مجله البيان (صفحة 3413)

الافتتاحية

العربية وواجبنا نحوها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله

وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإننا بهذا العدد الذي ندخل به العام الخامس عشر من

عمر البيان المديد - بإذن الله - لنؤكد على استمرارنا في النهج العقدي والدعوي

والتربوي في طريقنا المرسوم والمعهود مذكرين في الوقت نفسه بأن لكل أمة

شعارا، (واللسان العربي شعار الإسلام وأهله) [1] ، وما ذاك إلا لارتباطه بأهم ... مقدسات المسلمين، وهما الوحيان: الكتاب، والسنة بالإضافة إلى أن أغلب ما كتب في العلوم الإسلامية كان باللغة العربية. ومن أجل هذا اكتسبت اللغة العربية خاصية تميزها عن بقية اللغات الحية، وهي ثبات أصولها، وتمنعها من التغير، وهذا لا يضاد النمو والتمدد عن طريق الاشتقاق والنحت وغير ذلك من وسائل نموها.

ولهذا كان من واجبات المسلمين - ولاة وأفرادا - العمل على نشر اللسان العربي، والمحافظة عليه، والدفاع عنه، وهذا ما فعله الأسلاف حين نشروا اللغة العربية مع نشرهم للإسلام، وكان لذلك أثر كبير - بفضل الله - في توطين الإسلام في تلك الشعوب التي تعلمت اللسان العربي، وتشبثت به، وكان من أخطاء المسلمين في الأندلس عدم نشر اللغة العربية بين أهل البلاد والتسامح في بقاء لغات أخرى على مستوى اجتماعي عال وكبير مما جعل اقتلاع الإسلام من الأندلس وطمس أغلب آثاره في نفوس أهله من غير العرب سهلا وسريعا، وإن بقيت آثار العربية في اللغة الأسبانية واضحة حتى الآن. وفي هذا العصر توجه إلى اللغة العربية سهام كثيرة من جهات عدة، لا مجال الآن للكلام عنها، وإنما سنوجه كلامنا إلى حال الدعاة مع اللغة العربية وموقفهم من الدعوات المناوئة لها؛ لأنهم أهم الأفراد الذين يجب عليهم نشر اللسان العربي السليم والمحافظة عليه؛ حفاظا على صفاء الدين وتعميقه في النفوس، لتتعامل مع الوحيين بنقاء وفهم أكثر.

وهذه وقفات مع هذا الموضوع:

الوقفة الأولى:

انتشر في الآونة الأخيرة عدة إصدارات صوتية بلهجات عامية مختلفة،

ولقيت رواجا في السوق، مما دعا تسجيلات أخرى إلى احتذاء هذه الطريق، ونشر

مزيد من هذه التسجيلات العامية، وهذه نكسة في طريق تقدم لغة المجتمع واقترابها

من الفصحى. وبيان ذلك: أن المجتمع كان على لهجات عدة، حتى يكاد بعضه لا

يفهم لهجة بعض، وبعدما انتشرت وسائل الإعلام - وبخاصة المسموعة - وكانت

العربية الفصحى لغتها بوجه عام أدى ذلك إلى زوال كثير من المفردات والأساليب

والصوتيات العامية من المجتمع، وقرب الجميع إلى اللغة الفصحى، واقتصرت

العامية على لغة المشافهة الخاصة في الشارع والمجالس، دون تقييد أو تسجيل،

كل ذلك أدى إلى انتشار المفردات الفصيحة، والأساليب السليمة. والموازن بين

كلام الناس الآن وكلامهم قبل مائة سنة أو أقل يرى البون الشاسع بينهما، ويرى أن

كلام الناس اليوم أقرب إلى الفصحى مفرداتٍ وأساليبَ وأصواتاً.

ولكن - وللأسف الشديد - نشط دعاة العامية، ودعوا الى تقييدها في الكتب،

وتسجيلها في الأشرطة المسموعة، مما أعطاها دفعة قوية، وبث الروح في كثير

من كلماتها وأساليبها وأصواتها التي كادت تموت، وهذا لا يستنكر من دعاة

القوميات الأرضية، أو الوطنيات الضيقة، غير المتعلمين للسان العربي الفصيح،

ولكنه يستغرب - بكل أسى - ممن يعلم أن كل دعم للعامية ونشر لها يعني إقصاء

الفصحى وإضعافاً لها، كما يستغرب من دعاة كان المطلوب منهم إعزاز

اللسان العربي والاعتزاز به، لارتباطه بما يدعون إليه، ف (إن نفس اللغة من الدين) [2] ، وإن (اعتياد التكلم به - أي اللسان العربي) أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين ... الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم) ، [3] . ولا يعني ما تقدم أن يطالب عامة الناس بالالتزام باللغة الفصحى؛ فإن هذا في هذا الوقت مطلب كبير، ولكن المطلوب أن تحاصر العامية في أضيق الحدود التي لا تتجاوز المشافهة بين عامة الناس في الشوارع والمجالس، مع تحسينها وتقريبها إلى الفصحى، وبخاصة في مفرداتها وأساليبها؛ فإن هذا ممكن وسهل، وفي المقابل ينبغي أن يبقى الخطاب في المحافل والمجامع والدعوة العامة مكتوبا بالفصحى ومسجلا بها؛ وبهذا نجعل الناشئة تحرص على العربية الفصحى وتعلمها وتقريب الكلام منها، لأنها لغة من ترقى لقيادة الناس ومخاطبة الجموع، ونجعل الناشئة تبتعد عن العامية وتستحي من الخطاب بها؛ لأنها لغة الشارع، ومع الوقت يقترب كلام الناس إلى الفصحى أكثر فأكثر.

الوقفة الثانية:

نجد بعض الدعاة لا يرى حرجا في استعماله الألفاظ الأعجمية في كلامه بلا

حاجة موجبة أو داعية، فتجده يردد في كلامه - على سبيل المثال - مثل هذه

الكلمات: (تلفون - بيجر - ليموزين - كنسل - ترم..) مع اشتهار ترجماتها،

ولو ناقشته في ذلك لذكر لك كراهيته لهذه الألفاظ، ولكن لكونها منتشرة بين الناس

سهل عليه استعمالها واعتيادها، ونسي أن من مهمات الدعاة توجيه الناس نحو

الصواب، لا مسايرتهم في أخطائهم، وربما قال قائل: إن المسألة سهلة، وليست

من مهمات الدعوة، وليس لها أثر كبير في انحراف الناس عن منهج الإسلام

فيقال: نعم! إن هناك ما هو أهم منها، ولكنها أيضا مهمة؛ لما لها من أثر كبير ... في هداية الناس وإعادتهم إلى سيرة السلف الصالح الذين كرهوا الكلام بغير العربية بغير حاجة (فقد كره الإمام الشافعي لمن يعرف العربية أن يتحدث بغيرها، أو أن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وهذا الذي ذكره الشافعي - رحمه الله - قاله الأئمة مأثورا عن الصحابة والتابعين) [4] . (وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه) [5] . وليس أثر اعتياد اللغة الفصحى مقصورا على اللسان، بل يتعمق حتى (يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق) [6] .

الوقفة الثالثة:

انتشر في كثير من البلدان ومنذ سنوات عديدة الاهتمام بالدراسة المتخصصة

بما يسمى بـ (الفلكلور الشعبي) وهو الاهتمام بالموروث الشعبي ودراسته والتنقيب

عنه؛ والأدهى والأمر حينما يدخل فيه ما ورث من عصور الوثنية والتخلف من

المسائل المصادمة للشرع من الاهتمام بالتماثيل وبالمقامات والأضرحة والموالد

وخلافها؛ وانتشر دعاة الفينيقية والفرعونية والبربرية ونحوها من الحضارات

البائدة، وقد حذر من ذلك باحث عربي مشهور هو الدكتور محمد محمد حسين

وكتب عنها موضحا آثارها السلبية تحت عنوان: (حصوننا مهددة من داخلها) .

الوقفة الرابعة:

الاهتمام المنقطع النظير بما يعرف بالآداب الشعبية، وبخاصة ما يعرف بـ ... (الشعر الشعبي: النبطي، والزجل ... وما ينضوي تحت مدلوله من مسميات في

مختلف البلدان العربية) ، نعم فهذا الشعر هو مصدر من مصادر تاريخ أمتنا في

عصور تخلفها يلزم العناية به في حدود هذا الجانب فقط، لا أن يؤصل وتفتح له

المراكز العلمية وتؤخذ بواسطته الشهادات العلمية عن طريق (المستشرقين) الأجانب

الذين لا يعرفون العربية فضلا أن يعرفوا اللهجات الشعبية. وما صدر مؤخرا من

مجلات شعبية إنما يصب في هذا الباب، لا سيما أن جل ما ينشر فيها هو من تافه

القول وبارد الأساليب؛ وإن تساقطت تلك المجلات واحدة بعد الأخرى إلا أنها -

وبلا شك - مظهر انحطاط للأمة لا مظهر قوة أو تطور، فهل نعي ذلك؟

إنها دعوة لإعطاء كل ذي حق حقه، من دون غلو ولا تقصير، لكي تسير

الدعوة لنهضة أمتنا في توازن، ولا تفقد جانبا مها من عوامل أصالتها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015