الصفحة الأخيرة
محمد بن يحيى
تزخر الساحة بفضل الله بالكثير من الدعاة الذين حملوا هَمّ استنقاذ العباد من
الغفلة والدنيا وشهواتها. وهؤلاء بإخلاص كثير منهم واحتسابهم الأجر عند الله
وتحملهم لما يلاقونه من أذى وبلاء أثمرت جهودهم هذه الوفود المتزايدة في التوجه
إلى الله تعالى والتمسك بشرعه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
وثمة مشكلة تواجهها الدعوة جديرة بأن يتأمل فيها كلُّ من حمل همَّ الدعوة إلى
الله تتلخص في وجود أصناف من الدعاة ليسوا على المستوى المطلوب لممارسة
الدعوة كفنٍّ يحتاج إلى التحلي بصفات خاصة والتصرف وفق أولويات واضحة.
وقبل أن أذكر بعض هؤلاء الأصناف أشير إلى شيء من أهمية الموضوع
على النحو الآتي:
1- كون هؤلاء الأشخاص يمثلون الدين في نظر الناس، والقصور منهم
سوف ينسب إلى الدين بسبب الجهل والمكر وترصد أصحاب النفوس المريضة.
2- أن الداعية من هؤلاء محسوب على الدعاة؛ والخطأ منه يعمم على
الجميع وهذه أخص من السابقة.
3- أن الداعية في كثير من الأحيان يكون فاتحة خير للمدعو وبداية ارتباط
بشرع الله، وبسبب شيء مما سنشير إليه قد يكون سبباً لنفرة المدعو وصدوده عن
أهل الخير.
وسوف أشير إلى بعض الأصناف التي ميَّزتها على أساس صفات مشتركة قد
تتوفر كلها وقد يتخلف بعضها، والمقصود أن ينظر الداعية في نفسه ويقوّم سلوكه
الدعوي، وأن يثار هذا الموضوع للنقاش وزيادة التأصيل من أهل العلم
والاختصاص والخبرة.
النوع الأول: يغلب على هذا النوع الرهبة عند البدء في موقف أو معاملة
دعوية بسبب الخوف من أن يقابل بالإساءة إليه. وغالباً فإن عدم فلاح هذا النوع
مع المدعو في المحاولة الأولى يجعل صاحبه يتردد كثيراً قبل إعادة المحاولة.
وكثيراً ما يستعجل أصحاب هذا النوع إنهاء المواقف الدعوية وعدم ربطها بتوابع
أخرى بمجرد ترديد المدعو لبعض العبارات الدارجة مثل: (الله يهدينا) .
وهذا الصنف وإن لم يكن على المستوى المطلوب ليقوم بالتأثير والجذب إلا
أن أفراده يبدون غالباً مرشحين بشكل كبير للنجاح الدعوي، ويحتاجون بعد توفيق
الله إلى تعلم المهارات المناسبة والأساليب الجيدة مع الممارسة المستمرة، كما أنه
ينبغي أن يعملوا على كسر حاجز الرهبة بتذكُّر فضل ما يعملون، والاستعاذة بالله
من الشيطان وكيده، وإقناع أنفسهم بالنجاح بدلاً من توقع الإخفاق.
النوع الثاني: (رهينة الصدود) وهذا النوع يملك في العادة خلفية دعوية جيدة؛ ولكنه يأخذ صدود المدعو بشكل شخصي يسيء إليه ذاتياً. وهذا ما يجعله يبحث
عن أي عذر يعفيه من الممارسة الدعوية المباشرة، وقد يصرف الوقت في أشياء
ليست من صميم الدعوة كأحاديث جانبية لا ينفذ منها إلى الهدف الدعوي، كما يُكثِر
الشكاوي، ويتأثر عطاؤه الدعوي لفترة طويلة بسبب إخفاقه في محاولة دعوية مع
شخص مَّا.
هذا النوع ينبغي أن يُوَجَّه إلى أهمية الفصل بين شخصه ودعوته، ويربى
على أن لا يدعو إلى نفسه وأنه ليس من لوازم الدعوة أن يرى آثار نجاح دعوته،
هذا إذا كان مفتقراً إلى هذه المفاهيم ونحوها.
أما إن كان الأمر فيه أصلياً وحدود شخصيته لا تسمح بتجاوز هذه العقبة فلعله
من المناسب أن يُوَجَّه إلى الدعوة في الأماكن التي يقل فيها جانب الصدود وتضعف
احتمالاته، كما هو الحال فيمن لهم بالمحاضن الخيرية روابط محدودة وما زالوا
بعيدين عن مظاهر الاستقامة.
النوع الثالث: (الداعية العدواني) الذي يفعل أي شيء يعتقد أنه يتمم الواجب
الدعوي، ولا يهمه بعد ذلك أو قبله الأسلوب؛ يتحرك أكثر من اللازم، ويرفع
صوته، يقول أي شيء حتى لو لم يكن متعلقاً بهذا المدعو أو ذلك الحدث، يستخدم
كثيراً أسلوب الضغط والإلحاح ودفع المدعو للاستجابة، وقد لا يهتم بتخفيف ما قد
يعتري المدعو من حدة، ولا يصرف الوقت معه لتكوين علاقة وئام ومودة.
وهؤلاء وإن بدت أوصافهم في الكتابة منفرة بغيضة إلا أنهم حقيقة واقعة لا بد
من مناصحة أصحابها، خاصة أولئك الذين يكون من طبيعة شخصياتهم (أو
مناطقهم) الحدة والصوت الجَهْوَرِي وسرعة الغضب ونحو ذلك. والأثر السلبي
لهؤلاء واضح جلي وكبير على الدعوة خاصة عندما يكون استمرار العلاقات على
المدى البعيد مطلوباً؛ لذلك عليهم مراجعة أنفسهم دائماً، ومصاحبة من ينبههم
ويذكِّرهم ويسدِّدهم قدر الإمكان.
وأخيراً أشير إلى أن مثل هذا الموضوع قد يعطي ثماره بشكل أكبر عند
وضعه على مائدة النقاش ودعمه بالأمثلة والنماذج الحية. والله الموفق والهادي إلى
سواء السبيل.