم وأجرى الثناء على لسان كبيرهم (باراك) الذي
وصف الزيارة بأنها (رحلة التداوي التاريخية) وقال: (إن البابا أسهم بشكل كبير
في تحقيق تغيير تاريخي في اتجاه العلاقات بين الفاتيكان وإسرائيل) .
هذا ما قدمته البابوية الكاثوليكية لليهود؛ فماذا أعطت المسلمين والعرب
والفلسطينيين؟ !
الجواب بمعيار الحقيقة لا الزيف أو الدعاية: لا شيء [12] !
إذن فماذا أُعطي البابا في بلاد المسلمين؟ ! والجواب: أُعطي الكثير.
ومع قليل من هذا الكثير هذه بعض الإشارات (والإشارة تغني عن العبارة) :
- فُتحت أمام (البابا) أكبر فرصة تبشيرية تنصيرية تكفيرية في التاريخ،
عندما هُيئت أمامه كل الإمكانات لإقامة أكبر (قدَّاس) عالمي متنقل خارج مقر
البابوية؛ حيث أذيعت شعائره وصلواته ودعواته على العالم أجمع عبر الفضائيات
حية على الهواء، وتمكنت دعوة الشرك والخرافة والدجل أن تسمع الدنيا كلمتها،
دون أن تسمع في مقابلها كلمة واحدة باسم دين الحق والتوحيد؛ حيث استُبعِدَ خطاب
الدين في الكلمات الرسمية على المستوى العربي كالعادة بينما حفلت الكلمات
الرسمية اليهودية والنصرانية في المناسبة بكثير من المعاني الدينية الصريحة.
- أهديت في الزيارة وقبلها، هدايا تذكارية، تجعل من (الصليب) تحفة
فنية أو أثرية مهداة، وفي هذا ما فيه من اعتراف صريح بأن لهذا الوثن نصيباً من
قيم الحق، ومن ذلك ما سمي بـ (صليب بيت لحم) الذي جعل وشاحاً لتكريم
الضيوف يُحمل على الصدور!
- سُمعت كلمات (كبيرة) من شخصيات كبيرة القولُ منها تكاد السماوات
يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً؛ ومن ذلك ما سمعته بإذني من
أحدهم وهو يقول في كلمة نقلتها الإذاعات: (يا قداسة البابا: نحن هنا مسلمين
ومسيحيين ويهوداً أبناء الله الذين اختارهم للعيش في هذه الأرض) ! وقول آخر:
(إن شعبنا يؤمن بتعاليم القرآن والإنجيل معاً) ! ! ... أي بالشرك والتوحيد معاً؛
لأن (البابا) ومن معه لا يعرفون شيئاً عن الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه
السلام!
- أتيح لـ (البابا) أن يتيه فخراً، ويتبختر فرحاً وسط جموع ممن يُفترض
أنهم (رموز الإسلام) عندما اصطفت كوكبة منهم بزيهم الرسمي صفوفاً على
الجانبين لاستقباله بالتصفيق الحار، حتى أصابه الاندهاش؛ فقال لأحد مضِّيفيه:
(هذا يوم لن أنساه أبداً إنه هدية من الرب) ! وحُقَّ له أن يفرح بتصفيق (الرجال)
حملة دين التوحيد ابتهاجاً بقدوم حامل لواء الشرك!
- غرر بالبسطاء من عامة المسلمين وخاصة الأطفال الذين أُخْرِجَ الآلاف
منهم لتنظيم المهرجانات الاحتفالية من المدارس النصرانية التي عامة طلابها من
أبناء المسلمين؛ حيث رفع بعضهم لافتات مكتوب عليها: (أيها البابا إننا نحبك)
وردد بعضهم هتافات تقول: (مرحباً بقدوم ملك السلام) والمقصود عيسى لا بولس!
- ظهر اعتزاز طوائف الكفار على اختلاف مللهم بأديانهم؛ في مقابل هوان
الدين على بعض المسلمين؛ حيث رفض بابا الأقباط مثلاً الذهاب بنفسه لاستقبال
(بابا) الفاتيكان في المطار؛ وأصر أثناء زيارة بابا الفاتيكان له في مقره أن يجلس
أتباع كنيسته من القسس صفوفاً في مواجهة قسس الكاثوليك بشكل نِدِّيٍّ مستقل،
بينما رُتِّبَ اللقاء الإسلامي مع (البابا) ووفده بحيث يجلسون جنباً إلى جنب بشكل
تبادلي.
- أما المغزى السياسي الذي أظهرته الزيارة والذي يدخل ضمن ما قدمه
العرب لـ (البابا) ومعه اليهود فهو طمأنتهم بأن قضية الأرض المقدسة تضاءلت
وانكمشت من قضية إسلامية عالمية إلى قضية عربية قومية، ثم إلى قضية (سلطة)
وطنية.. ثم إلى قضية (لجنة) إشرافية تشارك فيها شخصيات علمانية ونصرانية
مع آخرين من حاملي الجنسية الإسرائيلية، لا يعرف أكثرهم القدس والأقصى إلا
جزءاً من التراث أو (الفلكور) الفلسطيني، أو أنها شيء للبركة لا تزيد عن
(البركات) الملتمسة بمصافحة (البابا) .
- أما أكبر الهدايا التي حباها أحباء (البابا) إليه فهو تحقيق أمنيته الغالية عنده
وعند النصارى جميعاً بأن يبدأ (الألف السعيد) بداية سعيدة تبشرهم بأن العالم مهيأ
بالفعل للاستجابة لأي ناعق كذاب يقول شيئاً باسم الإله، أو ابن الإله، فلا تجد من
القطعان البشرية إلا الهتاف والتصفيق حتى لو كان ذلك في عقر ديار المسلمين!
إنه اختراق من نوع آخر؛ فمنذ قرن من الزمان أو يزيد، والساحة خاوية
أمام كل صنف من الأعادي الذين تمالؤوا فأسقطوا خلافتنا الإسلامية ثم أقاموا
أحلافهم الاستعمارية الصليبية وعايرونا وتفاخروا علينا بأن لهم (بابا) والمسلمون لا
بابا لهم..! !
ونحن منصورون بالله عليهم إن استقمنا فالله مولانا، والكافرون لا مولى لهم.