من مشكاة النبوة
حديث الفطرة
محمد سليمان
نص الحديث: في الصحيحين، واللفظ للبخارى عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها
من جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] [الروم: 30] ، قالوا يا رسول الله: أفرأيت
من يموت صغيراً؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
ما هي الفطرة:
الفطرة هنا هي الإسلام، فكل مولود يولد مسلماً كما جاء في الصحيح من
رواية الأعمش (على الملة) [1] ، وكما ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حمار
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه أنه قال: «خلقت عبادي
حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي
ما لم أنزل سلطاناً ... ، وفي رواية حنفاء مسلمين، والحنيف في لغة العرب
المستقيم المخلص.
وكذلك حديث (خمس على الفطرة..) (أي فطرة الإسلام، وقوله سبحانه:
[الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] فهذا يعم جميع الناس كما أن إضافة الفطرة إليه سبحانه
هي إضافة تشريف ومدح كقوله: ناقة الله، أو قول الرسول -صلى الله عليه
وسلم- عن خالد ابن الوليد (سيف الله) والذي يمدح هو الإسلام.
ومن معاني الفطرة ذلك الإقرار بالرب نتيجة الميثاق الذي أخذه من ذرية آدم.
قال تعالى: [وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ
ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] [الأعراف: 172] .
فهذا يعني أن الخلق مجبولون على المعرفة بالله، فهو شيء يجدونه في
أنفسهم لا يستطيعون له دفعاً، وإذا أصابتهم ضراء، دعوا الله ورفعوا إليه أكفهم.
فمن أين جاءهم هذا التوجه إلى الخالق وأنه هو الذي يستطيع رفع الضر، إنها
الفطرة المركوزة فيهم،
ولولا أن في النفس قابلية لمعرفة الله ومحبته والذل له لما استطاع التعليم
والتذكير أن يؤثر فيها، فقوة المحبة لا تأتي من الخارج، وإنما هي شيء في
الداخل.
ولما دعا الرسل أقوامهم إلى عبادة الله دعوهم إلى من يعرفونه ولم ينكر
دعوتهم أحد ويقول: وما رب العالمين؟ وأما إنكار فرعون فهو إنكار العارف كما
قال تعالى: [وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُواً] [النمل: 14] وكما قال
له موسى عليه السلام: [لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ
بَصَائِرَ] [الإسراء: 102] .
ويرشدنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن تغيير هذه الفطرة يقع بتأثير
الوالدين أو تأثير البيئة. ولذلك شبه المولود بالبهيمة الجمعاء التي تولد سليمة
مجتمعة الخلق لا تغيير فيها ولا تشويه، ولكن الناس يغيرون خلقها بعدئذ فيشقون
آذانها أو غير ذلك، فالفطرة لو تركت دون تأثير خارجي، سواء من الوالدين أو
غيرهم، وأزيحت عنها العوائق من الشبهات والشهوات فهي مقتضية بذاتها لدين
الإسلام.
قال ابن عبد البر: وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزئ
الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع؟ قال: نعم لأنه ولد على الفطرة. وقول الإمام
أحمد في سبي أهل الحرب أنهم مسلمون إذا كانوا صغاراً وسبوا ولم يكن معهم
الأبوين.
وليس معنى أنه يولد مسلماً أنه يعلم الصلاة والصيام وأمور الإسلام، بل هذه
يتعلمها بعدئذ، قال تعالى: [واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً]
[النحل: 78] ، ولكن معناه أنه لو ترك عن التأثير لكان مسلماً واتجه إلى الله، ثم
يأت دور التعليم والإرشاد وإقامة الحجة، وإقامة العذر ببعثة الرسل التي تكمل
الفطرة، فلابد من نور النبوة مع الفطرة السليمة. كما أن الفطر تختلف فبعضها
يحتاج إلى تعليم أكثر وتحضيض وتذكير، ولكن القابلية موجودة.
الكفر طارئ:
إذا كانت الفطرة تقتضي الإسلام، فهذا يعني طروء الكفر وأنه ليس هو
الأصل في النفس البشرية، وقوله تعالى: [لا تَبْدِيلَ لِخَلْق ِاللهِ] أي لا تبديل لدين
الله. وهو معنى [كان كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ
وأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ... ] الآية.
أخرج ابن كثير في تفسير هذه الآية قوله قتادة: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً] ،
قال: كانوا على الهدى جميعاً ثم اختلفوا [2] .
وأما ما جاء في سورة الكهف في قصة موسى -عليه السلام- والرجل الصالح
الذي قتل الغلام، فلا يعني هذا أن كفر هذا الغلام كان موجوداً حين الولادة، لذلك
جاء في الحديث الصحيح:» أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً،
ولو بلغ لأرهق أبويه طغياناً وكفراً «فقوله: طبع أي طبع في الكتاب، أى قُدّر
وقضي فهو مولود على الفطرة السليمة ولكن يتغير بعدئذ فيكفر، كما أن البهيمة
التي ولدت جمعاء وقد سبق في علمه سبحانه أنها تجدع كتب أنها مجدوعة، بجدع
يحدث لها بعد الولادة.
وقد قتل الصحابة في سرية من السرايا أولاد المشركين فأنكر عليهم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقالوا: أليسوا أولاد المشركين، فقال: أليس خياركم
أولاد المشركين؟ ثم قام فيهم خطيباً فقال:» ألا إن كل مولود يولد على الفطرة
حتى يعرب عنه لسانه «، فهذا يبين أن الكفر طرأ بعد ذلك.
كما أن قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: فأبواه يهودانه ... فلا
يعني أن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره، بل هو تهود وتنصر باختياره ولكن
الأبوين كانا سبباً في ذلك بالتعلم والتلقين والتربية، وهو بقدر الله أيضاً.
شبهات وردها:
1- قد يقال أن الفطرة هنا معناها السلامة وذلك بأن يكون قلبه صفحة بيضاء
قابلاً للإيمان أو قابلاً للكفر، أو كاللوح الذي يقبل أي كتابة. وهذا القول قول فاسد
لأن الذي يكون قابلاً للمدح والذم لا يستحق مدحاً كقوله تعالى: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] وكان ينبغي أن يقال: فأبواه يهودانه أو ينصرانه ... أو
يسلّمانه، وعلى هذا الفرض فلا يكون في القلب سلامة ولا عطب، ولا استقامة ولا
زيع، كالورق قبل أن يكتب فيه القرآن، أو يكتب فيه كفر بالله، أو كالتراب قبل
أن يبني مسجداً أو كنيسة فهذا لا يستحق مدحاً ولا ذماً.
وأهل البدع يقولون: لم يولد أحد على الإسلام، ولا جعل الله أحداً مسلماً ولا
كافراً، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطاهما قدرة تصلح للإيمان والكفر. فهذا أحدث
لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام، وأن الله لم يختص المؤمن بتوفيق الهداية،
وهذا مخالف للحديث ومخالف لعقيدة أهل السنة.
2- وقد يقال: إن الفطرة السليمة لو تركت لاختارت المعرفة بدل الإنكار،
والإيمان على الكفر، كما أن في الجسم السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة، فهذا
إن كان يعني أنه لابد من تعلم بواسطة الأدلة، وأنه إن لم توجد هذه الأدلة فإن
الفطرة لا تستطيع الإيمان. فالرد عليه أن الفطرة مُدحت لذاتها وأنها إذا سلمت من
الشبهات والشهوات فهي تقر بالخلق، وإن كان مقصوده أن في الفطرة قوة تغلب
الدين الحق على غيره ولكنها بحاجة إلى التنبيه والتذكير فهذا صحيح مع العلم أن
المعرفة وحدها لا تكفي، بل لابد من عبادة الله بالمحبة له والذل له.
3- عندما نقول أن أولاد الكفار على الفطرة فهذا لا ينافي أن يكونوا تبعاً
لآبائهم في أحكام الدنيا، مثل حضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم،
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها ولم
يرد به الإخبار بأحكام الدنيا، فقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن
ويكتم إيمانه والمسلمون لا يعلمون حاله، فهو عندهم كافر في ظاهر الأمر فلو فتحوا
هذه البلاد جهاداً في سبيل الله فربما قتلوه على أساس أنه مشرك، والطفل يولد على
الفطرة، ولكنه لو أسر مع والديه الكافرين فسيبقى معهم.
نزعة التدين وأصالتها:
ما إن أطل القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديان حتى امتلأت أوربا
غروراً بالعلم المادي الذي اخترعته وانتفش الكفر وعبد هذا الصنم الجديد من دون
الله، وقالوا ان العلم ينافي التدين، واستثمر الماكرون هذه المقولة لإبعاد الدين عن
الحياة، ثم ظهرت بعدئذ الدراسات الاجتماعية وتوسعت وتعمقت في موضوع طبائع
الشعوب وعاداتها، وظهر علم مقارنة الأديان وتبين أن نزعة التدين لا يخلو منها
شعب في القديم والحديث، وعند أشد القبائل وحشية وتأخراً، وعند أشد الأمم تمدناً، ورقياً مادياً.
يقول معجم (لاروس للقرن العشرين) : (إن الاهتمام بالمعنى الإلهي هو إحدى
النزعات العالمية الخالدة للإنسانية، والغريزة الدينية لا تختفي بل لا تضعف ولا
تذبل إلا في فترات الإسراف في الحضارة، وعند عدد قليل جداً من الأفراد) [3] .
ويقول شاشاوان: (مهما يكن تقدمنا العجيب في العصر الحاضر، فإن عقلنا
في أوقات السكون والهدوء (عظاماً كنا أو متواضعين، خياراً كنا أو أشراراً) يعود
عقلنا الى التأمل في هذه المسائل الأزلية: لم، وكيف كان وجودنا ووجود هذا
العالم؟) [4] .
ويقول الشيخ محمد عبد الله دراز -رحمه الله-:» ما هذه إذاً تلك القوة التي
لا تزيدها المقاومة إلا عنفاً واشتعالاً أليست هي قوة الفطرة التي تورق وتثمر كلما
عاودها الربيع فبلّل ثراها وسقى أصولها؟ بلى! وإن هذا قد تكفي منه قطرة،
وربما يتبلور في نظرة، فما هي إلا طرفة من تأمل الفكر أو لحظة من يقظة
الوجدان، أو أزمة من صدمات العزم فإذا أنت مع عالم الغيب الذي منه خرجت أو
في عالم الغيب الذي إليه تصير « [5] .
وقد عبّر ديكارت في تأملاته عن هذه الفطرة: (إن مفتاح هذه العقيدة (وجود
الله) موجود في نفسه، (في نفس الإنسان) كلما شعر بالفرق بين الشك واليقين أو
بين الجهل والعلم، وكلما قرأ في لوحة نقصه عنوان (الكمال) الذي ليس له،
فالكمال هو أسبق في العقل من فكرة (النقص) فإن من لا يعرف الشيء لا يتفقده ولا
يحس بحرمانه حين يفقده، إذ كيف أعرف أنني ناقص لو لم تكن عندى فكرة كائن
أكمل مني أجعله مقياساً، أعرف به مواضع نقصي، فالرغبة في الكمال وحدها
دليل أسبقية وجود هدفها في التصور العقلي وليست هذه الفكرة اختراعاً وفرضاً
خيالياً بل هي ضرورة تفرض نفسها على عقلي، فلا بد أن تكون ذات خارجية هي
مادة الكمال المطلق ومصدره وهي المثل الأعلى) [6] .
دروس في الدعوة:
هذا الحديث النبوي أصل من أصول الدعوة الى الله، فعندما نخاطب الناس
بأن معبودهم هو الله -سبحانه وتعالى- وليس أحداً غيره فإنما نخاطب شيئاً مركوزاً
في النفس الإنسانية وإذا أزيح ما علق بها من شوائب الشبهات والشهوات رجعت
إلى فطرة سليمة.
والذين يتعبون أنفسهم كثيراً في إثبات وجود الله وأنه هو الخالق لهذا الكون،
ويثبتون ذلك بالأدلة العلمية أو المنطقية، إلى هؤلاء نقول: هونوا على أنفسكم
فليست المشكلة بيننا وبين الناس أنهم ملحدون لا يؤمنون بوجود الله بل المشكلة
الحقيقية هي أنهم لا يريدون الخضوع بالعبادة لهذا الإله فهم متبعون لشهوتهم
وعاداتهم أو لكبريائهم وتجبرهم في الأرض أو أن الشبهات التي سمعوها عن
الإسلام تبعدهم عن الاستجابة، والذين يظهرون الشك أصلاً والإلحاد بوجود الله هم
فئة قليلة على مدار التاريخ والشيوعية المعاصرة والتي هي أزمة من أزمات
الحضارة الغربية لم تستطع الاستمرار في معقلها لأنها تصادم الفطرة، وهاهي
تتنازل عن مبادئها سنة بعد سنة ولم يستطع إرهاب السنوات السابقة أن يقتلع جذور
التدين عند الشعوب التي أخضعها الروس لحكمهم.
وحتى إذا أردنا إقناع هذا الشيوعي الملحد بوجود الله بأدلة علمية ومنطقية،
فهل نضحي بالمنهج في سبيل هذه القضية وتتحول الكتابة والدروس والمحاضرات
لإثبات وجود الله بينما كان الأصل هو إزالة ماران على قلوب الناس من زيغ
وتذكيرهم بالله الذي يعرفونه وأنه هو الذي يستحق الطاعة والمحبة والعبادة، وكل
خضوع لغيره فإنما هو الدمار ولا نريد أن نعلمه شيئاً هو يملكه، ولكن يجب أن
نعلمه الإيمان الذي يتحول إلى طاقة إيجابية.
والرسل دعت الأمم إلى عبادة الله الذي يعرفونه ولذلك قالوا لهم: [أَفِي اللَّهِ
شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] فهذه بديهية لا أحد يشك فيها.
إن الحديث عن آيات الله في الآفاق والأنفس حديث مهم، والقرآن دعا إلى
التفكر في خلق الله وأمره، مما يدعو إلى زيادة الإيمان واكتشاف سنن الله في خلقه
وسنن الله في التغيير وقد يأتي بعض الناس إلى الإسلام عن هذا الطريق، ولكن
هذا كله وسيلة إلى الغاية الأساسية، وهي خضوع الناس لشرع الله وأن تكون
عبادتهم خالصة له.
والأولى أن تتجه الدعوة إلى المسلمين الذين هم في بعد عن الدين الذي أنزله
الله وفي جهل بحدود وشرائع الإسلام، وذلك قبل أن تتجه إلى فئة قليلة من
الملحدين المستهزئين الذين يشغلون المسلمين بجدل عقيم وغالبهم لا يقصدون
الوصول إلى الحق، والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو سيد الدعاة وهو الذي
يجب أن نقتبس من نور نبوته.