مجله البيان (صفحة 3403)

اقتصاديات

التثقيف الاقتصادي المعاصر

د. زيد بن محمد الرماني

مضى القرن العشرون وما زال يُطرح الملف الثقافي، وقضية العقل

العربي؛ إلى جانب أدبيات هائلة حول هذين الموضوعين مثل: الهوية الثقافية،

مسائل الثقافة، وإشكاليات الفكر، أزمات الثقافة، الغزو الثقافي، والتثاقف..

وتطول قائمة القضايا والمفاهيم. إنّ ثقافة الصورة في قوة أثرها وانتشارها تمثل

فرصة غير مسبوقة في تاريخ البشرية للإعلام والتوعية والتثقيف؛ إنها فرصة

للتوعية والتربية والتنشئة. فقد دخلت التكتلات الصناعية الكبرى [1] إلى مجال

الإعلام وثقافة الصورة، وفرضت سيطرتها عليه من خلال مداخل متعددة القنوات:

محطات التلفزيون الرئيسة ذات السياسة الإعلامية الموجهة نحو ثقافة الاستهلاك،

وشركات المعلوماتية ذات الطابع التجاري الربحي، وشركات التلفزيون التي تمول

إنتاج مسلسلات تلفزيونية خاصة، والشركات الكبرى المهتمة بنشرات الأخبار،

وشركات البث المعنية بالتغطية الإعلامية للأحداث التي تتصف بالإثارة والإبهار

وشد انتباه المشاهدين. يقول مصطفى حجازي في كتابه: (حصار الثقافة) : (إن

المقارنة البحثية لبرامج القنوات الدولية التي تتخصص في الأخبار، وتلك التي

تتخصص في التسلية والترويح تبين أن هناك مكونات أساسية أصبحت تشكل

ملامح البرامج ومحتوياتها) [2] . نشرة الأخبار على سبيل المثال أصبحت مقننة

في عناصرها في العديد من المحطات: أخبار الأحداث، الإعلانات، سوق المال،

الطقس، والرياضة. إننا بصدد تكثيف المعلومة، وإحاطتها بأكبر قدر من الزخم

في المحتوى وضغط الزمن إلى أقصى الحدود الممكنة، سواء في الأخبار أو

الإعلانات. لقد أصبحت أخبار الأسهم [3] وأسواق المال مكوناً أساساً من مكونات

نشرات الأخبار عالمياً ومحلياً. وتحمل الشاشات في بنية أخبارها مشاهد أسواق

المال وأسعار العملات والمؤشرات صعوداً وهبوطاً، كما تحمل حركة وكلاء

البورصة ومشاهد آلات عدّ النقود. والسؤال الملحّ: لماذا هذا التركيز على أخبار

أسواق المال؟ ! مع العلم أن الخبراء والمتعاملين في هذه الأسواق لهم شاشاتهم

الدائمة التي توافيهم بتحركات السوق المالية الكونية؛ فهل المقصود التثقيف المالي، أم أن المقصود هو جعل المال والسوق المالية مرجعية أساسية عند المشاهد سواء

أكان يملك أم لا يملك؟ ! ثم: ألا يفتح هذا الأمر الباب لتحويل الناس إلى قناصين

للفرص: هوس الأسهم والاستثمارات المالية؟ أوَ لا يفتح شهية تجربة الحظ الذاتي

في الدخول إلى حيلة رأس المال الطيار، وإحلال الحس المالي محل العلم والجهد

والعمل والإنتاج؟ الغائب الأكبر في كل ذلك هو ثقافة الجهد والإعداد والتدريب

والإنتاج أمام إغراءات الربح السريع. ففي بحثها عن الإثارة وجذب المشاهدين

تركز الشاشات التجارية على النجومية على اختلاف ألوانها. وتعطي لأخبار النجوم

من المساحة ووقت البث ما لا يقارن مع الأوقات المتخصصة للموضوعات الأخرى. على أن الرياضة على الشاشات أصبحت أبرز مجال للنجومية. والإعلام المرئي

يسّر سبل المتعة والمشاركة الرياضية لمئات الملايين من المشاهدين على سطح

الكوكب في مختلف المباريات. وتحولت الرياضة إلى لحظات الحماس للإنجازات

الخارقة والتنافس على تجاوز الذات كما وجدت نوعاً جديداً من الشراكة العالمية

وفرصها بفضل الشاشات المتلفزة [4] . على أن للمسألة جانباً آخر خفياً لا بد من

الوقوف عنده؛ إذ حُوِّلت الشاشات بقدرتها على البث، وانطلاقاً من أخلاقيات

اقتصاد السوق الرياضية إلى سلعة يتم التعامل معها؛ حيث تتحول الرياضة إلى

سلعة، وأصبح ذلك ظاهرة شبه كونية من خلال الشاشات التلفزيونية. فالنجومية لم

تعد تقاس بأدائها المبدع فقط، بل كذلك بأثمانها: كم كسب النجم الفلاني؟ وبكم

يساوي بالمقايضات بين الأندية؟ والكسب ليس بالقليل على أية حال؛ فما يكسبه

نجم عادي خلال موسم رياضي يزيد عن رواتب أساتذة كلية بأكملها من ذوي الرتب

والرواتب العالية والمناصب الأكاديمية. ومع النجومية وتحويل الرياضة إلى سلعة

بدأت تنحرف الأخلاقيات الرياضية النبيلة، وبدأت تظهر أخبار الصفقات والفضائح

على مستوى الأندية واللاعبين والمستثمرين والمديرين! وكذلك فإن التحالف

التجاري بين الشاشات المتلفزة وشركات الإعلان وإنتاج المواد الرياضية أصبح

يشكل سوقاً مالية ذات شأن عظيم. إن نجومية الرياضة كما هي نجومية الفن لم تعد

غريبة عن ثقافة الربح.. أما نجومية الجهد والإنتاج والعلم فتقبع في مكانها

المتواضع. وبعض المفكرين يأخذون على القنوات التجارية تحولها إلى قنوات

للتسلية والترفيه؛ وهو ما يبقيها على سطح الأحداث، ويجعل منها أدوات للتمويه

وتغيير صورة الواقع المرح. والتسلية تعليق للفكر واستسلام واستئناس بالأحاسيس

السارة ومتع اللحظة الراهنة إذا كانت هي أساس البرامج ومادتها الرئيسة.

كبريات الشركات التلفزيونية تتسابق في صناعة المتعة والتسلية:

فحسب تقديرات الخبراء [5] أن الإنفاق الإعلاني العالمي بلغ حوالي ... 620 مليار دولار سنوياً، أي ما يقرب من ضعف الدخل العالمي من النفط. وهو مرشح للتزايد كي يصل تبعاً لبعض التقديرات إلى حوالي 1000 مليار دولار عام 2000م. لقد أصبح الإعلان صناعة تقوم على أسس فنية وعلمية، وتعمل لعنان لخيال أعضائها كي تولد الأفكار الأكثر طرافة وجدة، وإمكانية تأثير ونفاذ، أو خروج عن المألوف؛ كي تصاغ في إعلانات مبتكرة عن مختلف ... السلع.

ومن ثم تكتسب السلعة (موضوع الإعلان) قيمة استهلاكية وخيالية ووجدانية ليست لها بالأصل؛ فالبيبسي تركز على مرح الشباب وجمال الصورة واللون وإرواء العطش، حتى صارت تعتبر مشروب الشباب.

والعطورات ومساحيق الجمال أصبحت تربط بالحسناوات وملكات الجمال. وأما أغذية الأطفال فإنها تربط بالطفل المدهش جمالاً وصحة وسعادة. وهكذا تقوم سياسة الإعلان على بيع الأحلام، ودغدغة المشاعر وإثارة الرغبات من خلال مختلف أشكال الربط ما بين السلعة والصحة أو الجمال أو الجاه أو الشباب.

الإعلان ابن لاقتصاد السوق، فهو إعلان استهلاكي [6] ، ويندر أن نجد إعلانات عن الأداء أو الإنتاج. وإذا أغرق المشاهد بالإعلانات الاستهلاكية فإننا سنكون أمام صناعة ثقافة الاستهلاك ليس إلاَّ؛ وبذلك يصبح الاستهلاك هو القيمة وهو المرجع والموجّه.

* ولكن، ماذا بخصوص من لا يملكون القدرة على الاستهلاك: كيف

سيمارسون حقهم في الاختيار إذاً؟ إنها أسئلة تظل مطروحة على الساحة في حاجة

ملحة لإجابات مقنعة. والحقيقة أنه ليس هناك من حالة تعبِّر عن ثقافة السوق [7]

بقدر الإعلانات التي تدعو إلى متعة الاستهلاك الآني. إننا بصدد الإثارة والمتعة

على الأقل إذا استعرضنا واقع الإعلان التجاري الذي يغمر الثقافة المرئية. لقد

سيطر الإعلام المرئي على الثقافة، وسيطر الإعلان على الإعلام. إن المشكلة

ليست في الإعلان بحد ذاته؛ بل في توجهاته والقيم الاستهلاكية التي يروِّجها.

والمشكلة أن العالم العربي كالعالم الثالث يستهلك هذه الثقافة الجديدة عن طريق

الاستيراد أساساً؛ نظراً لفقر إمكاناته في مجال الإنتاج. إننا لا ندعو إلى حظر

التسلية والترويح والمتعة وبهجة الحياة، بل ندعو إلى بذل الجهد للاستفادة من

الفرص التي توفرها تقنية الإعلام للارتقاء بنوعية الحياة في العمل والجهد

والتدريب والتأهيل، كما هو متوفر في مجالات الانتماء والتسلية والترفيه والتثقيف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015