ندوات ومحاضرات
ندوة عن:
مرت عدة عقود من عمر الصحوة الإسلامية، وبعد هذه المسيرة، تحتاج
الصحوة أثناء سيرها في طريق الحق إلى وقفات معها لنحدد حجم الإنجازات
وأسبابها، والإخفاقات وعللها، ولكي تجدد النظر في الأساليب والطرق التي
سلكتها، وإيماناً من (البيان) بواجبها تجاه هذه الصحوة تأتي هذه الندوة إضاءة على الطريق.
المشاركون:
د. مانع بن حماد الجهني، أمين عام الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
د. محمد بن لطفي الصباغ، أستاذ في كلية الآداب، جامعة الملك سعود
الرياض.
د. جلال الدين محمد صالح، المشرف العلمي في كلية لندن المفتوحة
بريطانيا.
المحور الأول: حول مدلول كلمة الصحوة:
البيان: برز هذا المصطلح (الصحوة) في بداية التسعينيات الهجرية من القرن
الماضي الذي يتوافق مع السبعينيات الميلادية للقرن العشرين، ومعروف أن أحوال
المسلمين وقتها على المستوى الخاص والعام كانت أشبه بـ (غفوة) ، إن لم نقل:
في سبات أو غيبوبة على المستوى العام.
وقد كان مناسباً أن يطلق على حالة الانتباه والانتعاش من ذلك النوم وصف
(الصحوة) ، أما الآن وقد جاوزت (الصحوة) عدة عقود من التجارب المتواصلة التي
أوصلت في بعض صورها إلى (دولة) ، فهل لا يزال ذلك المصطلح مناسباً، أم
نحن في حاجة إلى تعبير يترجم عن الحالة الراهنة لوضع المسلمين في العالم؟
د. مانع بن حماد الجهني: أمهد للموضوع بنبذة موجزة لا بد منها: الصحوة
كما جاء في مجمل أقوال أهل اللغة: ذهاب الغيم وارتفاع النهار وترك الباطل،
وتطلق بوصفها مصطلحاً على العَوْدِ الحميد إلى الإسلام الصحيح، والسعي الحثيث
من قِبَل المسلمين لاكتشاف هويتهم من مَصْدَرَيْ هدايتهم وهما: القرآن الكريم،
والسنة النبوية المشرفة.
والصحوة الإسلامية بمفاهيمها اللغوية والاصطلاحية حدث تكرر في تاريخنا
الإسلامي: بعد هجوم التتار على العالم الإسلامي، وبعد الحروب الصليبية التي
استمرت عدة قرون، وبعد الهجمة الاستعمارية الحديثة. وكانت الصحوة في كل
مرة في السابق تظهر على شكل زخم جهادي يؤدي دوره في إخراج الأمة من
محنتها ثم لا يلبث المسلمون بعدها أن يفتروا ويبتعدوا عن دينهم إلى أن تحل بهم
محنة توقظهم من سباتهم وغفلتهم مرة أخرى.
والصحوة المباركة التي نشهدها هي أهم وأعظم حركة فكرية للمسلمين خلال
القرن العشرين الميلادي بأكمله؛ لما اتسمت به من سمات مميزة عن سائر الحركات
الأخرى التي شهدها القرن المذكور؛ إذ امتزجت فيها الأصالة مع التجديد،
والإحياء والنهوض والشمول مع الانتشار الجماهيري الواسع المنقطع النظير.
وجميع تلك الخطا المباركة الحثيثة حدثت مع شدة النكير عليها وعلى روادها
وحاملي رايتها والسائرين في دروبها من اضطهاد وضغوط.
وقد جاءت الصحوة التي نشهدها بعد فترة طويلة من التخلف والانحطاط
حفلت بالافتنان بالأنموذج الغربي في الفكر والسلوك إثر تقدم الغرب في المجالات
العلمية والتقنية وهيمنته بسبب ذلك على المسلمين وأشباههم من الأمم المتخلفة علمياً
وصناعياً. جاءت الصحوة لتقول بوضوح: إن سبب تخلف المسلمين وضعفهم
وهوانهم ليس بسبب الإسلام كما يقول ذوو العقول الفارغة والأفكار السفيهة، إنما
هو بسبب البعد عن الإسلام عقيدة وفكراً ومنهجاً وسلوكاً، وإن السبيل للنهوض
والتقدم واستعادة مكانتنا بين الأمم هو العودة للإسلام.
وقد حققت الصحوة المباركة على رغم عمرها الزمني القصير بمقياس التاريخ
إنجازات مشهودة ملأت الرحب بما أثمرت من: تضامن وتواصل وجهاد، ومساجد
ومدارس إسلامية ودعاة، ولقاءات وبحوث، وحجاب والتزام، ووعي فكري
وانتشار علمي فقهي. وجميع ما ذكرت وما لم أذكر من مظاهر وإنجازات الصحوة
الحالية يسعى ويتعاضد في منظومة متناسقة ليؤدي دوره في تحقيق غاية رئيسة
هي: النهوض بالأمة الإسلامية واستعادتها مكانتها؛ فتكون أمة معتبرة بين سائر
الأمم.
وإنني أتساءل: هل حققت صحوتنا تلك الغاية أو اقتربت بنا منها؟ أم لا
يزال أمامنا مراحل بعضها صعب بيِّن وبعضها خفي؟ نسأل الله تعالى السلامة.
الحقيقة أنني لا أجحد أبداً إنجازات صحوتنا التي شرفتُ مع المعاصرين
بشهود مولدها وتناميها، ولديَّ قناعة تامة بأن صحوتنا في خطاها الواثقة تنتقل من
نصر إلى نصر، وتعالج ذاتياً، وتصحح الأخطاء التي تقع فيها؛ فالصحوة بفضل
الله تعالى ومَنِّه رشيدة وخطاها سديدة وناجحة وموفقة. إلا أن ذلك لا يغني عن
تساؤلنا الذي أوردناه: هل هذه المرحلة التي نشهدها اليوم هي آخر مراحل الكمال
المبتغاة؟ وبصيغة أخرى: هل حققت لنا صحوتنا الغايات المرجوة منها كاملة؟
بصراحة أقول: لا؛ فالطريق لا يزال طويلاً، والغايات لم تكتمل بعد، والتحديات
والعقبات التي نستطيع استقراءها ليست بالأمر اليسير الذي يجعلنا نجزم بالنجاح.
لذا فأنا مع تفاؤلي الكامل بالنجاح وبأن الله تعالى الذي وفقنا لهدايته وأعاننا
على مواصلة المسير ثلاثين عاماً سوف يوفقنا للاستمرار والنجاح لتحقيق الغاية
المنشودة، مع ذلك فإنني مقتنع تماماً بأن الصحوة لا يزال أمامها مراحل من العمل
الجاد لإحياء موات القلوب الذي هيمن على الأمة مع الغفلة والجهل أحقاباً طويلة.
فالمسلمون الذين يتعدى تعدادهم المليار وربع المليار نسمة لا يزالون يُمتحنون
بشتى صروف الابتلاء التي لا تخفى على أحد، بدءاً بالتضييق والاضطهاد
والتهميش، وانتهاءاً بالتصفية الكاملة والإبادة الجماعية، كما أنهم لا يزالون يعانون
من وطأة الفقر والتخلف والمرض والجهل، وعلى رغم التقدم والرخاء النسبيين
اللذين تعيشهما بعض الدول إلا أن الغالبية الإسلامية لا تزال تعيش تحت خط
الفقر.
كذلك فإن الكثير من المجتمعات الإسلامية خاصة في الغرب تعاني من أمية
إسلامية متفاوتة الدرجات، على رغم العناية الكبرى والمطردة بتوظيف الدعاة
وعلى رغم البرامج الدعوية المتعددة والمتنوعة، أضف إلى ذلك ما نواجهه اليوم
من تحديات صعبة وخطيرة يأتي في مقدمتها فكر العولمة الذي يدعمه ويسهر على
نشره النظام العالمي الجديد. أكرر وأؤكد أن ما أقوله ليس جحوداً بما حققته
الصحوة من إنجازات طيبة مباركة تفوق في حجمها ومداها الحيز الزمني الذي
استغرقته إلى الآن، ولكن هذا الواقع يجعلنا نحبذ أن يظل هذا المسمى المبارك الذي
أرجو أن يحقق لنا فائدة مقدرة؛ فالواضح جيداً أن الغرب يرقب بجدية وحرص
وحذر خطا الصحوة ومجالاتها، وأعداء الإسلام دأبوا منذ فترة على تصويره كشبح
مخيف يهدد كيان الغرب والتصريح باعتبار الإسلام العدو الحالي بعد سقوط
الشيوعية.
ولا شك أن اتخاذ شعار يصور الوضع المتنامي للصحوة وآثارها يعني فتح
باب لمزيد من الهجوم على الإسلام، وإتاحة الفرصة لخصومه لترديد المنغومة التي
يضربون على أوتارها ليل نهار والتي تحذر من ظهور الإسلام وتزايد قوته. لذا
أرى أن الكسب المعنوي الذي قد يتحقق من تعديل مسمى الصحوة إلى مسمى آخر
مثل النهضة أو القوة أو المد، قد يكون أقل بكثير من الخطر الذي سوف يثار من
قِبَل أعداء الإسلام والجاهلين بتعاليمه إذا ما أعرب المسلمون وصرحوا عن تعديهم
مرحلة الانتباه من الغفلة إلى مرحلة إمساك زمام الأمور والتصدي للأعداء وفرض
السيادة واستعادة المكانة، وأرجو أن يكون ذلك من الفطنة التي حثنا الإسلام على
التحلي بها. هذا بالإضافة إلى أن مفهوم الصحوة يبقى سائغ الدلالة على من لم
تكتمل صحوته ويكتشف جمال الإسلام وكماله ويعود إلى النبع الصافي والتوجيه
القويم الذي يقدمه هذا الدين لأبنائه في كل مكان. وبهذا فسوف يستمر مفهوم
الصحوة يتكرر في كل زمان ومكان في أولئلك الذين ناموا عن ركب الالتزام ثم
اكتشفوا قيمة ما فاتهم من الخير، فأخذوا يغذُّون السير للِّحاق بركب المستقيمين
والسائرين على درب الصلاح.
البيان: لا شك أن الصحوة مرت بمراحل وتقلبات فكرية ومنهجية، فهل
أخذت (الصحوة العلمية) دورها؟ وما السبيل لترسيخ ذلك؟
د. جلال الدين صالح: (الصحوة) اصطلاح تعارف الناس على إطلاقه
وصفاً لحالات الإفاقة والتوبة التي عمت جموعاً كبيرة من المغتربين عن وعي
الإسلام، ودفعت بهم إلى الإقبال على تجديد الدين في الأنفس والمجتمعات.
وبدت مظاهرها في كثير من المناشط الحياتية في السياسة، والاقتصاد،
والثقافة ... وهلم جرّاً، وكاد لها الأعداء من كل منعطف، وترصَّدوها من كل
مرصد فزعاً، وهلعاً مما سيؤول إليه أمرها من تمكين الدين، وبسط سلطانه
فاستفزوها في مواطن كثيرة، واستثاروها في أزمنة عديدة ابتغاء شرٍّ بها، فقابلتهم
بالإعراض والصفح تارة، والمواجهة والمجابهة تارة أخرى، ولكن دون الاعتبار
بمآلات الأمور، وتحديد الأولويات ثم ترتيبها وفقاً لمقتضيات المحيط المكاني
والزماني وقدرات الذات؛ فأصابها من ذلك أذى كثير، وفقدت مواقع كانت لها دِفْئاً
ورِفْداً، ولا أعرف لهذا من سبب رئيس سوى ضمورٍ في فقه علوم الشريعة،
وقصور في فقه الواقع وتحدياته؛ فالدين وإن كان من حيث عموم رسالته حقيقة
عالمية لا تحده الحدود، ولا تحول دونه الفواصل إلا أنه من حيث تحقيقه في موقع
مَّا محكوم بمؤثرات سياسية وقدرات ذاتية؛ ومن ثم كان في تشريعاته رفع الحرج،
وإرادة اليسر والإتيان منه بالمستطاع. غير أن غياب الصحوة العلمية في ترشيد
الصحوة الإسلامية غيَّب الكثير من مثل هذه المفاهيم، وخلط ثوابت الأمور
بمتغيراتها بسننها وفرائضها، ومكّن الرويبضة من أن يتحدث في أمور العامة دون
أثارة من علم، وصارت الصدارة أحياناً للمتفيهقين والمتشدقين من الذين يحملون
الناس على فتاوى شاذة وغريبة، غاية ما تؤدي إليه الإدبار عن الدين، والنفور
عن المسلمين، من نحو إباحة سرقة أموال غير المسلمين في ديار الكفر، أو قتل
صبيان من يقاتلونهم من عسكر حكومات ديار الإسلام، مع تنطع وغلو في التكفير
أو التفسيق أو التبديع.
وبروز هذه الاتجاهات الفوضوية في ساحة العمل الإسلامي ما كان قاصراً
على فترة دون أخرى، ولكنه ظاهرة متعاقبة يلحظها كل من يتعقبها في مسيرة
الصحوة الإسلامية، وقُصَارَى ما تدل عليه خلل في التكوين العلمي عند عدد لا
يستهان به من السائرين على درب الصحوة ممن تدفع بهم الظروف إلى تصدُّر
الصفوف، وليس من سبيل إلا المسارعة بالمعالجة العلمية، حتى يتبوأ مقاعد القادة
في ميدان العمل الدعوي أناس ينفون عن هذا الدين، كما يقول الإمام أحمد: ...
(تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) ، وإلا اتخذ الناس رؤساء
جهالاً كما ورد في الحديث فأفتوهم بغير علم فضلوا، وأضلوا.
والصحوة الإسلامية في تركيبتها تضم حشداً غير قليل ممن قلَّ كسبهم وضَؤُل
حظهم من العلم الشرعي من خريجي العلوم المعملية؛ مما يؤكد أهمية ترسيخ العلم
الشرعي في أوساطها، وأحسب أن ذلك يتحقق من خلال الأخذ بما يلي:
الأول: الإيمان بضرورة تنامي الصحوة وتعاظمها باعتباره شرطاً مهماً في
النهوض بالمجتمعات الإسلامية واستعادة مجدها التليد، والاعتقاد بأن ذلك لا يكون
إلا بما صلح به الأولون من تقديس النص المعصوم وإدراك مقاصده على ضوء
أصول العلم الشرعي.
الثاني: تحليل عوامل الضعف والقوة في الصحوة الإسلامية، ودراسة مآثرها
ومواقفها الدعوية في شتى ميادين عطاءاتها دراسة فاحصة، وناقدة ليتبين ما إذا
كانت تلك المواقف على وفاق مع دلالة النص أم على شقاق؛ وذلك من خلال
ندوات تأصيلية، ولجان علمية، وأطروحات جامعية تطبع في خاتمة المطاف
وتعمم توزيعاً على قيادات مراكز العمل الإسلامي وجماعاته، وتسجل ملخصاتها في
أشرطة سمعية يحوزها من لا وقت له للقراءة من الشباب.
الثالث: تبني العلماء العاملين لهموم الصحوة وتصدُّر قافلتها في بيان الموقف
الشرعي من كل غاشية تغشى المجتمعات الإسلامية، ونازلة تنزل بمنازلهم، لا
يمنعهم في بيان قول الحق فيها جهراً الخوفُ من مقامع سلطان جائر، ولا الطمع
في مغانمه؛ فإن هذا كما أحسب ينفي لا محالة العملة الزائفة، وبه يميز الشباب
الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويجعل أفئدتهم تلين لقيادة العلماء، وتوثق
صلاتها بهم، وتتعمق فيها مكانة العلم وتوقير أهله، وبهذا الترابط تكون الصحوة
الإسلامية جمعت بين البصيرة في الدين والقوة في الدعوة.
وما أحسن ما قاله ابن القيم في ذلك: (ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام هم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من
الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين
جمعوا بين البصيرة في الدين، والقوة على الدعوة؛ فبالبصائر يُدرَك الحق
ويُعرف، وبالقوة يُتمكَّن من تبليغه، وتنفيذه، والدعوة إليه) [1] .
الرابع: إنشاء مؤسسات علمية ذات مناهج تقوم على ربط خطاب الشارع
بحقيقة خطاب الواقع، وتجعل من التأصيل الشرعي هدفها الأول في تغذية الداعية
وتكوينه حتى يتمكن من تقييم وتقويم المسيرة الدعوية على بصيرة من الله مستصحباً
خصائص بيئته بكل ما يكتنفها من مظاهر الخير، وعوارض الشر.
الخامس: بعث رسالة المسجد من مرقدها بتدريس العلوم الشرعية في
ساحته، ووضع محفزات تجعل من الورود إلى مناهل العلم فيه عملاً مرغوباً، ولعل من المناسب هنا أن أشير إلى أهمية إعطاء مناهج هذه الحلقات حقها من الاعتناء والاختيار حسب البيئات ومستوى أفهام الناس، وأولويات الاحتياج الدعوي حتى تأتي مُصاغة على نحو يفي بالمطلوب، ولا يؤدي إلى السآمة والملل والعزوف؛ فما أنجح الداعية حين يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويصطفي لهم من العلم على قدر حاجتهم! كما لا بد من التنويه هنا بأهمية منبر الجمعة بوصفه أحد وسائل ترسيخ العلم في معالجة كافة القضايا معالجة تأصيلية بعيدة عن
التعقيد، وليس معالجة حماسية لا تكاد تجيد غير إثارة العاطفة، وتهيجها.
المحور الثاني: تقويم الصحوة خلال ثلاثة عقود:
البيان: لا شك أن وجهات النظر اختلفت جداً في تقويم أداء الصحوة من
خلال الفترة الماضية؛ فبين رأي متفائل مبالغ في جعل الآمال عليها، إلى رأي
متشائم يهوّن من شأن النتائج والثمرات الفعلية لها، فأين الرأي الوسيط في تقويم
هذه الصحوة؟ ولعلنا نسوق السؤال لفضيلة الدكتورمحمد الصباغ بصيغة أخرى:
ما أبرز إيجابيات الصحوة وأبرز سلبياتها؟
د. محمد لطفي الصباغ: إني من المتفائلين بمستقبل هذه الصحوة التي يعود
الفضل في قيامها إلى الله سبحانه الذي هيّأ الأسباب العديدة لقيامها: من اشتداد كيد
الكفار للمسلمين، ومن التنكيل بهم وبرجالاتهم، ومن الاستيلاء على بلادهم
واستغلال خيراتهم وسحق أبنائهم، وتسميم أفكارهم، ومحاولة سلخهم عن دينهم،
وتسليم الحكم في كل البلاد التي استعمروها إلى حفنة من عملائهم الذين يتابعون
عملهم في محاربة الإسلام، ويسيرون وفق مخططاتهم الرهيبة. إن هذه الأسباب
وغيرها كانت من أسباب قيام هذه الصحوة التي عمت كل بقعة فيها مسلمون.
ومما يؤيد تفاؤلي هذا الوقائع الآتية:
- إنّ سبعين سنة من الحكم الشيوعي الملحد في البلاد الإسلامية التي
استعمرها الروس فيما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي لم تستطع أن تمحو الإسلام من
تلك البلاد كما كان يظن أولئك الطواغيت الذين قتّلوا الملايين، وسجنوا الملايين،
ونفوا وشرّدوا؛ وها نحن أولاء نسمع أبناء اليقظة الإسلامية في تلك البلاد.. وهي
تتطلع إلى أن ترى الإسلام مطبقاً في ديارها، ولا ترى منقذاً لها سواه.
- وكذلك فإن سبعين سنة من الحكم الديكتاتوري الذي قام على الحديد والنار
في تركيا بعد إلغاء الخلافة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة، وإعلان الحكم
اللاديني، ومنع الحجاب، وتغيير الحرف العربي واعتماد الحرف اللاتيني، وجعل
الأذان بالتركية، وجعل العطلة يوم الأحد، ومنع التعليم الديني، وقتل المعارضين
وإبادتهم دون رحمة.. بعد سبعين سنة من هذا الظلم والعدوان وسفك الدماء نجد
الشعب التركي المسلم يعلن ولاءه للإسلام ولكل من يتبنّى الإسلام.. ونجد الأذان
يعود بالعربية ويعود الحجاب.. ويقوم التعليم الديني.
ولم يُلْقِ العلمانيون أعداء الإسلام من المتسلطين هناك السلاح، بل هم
ماضون في متابعة حرب الإسلام، ومضايقة المتدينين، ولكنهم يشعرون الآن أن
حجم المعارضة لهم في نمو وازدياد.. والعاقبة للمتقين.
- منذ حوالي ستين سنة ذهب بعض الطلاب من الشام للدراسة في بلد عربي
كبير، ولما رجعوا إلى بلادهم قال قائل منهم: إن موضوع حجاب المرأة في ذاك
البلد قد انتهى، ولا أمل في أن يعود، ولا يتوقع أحد من الناس أن تعود المرأة إلى
الحجاب في ذاك البلد.. وقام في ذلك البلد حكم معاد للتدين، ولاحق حكامه كل من
يتبنى الإسلام ويدعو له، ونادى حكامه بالاشتراكية وعملوا على تطبيقها ... ثم ماذا
كان بعد هذا؟
لقد دارت الأيام.. وإذا بالحجاب يعود بقدرة الله.. لقد عاد هذه المرة عن
اقتناع بوجوبه، ودخلت الجامعاتِ المحجباتُ معتزاتٍ بهذا الزي، وقد تكون بعض
أمهاتهن سافرات حاسرات.
- وتُحدثنا الأنباء أنّه عندما يتاح للشعوب في بلاد المسلمين أن تعبّر عن
رأيها فإنها لا تختار إلا الإسلام والمسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة في الجزائر
والأردن ومصر وغيرها؛ سواء في ذلك المجالس النيابية أو البلدية أو نقابات
الأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين.
هذه وقائع وغيرها كثير لا يمكن أن ينكرها أحد، وقد تحققت هذه الوقائع في
أوساط محكومة باتجاهات غير ملتزمة بالإسلام، وبعضها معادٍ للإسلام كما بينّا.
إن مناهج التعليم في تلك البلاد ووسائل الإعلام كلها كانت تعمل خلال تلك السنين
الطويلة لإبعاد الناس عن الدين، ومع كل ذلك كان وكان.
أفليس هذا كافياً ليجعل تفاؤل المتفائل في محله؟
وهناك أمر آخر يجعلني أرجو أن يحقق الله التمكين لتلك الصحوة؛ ذلك أن
الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ هذا الدين متمثلاً بالكتاب الكريم، ولم يكل حفظه إلى
الناس. وحفظه يقتضي وجود بشر كرام يُحيونه ويُحكِّمونه ويجعلونه مرجعهم قال
تعالى: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] .
أجل.. تولى الله سبحانه حفظه، ولم يكله إلى الناس يحفظونه كما فعل
سبحانه بالكتب السابقة. قال جلّ وعز: [إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ
اللَّهِ وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ] [المائدة: 44] .
ويتبيّن مما سبق أن إيجابيات هذه الصحوة:
أنها رسّخت فكرة ضرورة العودة إلى الإسلام، وأن أمراضنا ومآسينا لا علاج
لها إلا بالعودة إلى الدين وتطبيقه والدعوة إليه.
ومن إيجابياتها انصراف طائفة من الشباب والشابات إلى دراسة هذا الدين
دراسة جادة وتعليمه للآخرين؛ فقد بلغني أن عدداً كبيراً من الشباب والشابات
حفظوا كتاب الله عن ظهر قلب، وأن عدداً منهم جمع القراءات العشر برواتها
العشرين.
وقد بلغني أن عدداً من الفتيات حفظن صحيح البخاري، وصحيح مسلم
بأسانيدهما ومتونهما، وهن ماضيات في حفظ الكتب الأخرى.
ولا شك عندي أن العلم بالدين ينتهي بأصحابه وبمن حولهم إلى العمل به لا
سيما أن هؤلاء الذين حفظوا وتعلموا إنما فعلوا ذلك رغبة في العمل الصالح وابتغاء
الثواب، ولا يرشحهم هذا في بلادهم إلى كسب ماديّ.
ومن إيجابيات هذه الصحوة الإقبال على العبادة، وارتياد المساجد؛ إذ
أصبحنا نرى نسبة الشباب هي الغالبة على مرتادي المساجد.
ومن إيجابيات هذه الصحوة أنك صرت تلمس أثرها في أخلاق الجيل الناشئ
من الاستقامة والصدق والأمانة والوفاء بالوعد وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن
المعاملة والكلمة الطيبة وما إلى ذلك.
ومن إيجابياتها ازدياد الوعي لواقع المسلمين وإدراك خطر خطط الأعداء التي
تستهدف وجودنا وديننا.
السلبيات:
أما السلبيات التي نلمسها في الصحوة فسأذكر أبرزها، وإني لأحسب أن
الإخلاص والوعي والزمن.. أن ذلك كله كفيل بأن يتلافى نصيباً كبيراً منها إن شاء
الله تعالى.
وأبرز هذه السلبيات:
أننا نجد عند بعض الشباب والشابات اندفاعاً عاطفياً لسلوك سبيل الإسلام
بعيداً عن التعقل والتخطيط والمعرفة ومراعاة مصلحة الدعوة. والعاطفة وحدها لا
تكفي؛ إذ هي مُعرَّضة للفتور.
وتجد بعض هؤلاء الشباب لا يعرفون إلا القدر اليسير من أمور دينهم؛
والحق أن المسؤولية في هذه السلبية تعود إلى هؤلاء الشباب وإلى العلماء الذين
قصروا في استغلال تلك الاندفاعة العاطفية، ولم يعملوا على استمالة هؤلاء الشباب
إلى المعرفة والازدياد من طلب العلم.
ومن تلك السلبيات: قيام خلاف مستحكم بين طوائف من شباب الصحوة،
وقد شغل هذا الخلاف الشباب عن التصدّي للمنحرفين، فانطلقوا غفر الله لهم ينال
بعضهم من بعض.
ومن تلك السلبيات: وجود غلوّ عند طائفة من شباب الصحوة وشاباتها. وقد
حملهم هذا الغلو على تحريم كثير مما أحلّه الله، وسبب ذلك قلة علمهم بأحكام
الشرع، وهناك سبب نفسي يرجع إلى ردة الفعل التي تكونت عندهم لِمَا شاهدوا من
محادّة الله ورسوله في مجتمعاتهم والانحراف عن جادة الحق والصواب؛ فحملهم
هذا وذاك على التشدد والغلوّ والتحريم.
ومن تلك السلبيات: تعجُّل فريق من هؤلاء الشباب.. تعجل النصر،
ومحاولة سلوك سبيل آخر غير الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فكان عاقبة أمر
هذه السلبية ضرراً على الدعوة والدعاة.
ومن تلك السلبيات: أن فريقاً من هؤلاء الشباب الصالحين الفضلاء يحسبون
أن أفراد المجتمع كلهم يرون سبيل الإسلام، وينسون أن هناك شريحة من أبناء
أمتهم عمل فيها كيد الكفار فأزاغ قلوبها عن الحق وجعلها تنادي بما ينادي به الكفار
من محاربة الإسلام. إن هذه الفضيلة أوقعت أصحابها في تصرفات خاطئة ما كان
لهم أن يقعوا فيها لو أنهم عرفوا واقعهم على حقيقته.
البيان: كان للأحزاب القومية واليسارية والعلمانية المختلفة في أنحاء البلاد
العربية والإسلامية أدوار سياسية متعددة، وأطروحات فكرية متنوعة، للنهوض
بالأمة من كبوتها، فكيف تقيّمون تلك الأطروحات؟ ! وأين تضعون إنجازات
الصحوة مقارنة بإنجازات تلك الأحزاب؟
د. مانع الجهني: أمهد للإجابة عن هذا السؤال بتوضيح موجز للسمة
الرئيسة والقاسم المشترك الأعظم بين تلك المذاهب والأفكار التي يحاول بعضٌ
وضعها بديلاً للإسلام؛ فالملاحظ على منشأ تلك الأيديولوجيات أنه كان بسبب حالة
الانحطاط العلمي والفراغ الفكري والروحي التي سادت في الغرب البعيد عن الإيمان
قلباً وقالباً؛ وبما أن هدى الله تعالى هو الهدى والحق؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
هذا الفراغ أوجد بيئة مناسبة لمولد تلك الأفكار.
ثم صدّر المنظرون لتلك المناهج أفكارهم في وقت غفل المسلمون عن دينهم،
فاستقبلها رسل الشؤم المنتسبون للإسلام والمتسمون بأسمائه، وبذلوا جهدهم
لترويجها بين المسلمين الذين كان أغلبهم من الغفلة إلى حد عجزوا فيه عن التمييز
بين الصحيح والفاسد، حتى لقد وصل الأمر ببعض المنظرين والمروجين لتلك
المناهج أن يقولوا علانية بأن تخلف المسلمين وفقرهم كان بسبب انتمائهم للإسلام،
ووصل الأمر بالغافلين والجهلة إلى تصديق تلك المقولة وترديدها. وتلك كانت من
أعظم انتكاساتنا: أن يقال عن ديننا الذي هو عصمة أمرنا: إنه سبب تخلفنا
وهواننا.
والنتيجة المنطقية لما سبق هي انحطاط جميع ما تفرع عن هذه المناهج من
مفاهيم وأفكار ووسائل وغايات؛ لأن كل ما نما في الباطل وتأسس عليه وتشرب
مفاهيمه وسار على نهجه لا يمكن أن يثمر إلا باطلاً؛ ولا يجتمع الحق والباطل
مطلقاً، وهذا ما أثبتته التجربة التي هي خير برهان.
وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه فقد قدَّم هؤلاء الضُّلاَّل
المضلون أفكاراً غثة عوجاء عرجاء لا تصلح أن تقيم نظاماً أو تعالج تخلفاً أو
تصحح مساراً. لقد قدس اليمينيون الحرية والملكية الفردية، وفتحوا الطريق لأن
يستغل كل إنسان قدراته في زيادة ثروته وحمايتها وعدم الاعتداء عليها، وأجازوا
المنافسة وابتزاز الأيدي العاملة والبطالة والسعار المحموم وراء ملذات الحياة الذي
أفرز بدوره الاستعمار والحروب والتدمير والربا والمجاعات.
وأنكر اليساريون وجود الله تعالى وجميع الغيبيات، وجعلوا المادة أساس كل
شيء، وحاربوا الأديان، وألغوا الملكية الفردية، وحاربوا الأخلاق، وأزالوا كل
معنى من معاني الحرية من وجودهم، وحاربت جميع أفكارهم جميع أحكام الإسلام
وتعاليمه ومناهج الفطر السوية وطبائع الأشياء، وكانت النتيجة أن الشيوعية كما
رأينا لم تثمر في أي بلد زُرِعَت فيه سوى العار والدمار إلى أن سقطت بأيدي
صانعيها وعلى الأرض التي ولدت فيها بعد ما يقارب سبعين عاماً فقط.
وطالب العلمانيون بعزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع، وإبقاء الدين في
ضمير الفرد دون أن يسمح له أن يتجاوز هذه العلاقة الخاصة، أو يسمح للتعبير
عنه في أضيق حدود الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما،
ودعا العلمانيون في البلاد التي هيمنوا عليها إلى نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية،
وفتحوا الباب على مصراعيه لكل طاعن ومطعن في الإسلام وعقيدته وشريعته؛
فماذا أثمرت العلمانية؟
حاكم مسلم يود أن تصير بلاده قطعة من أوروبا، وآخر يلغي الشريعة
الإسلامية ويستبدل بها قوانين وضعية، وآخر يلغي الخلافة، وظهرت الأحزاب
التي عانى منها المسلمون ولا يزالون إلى اليوم مثل حزب البعث وغيره من
الأحزاب القومية والوطنية.
أما الصحوة الإسلامية مقارنة بالأيديولوجيات الأخرى ما ذكرت منها وما لم
أذكر فقد كان لها شأن آخر. لقد أوجدت الصحوة حركة فكرية ثقافية جهادية علمية
في شتى ديار الإسلام تمثلت أبرز مظاهرها في العودة إلى المساجد والإقبال على
صلاة الجماعة من قِبَلِ الشباب، والإقبال الشديد على المعارف الإسلامية والاطلاع
على الكتب خاصة كتب التراث، وكذلك الإقبال الشديد على الشريط الإسلامي
السمعي والمرئي. كما ازداد عدد المحجبات والمنقبات وظهر هذا جلياً بين طالبات
الجامعة بصفة خاصة. كما انتشر بين الشباب إعفاء اللحية وكثر اعتزال الفنانات
والفنانين للفن والتوبة إلى الله والتبرؤ من أعمالهم. كما علا صوت المطالبين
بتطبيق الشريعة الإسلامية وبدأت الحكومات تستجيب على درجات متفاوتة. وبدأت
بالفعل خطوات جادة وجيدة في مجال أسلمة العلوم والمعارف، وكثر إنشاء
المؤسسات الإسلامية لتحل محل المؤسسات الأخرى، فظهرت المصارف الإسلامية
والمدارس الإسلامية، كما أنشئت المراكز والمنظمات الإسلامية في المناطق التي
يضطهد أو يقل فيها المسلمون، وكثرت الملتقيات والندوات التي تقدم فيها البحوث
والدراسات في شتى جوانب الحياة الإسلامية المعاصرة والمستقبلية، وظهرت
الدعوة الجادة للوحدة الإسلامية كما ظهرت الأحزاب السياسية الإسلامية.
هذا بعض ما قدمته الصحوة وأسفرت عنه في الظاهر، أما في الباطن وهو
أمر لا يقل أهمية عما سبق فلقد أثبتت الصحوة للمسلمين عامة وشبابنا على وجه
الخصوص أن الإسلام هو الحل، وأن الإسلام هو الدين، وأن الإسلام هو أقوم
وأفضل وأقصر سبيل للنهوض والتقدم، بل الأكثر من ذلك هو نجاح الصحوة في
إحياء الاعتزاز بالإسلام والاستعلاء به على كافة المعتقدات والأديان الأخرى، حتى
إنك ترى المسلم يُمتحَن بسبب إسلامه ويقبل التضحية بكل شيء: عرضه وماله
وأرضه ولا يترك إسلامه، هذه هي الثمرة. أما الفرق فيصوره قول الحق تبارك
وتعالى: [والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً]
[الأعراف: 58] .
البيان: بعد هذا العرض لإيجابيات الصحوة، نرجو من الدكتور جلال الدين
أن يذكر لنا تقويمه لدور العلماء تجاه الصحوة في الفترة الماضية؟ وما الدور
المطلوب منهم في المرحلة الراهنة والمستقبلة؟
د. جلال الدين صالح: لا يماري أحد أن العلماء صِمَام الأمان، وكل عمل
دعوي ليس للعلماء فيه شأن فهو قحط وجفاف لا يورد الناس إلا موارد الهلاك، ولا
يذيقهم إلا مُرَّ الحنظل، ولكن ليس ذلك لكل عالم، وإنما للعلماء الربَّانيين الذين لا
يشرون بآيات الله ثمناً قليلاً، ولا يكتمون ما أوتوا من البينات، وهم بشكل عام
ليسوا سواءاً في موقفهم من الصحوة، ودورهم فيها يدور بين مواقف ثلاثة هي:
الأول: موقف المؤازر الغيور، والناصح الأمين، والمنافح الصادق، وكثير
من هؤلاء تعهَّد الصحوة الإسلامية بالدعم المالي، والذبّ السياسي، والتوجيه
العلمي؛ فصدرت لهم فتاوى تناصر مختلف قضاياها الدعوية، وكتابات تعالج
قوادح العمل الإسلامي.
الثاني: موقف اللامبالاة، وهو موقف لصنف من العلماء نظروا إلى الصحوة
نظرة من لا يعنيه الأمر؛ فما حملوها، وما حملتهم، وغالب هؤلاء ممن حبس همه
في ملذاته؛ شأنه في ذلك شأن حملة الرسالات الأرضية الذين نعت الإمام ابن القيم
رحمه الله همَّ الواحد منهم بأنه لا يتجاوز (بطنه وفرجه؛ فإن ترقَّت همته فوق ذلك
كان همه مع ذلك في لباسه وزينته؛ فإن ترقت همته فوق ذلك كان في داره،
وبستانه، ومركوبه، فإن ترقت همته فوق ذلكم كان همه في الرياسة) [2] .
الثالث: موقف المعاند والمعارض المعادي؛ ومن هؤلاء نالت الصحوة ما
نالت من التأليب، والتحريض، والانحياز إلى الباطل زلفة إلى أهله، وإيثاراً
لإغراءاتهم، وإغواءاتهم.
وفي هذا الصنف من العلماء قال ابن القيم رحمه الله: (كل من آثر الدنيا من
أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه؛ لأن
أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل
الرياسة، والذين يتبعون الشبهات.. فإذا كان العالِم والحاكم مُحِبَّيْنِ للرياسة،
متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق.. وأما الذين يتقون
فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم حب الرياسة، والشهوة على أن
يؤثروا الدنيا على الآخرة) [3] .
والدور المطلوب من العلماء في المرحلة الراهنة والمستقبلة أن يُكوِّنُوا مرجعية
ذات مؤسسات مستقلة تعالج قضايا الصحوة الشائكة بعمق بعيداً عن المؤثرات
السياسية، والدوائر القطرية، أو الإقليمية وتمسك بِحُجَزِ الشباب من التدين المنفلت
عن ضوابط وروابط الشرع.
المحور الثالث: أسباب القوة وأسباب الضعف:
البيان: لعل الحديث عن إيجابيات الصحوة وسلبياتها؛ يقودنا إلى حديث آخر
مهم، وهو الكلام عن أسباب القوة وأسباب الضعف التي أفرزت ويمكن أن تفرز
المزيد من الإيجابيات أو السلبيات؛ فهل يمكن أن نستعرض هذه الأسباب، ولو
بطريقة إجمالية؟
د. محمد لطفي الصباغ: من أسباب الضعف التي نستطيع أن نذكرها وهي
موجودة في بعض شباب هذه الصحوة المباركة:
اتصاف بعض الشباب الصالحين من شباب الصحوة بالتشنج في الدعوة إلى
فكرة يراها، والرد على المخالفين بشدة، والتعصب لرأي من الآراء وقد يكون هذا
الرأي خطأً، وقد يكون صواباً لكنه ليس من الأهمية بهذه الدرجة التي تظهر من
حديثهم.
اغترار بعض الشباب الأفاضل بكلمات من التأييد يسمعها من بعض الناس،
وتفسيرهم لبعض الظروف على نحو مغاير للواقع، ويكون ذلك التفسير مبنياً على
وَهْمٍ لا نصيب له من الحقيقة؛ فيظن هؤلاء أن موقفهم موقف قوي، وقد يصرحون
بتصريحات أو يتصرفون تصرفات تحمل أعداءهم على توجيه ضربة لهم تتناسب
مع حجم التصريحات أو التصرفات.
التفرق الذي أشرنا إليه قبل قليل، وهذا يسرُّ العدو أيَّما سرور!
التهور الذي نجده عند بعض الشباب، وإقدامهم على بعض الخطوات ...
الضارة. إنَّ سلوك سبيل العنف يضر صاحبه ودعوته أكثر مما يضر العدو.
عدم الاستفادة من التجربة التي مر بها فريق من شباب الصحوة الصالحين،
وعدم دراسة الأخطاء التي وقعت في مراحل دعوتهم وعملهم.
الانفراد بالرأي وعدم الاستشارة عند بعضهم، والاستغناء عن حكمة الشيوخ
المجرِّبين، وقد يكون عند بعضهم سيطرة حظ النفس عليهم والتقصير في التوعية
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما أسباب القوة التي يجب أن يأخذ بها رجال الصحوة، ونساؤها فهي:
أن يتسع صدر هؤلاء الرجال والنساء لمن يخالفهم في الأمور الاجتهادية،
وأن يلجؤوا إلى الحوار مع مخالفيهم، وأن يرجعوا إلى من يثقون به من العلماء
الورعين.
أن يراقبوا أنفسهم ويحرصوا على أن يكون عملهم خالصاً لله، لا حظَّ فيه
للدنيا ولا للنفس.
أن يحرصوا على أداء الواجبات الدينية على أكمل وجه، وأن يأتوا بالنوافل
ولا سيما صلاة الليل، وأن يكثروا من الالتجاء إلى الله سبحانه وأن يدعوه أن
يمنحهم الثبات على الحق ويقويهم على مواجهة العقبات التي تعترض مسيرتهم،
وأن يداوموا على قراءة القرآن ومحاولة حفظ شيء منه.
أن يتعاونوا مع الصالحين من الشباب، وأن يتناصحوا فيما بينهم بالأسلوب
اللطيف.
أن تكون خطواتهم في الدعوة مبنية على تخطيط يلحظ الواقع الذي يعيشون
فيه وطبائع المخاطبين واهتماماتهم.
أن يُعْنَوْا بالتعلم والقراءة المستمرة في الكتب الدينية والتاريخية والسياسية
والتربوية والنفسية، وأن يتعرفوا إلى الأفكار القائمة في عصرهم وينقدوها بميزان
الإسلام.
أن يقدموا خدمات للناس ابتغاء وجه الله؛ فذلك خير عظيم ف (لأن يهدي الله
بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) [4] .
ومن أسباب القوة والمضي في طريق الصحوة أن يبتعد رجالها عن إثارة
العقبات التي توقف العمل، ومن أهم هذه العقبات الاصطدام بالحكام.. هذا ليس من
مصلحة الدعوة.. إن عليهم أن يعملوا في الدعوة إلى الله بالأسلوب الحكيم الذي
يجعل العمل مستمراً.
البيان: من جوانب القصور الذي يشير إليه بعض الناس: التفريط في
توظيف الطاقات البشرية التي تملكها الصحوة الإسلامية، مما أدى إلى انتشار ما
يسمى بالبطالة الدعوية؛ فهل هذا صحيح؟ وما السبيل إلى علاجه؟
د. مانع الجهني: هذا الكلام غير دقيق؛ فالدعوة إلى الله تعالى كما هو معلوم
فرض عين على كل مسلم؛ إذ لا يتصور أن تتم إلا من خلال فريق عمل جماعي
متعاون: هذا يقدم علماً وفكراً، وهذا يقدم دعماً من مال أو جهد أو رأي ومشورة،
وهذا يشفع، وهذا يبلغ، وهكذا. لذا فإن القول بوضع مسؤولية الدعوة على كاهل
الدعاة والعلماء وحدهم إجحاف ومجانبة للصواب، والمتتبع للحركة الإسلامية يرى
أنها بكل ثمارها التي نعايشها اليوم هي ثمرة عمل دعوي جماعي شارك فيه جميع
المسلمين في شتى بقاع الأرض بتفاوت في العطاء؛ فأين هذا من القول بانتشار
البطالة الدعوية؟ !
كما أننا نلحظ خلافاً لما ذكر تنامياً في العمل الدعوي سواء في تطوير مجالاته
كمّاً وكيفاً أو في استحداث مجالات أخرى جديدة؛ فالدعاة اليوم ولله الحمد والمنة قد
وصلوا إلى عامة الناس حتى في القفار والأصقاع والأدغال فضلاً عن المدن
والريف؛ حتى إنك لا تجد مكاناً يعيش فيه مسلمون دون واعظ أو معلم. كما
اتسعت وتنامت حركة التأليف والترجمة والنشر والتوزيع، ولا يمر يوم وإلا
وتطالعنا عناوين جديدة ومطبوعات حديثة. كما أن هناك حرصاً حميداً مشكوراً
لتوظيف كل وسيلة مستجدة لخدمة الدعوة، وشبكة الإنترنت العالمية والمواقع
الدعوية المنشأة عليها التي هي في تزايد مستمر شاهد على ذلك، إضافة لتزايد
المراكز والجمعيات الإسلامية والكليات والمعاهد المتخصصة والمؤسسات
الإسلامية، واتساع قنوات الدعم والعطاء الميمون من قِبَلِ أولي الفضل والإحسان والنهى لدعم خطا الدعوة ونشرها.
الشاهد أن العمل الدعوي بخير وجهوده وإنجازاته مقدرة وتدعو للتفاؤل وتبشر
بالخير. نعم! توجد مآخذ محدودة على بعض شباب الصحوة في الجانب الفكري أو
السلوكي يغلب أن يكون سببها نقص علم أو فهم أو توعية أو تربية، أو استعجال
للنتائج والحماس الزائد، أو التحديات المتزايدة وما تفرزه من ردود فعل قد لا تكون
مناسبة، أقول: هذه الآثار وما شابهها ليست دليلاً على بطالة دعوية أو إخفاق في
العمل إنما هي في رأيي أخطاء واردة؛ إذ إن تخلف السنين لا يفترض أن يُعدَّل في
أيام إنما يحتاج إلى وقت مناسب؛ ولا شك أن مثل هذا العمل الكبير لا يخلو من
أخطاء.
لذا فأنا أقول: إن العمل الدعوي الذي يتسع معناه ليشمل جميع أبعاد العمل
الإسلامي يسير إلى الأفضل. وإن كان من كلمة أقولها للدعاة وعامة المسلمين
وشباب الصحوة على وجه الخصوص فأذكِّر نفسي وإخواني وأبنائي بأن علينا
جميعاً أن نبذل المزيد من الجهد في العلم والالتزام والعمل؛ ليس لأن عملنا الحالي
قاصر؛ فالجهد الذي يقدم يستحق الإشادة والتقدير، ولكن علينا أن نزيد من العمل
والعطاء بما يناسب غاياتنا العظيمة السامية، والنجاح في العمل يعني سُنة حسنة
لكل من عمل فيها أجره وأجر من عمل بها، والأجر الذي نبتغيه ونسأل الله تعالى
أن يهبنا إياه هو سلعة الله الغالية وهي الجنة.
البيان: الخلافات العملية الحاصلة في صفوف فصائل العمل الإسلامي ناشئة
بلا شك عن اختلافات علمية وقلبية؛ فهل من سبيل لتضييق هوة هذا الخلاف؟
د. جلال الدين صالح: لعل من الأنسب أن أورد هنا قول شيخ الإسلام ابن
تيمية في بيان خطورة ما يؤدي إليه التفرق من الهوان وغلبة الأعداء؛ حيث قال
رحمه الله: (وهذا التفرق الذي حصل من الأمة: علمائها ومشائخها، وأمرائها،
وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ فمتى ترك الناس بعض ما أمر الله
به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا
صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب) [5] .
أما أهم سبل تضييق الخلاف فأحسب أن منها ما يلي:
الأول: الإخلاص لله، وتربية القاعدة الإسلامية على خشية الله وحده باعتبار
أن ذلك على رأس كل عمل تعبدي.
الثاني: التحرر من النزعة الحزبية التي لا ترضى بغير إفناء الآخرين أو
نفيهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس للمعلمين أن يحزِّبوا الناس، ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونوا مثل الإخوة المتعاونين على البر، والتقوى) [6] .
الثالث: قبول الحق والميل إليه مهما كان مصدره؛ يقول شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله: (والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وأن لا نقول عليه إلا
بعلم، وأمدنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي، أو نصراني فضلاً عن
رافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون
ما فيه من الحق) [7] .
الرابع: التوالي مع الاختلاف ومجانبة أهل الابتداع في ذلك. يقول ابن
المرتضى اليماني: (الاختلاف مع التعادي والتفرق كما هو عادة أهل الكلام، دون
الاختلاف مع التوالي والتصويب كما هو عادة الفقهاء وسائر أهل العلم) [8] .
الخامس: اعتماد مبدأ النقد وعدم التضجر إذا ما انتقد من نُجلُّ من قادتنا؛
فكما يقول ابن قتيبة: (لا نعلم أن الله عز وجل أعطى أحداً من البشر موثقاً من
الغلط، وأماناً من الخطأ فنستنكف له) [9] .
السادس: مجاهدة الهوى والتخلص من سلطانه؛ فإنه كما يقول شيخنا الشيخ
عبد الله الغنيمان حفظه الله: (اتباع الهوى نوع من الشرك كما قال بعض السلف:
(شر إله عُبِدَ في الأرض الهوى) فإذا صار الهوى هو القائد والدافع صار أصحابه
شيعاً يتعصب كل واحدٍ لرأيه، ويعادي من خالفه ولو كان الحق معه واضحاً؛ لأن
الحق ليس مطلوبه) [10] .
السابع: البحث عن الأعذار، ومكافحة سوء الظن، والإعراض عن
الشائعات. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يحل لامرئ مسلم يسمع
من أخيه كلمة يظن بها سوءاً وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً) [11] .
ولكن لا بأس كما يقول ابن مفلح من إساءة الظن (بمن ظاهره قبيح) [12] .
الثامن: اللجوء إلى التحاور بدل التهاجر؛ فالتحاور يذيب كثيراً من
المشكلات، ويدرأ كثيراً من الموبقات، وهو منهج دعوي يدور بين المؤمنين
والكافرين فضلاً من أن يكون وسيلة تباحث بين المسلمين، ولكن لا بد أن يكون
حواراً بنَّاءاً يؤدي إلى نتيجة عملية، وإلاَّ يُكُنِ الأمرُ كما قال الإمام الأوزاعي رحمه
الله: (إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدال ومنعهم العمل) [13] .
المحور الرابع: استشراف المستقبل:
البيان: في ضوء هذه المعطيات: عن الإيجابيات والسلبيات، وأسباب القوة
وأسباب الضعف، هل لنا أن نستشرف آفاق المستقبل الميمون بإذن الله لهذه
الصحوة، وهل لنا في ضوء ذلك أن نحدد أهم الأهداف التي ينبغي أن تجتمع عليها
قلوب العاملين للإسلام؟
د. محمد لطفي الصباغ: إني أتوقع كما سبق أن ذكرت أن المستقبل
للإسلام، وأن هذه الصحوة ستؤتي أكلها بإذن الله.. ويكون ذلك بالأخذ بأسباب القوة التي ذكرنا أهمها، وبالبعد عن أسباب الضعف التي أشرنا إلى أبرزها. ويكون أيضاً بتعاون العاملين للإسلام.. بتعاونهم على أن يكون الإسلام هو الذي يحكم حياتهم.
الخلاف أمر غير محمود، ولكنه لا يمكن أن يستبعد؛ فعلينا أن نوطِّن أنفسنا
على وجوده وعلينا أن نتعايش معه.
وإني أخالف بعض أهل العلم الذين يقولون: إن الخلاف رحمة.. لا.. ليس
رحمة أبداً، ولو صحّ هذا لكان الاتفاق والاجتماع عذاباً وشراً.. إنه ليس رحمة
ولكنه أمر لا بُدّ منه، فلا ينبغي أن يُصعَّدَ الخلاف حتى يتحول إلى شقاق وعداوة
ويكون سبباً في تفريق صفوف الأمة الواحدة؛ فالله عز وجل نهانا عن التفرق
فقال: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] . وقال: ... [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] .
والناس متفاوتون في الفهم والعلم والإدراك وتقدير الأمور، فلا بد من
الاختلاف ولكن لنحذر من التفرق.
إن علينا ما استطعنا أن نضيّق من دائرة الاختلاف.. أقول هذا؛ لأن من أهم
أسباب القوة التي نرجو أن تكون للصحوة أن يكون المسلمون صفاً واحداً.
لماذا لا نستوعب الخلاف ما دام في دائرة الشرع.. إنّ أصحاب الأفكار
والمبادئ الأخرى عندهم خلافات، ولكن خطوطاً عريضة ومبادئ أساسية تجمعهم.
إن أئمة المذاهب اختلفوا.. بل إن أصحاب المذهب الواحد اختلفوا؛ فكم ترى
من آراء لأبي حنيفة لم يوافقه عليها تلميذاه أبو يوسف ومحمد! وكذلك الأمر في
المذهب الشافعي؛ فللنووي اختيارات خالف فيها المذهب؛ إنها طبيعة ثابتة في
البشر قال تعالى: [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
(118) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] [هود: 118، 119] .
فإذا استطعنا أن نتعايش مع الخلاف ونستوعبه ما دام في حدود الشريعة
وتعاونَّا على العمل للإسلام، وحررنا أنفسنا من سيطرة الهوى، وآثرنا الآخرة على
الدنيا بقدر ما نستطيع، وكنا على مستوى العصر الذي نعيش فيه؛ من حيث
المعرفة، والاستعداد فإن الأمل عظيم بانتصار هذه الصحوة، وسيادتها. ...
ومما يؤيد هذا عندي أن التجربة أثبتت فساد الحضارة المادية المعاصرة..
وها هي دولة الشيوعية الكبرى قد سقطت، وتكشفت حقائق رهيبة عن الشقاء
الأسود الذي كان يعاني منه الإنسان في ظلّها.
وكثير من عقلاء الأوروبيين والأمريكيين يتوقعون سقوط النظام الغربي الذي
يسود الدنيا اليوم.
وبهذا لم يبق إلا الإسلام.
إن عوامل الفساد تنخر في كيان تلك الحضارة المادية الملحدة.. وههنا
ملاحظة مهمة وهي:
أن تقرير هذه الحقيقة الموضوعية لا يُجيز لنا أن نقعد مسترخين ننتظر تحقق
النصر لنا وانهيار الحضارة الغازية.. فهذا أمر لا يقره الإسلام.. بل لا بد من
العمل والصبر، والتضحية والتصويب، والتعليم والتقويم قال تعالى: [إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] [غافر: 51] . وقال
سبحانه: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
[النور: 55] .
البيان: ختاماً هل لنا أيضاً أن نعيّن أهم العقبات التي كانت ولا تزال عائقاً
أمام التطور الطبيعي لحركة المد الإسلامي؟ وكيف يمكن التغلب على تلك
العقبات؟
د. جلال الدين صالح: هنالك أكثر من تحدٍّ يعيق حركة المد الإسلامي، منه
ما هو ذاتي، ومنه ما هو موضوعي، ولن يكون للموضوعي كبير أثر ما لم يكن
قد وطَّأ له الذاتي ومهَّد، وفي التحليل القرآني لكل ما أصاب المسلمين من جرح
وقرح نجد الخطاب الرباني يلفت أنظار المؤمنين إلى ذاتهم: [قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ
مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] [آل عمران: 165] للدلالة على أن العامل الخارجي لا يعمل
مفصولاً عن العامل الذاتي، تماماً كالغصن المنخور من الشجرة لا تسقطه الرياح إلا
لقابليته للسقوط.
ومن أهم هذه العلل الذاتية المعيقة لتطور المد الإسلامي ما يلي:
الأول: قابلية الاستفزاز وإحراق المراحل واختزالها كلها في مرحلة واحدة
خلافاً لسُنَّة التدرج والنمو الطبيعي.
الثاني: نقل التجارب من موقع إلى آخر دون فحصها ودراسة الفوارق
الزمانية والمكانية، ومعرفة المآلات.
الثالث: عدم ترتيب الأولويات، وعدم الموازنة بين المصالح والمفاسد،
والجهل بثغرات المنافع القانونية للاستفادة منها في المجتمعات التي نشط فيها المد
الإسلامي.
الرابع: عدم تصنيف الناس والتعامل مع كل صنف بما يناسبه تحييداً، أو
كسباً أو تألُّفاً.
وأهم ما يمكن أن يعين في التغلب على تلك العقبات أن نتعامل مع الواقع وفق
طاقتنا البشرية، ونتدرج في برنامجنا الإصلاحي، ولا نطوي المراحل كطي
السجل؛ فالمنبَتُّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى. ولا بد أن نعرف أولوياتنا على
ضوء دراسة محيطنا.