المسلمون والعالم
عبد العزيز كامل
أعدت إسرائيل قوائم من المطالب والشروط التي تشترط على العرب والعالم
أن يوافقوا على تلببيتها إذا ما أرادوا أن تعاد الجولان عندما دخل العرب الحرب
عام 1948م، كان هدفهم تحرير الشق الذي أعلن اليهود دولتهم عليه من أرض
فلسطين، ولكن العرب لم يفلحوا في ذلك، واحتل اليهود المزيد من الأراضي،
وعندما دخلت جيوش العرب الحرب سنة 1967م لتحرير ما سبق احتلاله لم يفلحوا
أيضاً بل خسروا المزيد والمزيد من الأراضي (القدس الشرقية سيناء الجولان الضفة
الغربية غزة) ثم كانت حرب 1973م، لا لتحرير فلسطين ولا القدس ولكن لتحريك
الأوضاع من أجل التفاوض لاستعادة مصر لسيناء التي احتُلت، ولاستعادة سوريا
للجولان التي ضاعت في تضاعيف قصة مثيرة وغامضة لا مجال للحديث عن
تفاصيلها الآن [1] ، ولا يجادل عربي مسلم في أن من حق سوريا أن تسترد ما
اقتطع منها، ولكن السؤال: ما هو الثمن؟ ! لقد أعاد الإسرائيليون سيناء إلى
مصر منزوعة السلاح لقاء ثمن باهظ دفعته الأمة كلها لا مصر وحدها ولا تزال
تدفعه وهو تعهد أكبر قوة عربية بالتخلي عن الدخول في أي عمل عسكري مستقبلاً
ضد (إسرائيل) من أجل فلسطين أو غيرها، لا مشاركة ولا انفراداً، ولم يكن هذا التعهد شفوياً، بل كان وفق اتفاقات دولية ملزِمة تشرف على تنفيذ بنودها القوى العظمى. وعبثاً حاول العرب أن يبعثوا الحياة في رفات مبدأ (قومية المعركة) الذي صاغه وأنعشه عبد الناصر وصنع نعشه أنور السادات، ولكن دون جدوى، ولم يعد أمام أصحاب الأراضي الأخرى التي ضاعت في الحرب إلا أن يسترجعوها عن طريق السلام بأثمان لا تقل فداحة عن الثمن الذي استُرجِعَت به سيناء.
الجولان.. وربع قرن من الضياع:
انكمشت آمال حزب البعث بعد خروج مصر من المعركة، وظل
تحرير الجولان طيلة ما يزيد على ربع قرن هو قصارى ما يحلم به بعثيو سوريا.
والجولان التي تبلغ مساحتها 1800 كيلو متر مربع تمثل أهمية كبرى للسوريين
والإسرائيليين على السواء، ولهذا يشتد النزاع في فصله الأخير حولها، وقد كانت
لها على مر التاريخ أهميتها بسبب ارتفاع هضبتها، وغناها بالماء، وموقعها ...
الجغرافي الذي شكل منها في العصور المختلفة محطة مهمة من النواحي العسكرية
والتجارية، وإطلالتها على بحيرة (طبرية) عذبة الماء جعلها محط التنافس منذ القِدَم، ولهذا كانت ساحة للمعارك في التاريخ القديم بين الفراعنة والكنعانيين، وبين
المصريين والآشوريين. ويزعم الإسرائيليون أن موسى عليه السلام استقر فيها بعد
خروجه من مصر كما يقول الحاخام (موئي حولان) [2] .
ولما جاء الإسلام وتوجه نظر المسلمين إلى فتح بيت المقدس، كانت منطقة (الجابية) على أرض الجولان هي مكان اللقاء الذي جمع بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما للتنسيق من أجل استمرار الجهاد على أرض الشام تحت إمرة أبي عبيدة رضي الله عنه. وقد سكنت الجولان في العهد التركي أعداد كبيرة من الشركس والتركمان، ولما حصلت النكبة عام 1948م نزح إلى الجولان عدد كبير من الفلسطينيين، أما عندما سقطت في يد اليهود في حرب 1967م، فقد ملؤوها بالمستوطنين اليهود بعد أن أخلوها من العرب المسلمين باستثناء الدروز الذين لا يُحسَبون لا على المسلمين ولا اليهود ولا النصارى! وإن كانوا لليهود أقرب ولاءاً وخلقاً. لقد وضع اليهود أعينهم على الجولان، حتى قبل أن يقيموا دولتهم؛ ففي عام 1918م وقبل أن يعلن (بن جوريون) الدولة بثلاثين عاماً أكد بأن الدولة اليهودية عندما تقوم لا بد أن تضم ما أسماه (سنجق سوريا) أي الجولان وما وراءها، وقد طالبت المنظمة اليهودية العالمية في رسالتها لمؤتمر السلام المنعقد في باريس في 3/2/1919م، بأن تضاف إلى الدولة اليهودية حين إقامتها منطقة جبل الشيخ على مرتفعات الجولان نظراً لأهميتها الحيوية أمنياً ومائياً، وبعد ذلك بعام ألحَّت الحركة الصهيونية على لسان زعيمها في ذلك الوقت (حاييم وايزمن) على بريطانيا لكي تجعل الجولان ضمن أجزاء الكيان اليهودي المزمع إقامته، وكان ذلك في رسالة بعثها وايزمن لوزير الخارجية البريطاني في (حاييم وايزمن) على بريطانيا لكي تجعل الجولان ضمن أجزاء الكيان اليهودي 15 /4/1920م. ولكن يبدو أن الأجواء الدولية لم تكن تسمح في ذلك الوقت ولا قريباً منه بتحقيق ذلك المطلب الصهيوني الملحّ، فلما قامت الدولة، وتأسس الجيش، واستعدت (إسرائيل) للتوسع، والانتشار، جعلت الجولان على قائمة أولوياتها عندما تحين الفرصة. وجاءت الفرصة: وذلك عندما حصل تسخين استفزازي في عام 1967م على الجبهة السورية من قِبَلِ بعض الفصائل الفسلطينية التي استعملها البعث السوري تحت شعار: (شعبية المعركة) ذلك الشعار الذي هددت به سوريا إسرائيل بأن تنقل الحرب إلى داخلها، وكان ذلك في وقت تألق فيه نجم عبد الناصر في مصر بعد أن نصَّبته الجماهير العربية المخدوعة زعيماً فرداً سيحرر فلسطين بل العرب جميعاً ويلقي بـ (إسرائيل) في البحر! ولم تكن الذريعة القادمة من سوريا كافية فقط لدخول اليهود إلى أراضيها واحتلالهم للجولان بل كانت فرصة لا تعوض لتحقيق هدف آخر كان أخطر وأكبر وأوْلى في نظر اليهود من الجولان، وهو جر عبد الناصر إلى معركة لم يكن راغباً فيها ولا قادراً عليها ضد (إسرائيل) وهذا ما حدث تماماً في حرب الأيام الستة التي حُطِّم فيها الجيش السوري والجيش المصري، وهما دعامة الجيوش العربية. وقد ظلت الجولان تحت سيطرة اليهود طيلة ثلاثة عقود، برهن الإسرائيليون خلالها على أن أمن سوريا مرهون بمرتفعات الجولان، التي تجعل دمشق في مرمى ... النيران الإسرائيلية، في الوقت الذي تعتبر الجولان نفسها ضماناً لأمن (إسرائيل) طالما ظلت تحت سيطرتها؛ فالدولة العبرية لا ترى أبداً أية إمكانية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بأن تُعاد الجولان كما كانت تحت سيادة سورية كاملة، وإن كان لا بد من إعادتها فلا بد من شروط كالشروط التي وضعت لإعادة سيناء، ومنها:
الشرط الأول: ألا تُعاد الجولان إلا منزوعة السلاح، وترتب فيها ضمانات أمنية تسوِّي تماماً إن لم تزد بين وضعها قبل الإعادة ووضعها بعدها بالنسبة لـ (إسرائيل) ، وقبل أن تجمَّد مفاوضات السلام بين سوريا ... و (إسرائيل) عام 1996م استغرقت الترتيبات الأمنية بشأن الانسحاب من الجولان أكثر الوقت، وكانت هذه القضية سبباً في تحطم جهود وزير الخارجية الأمريكي آنذاك (وارن كريستوفر) خلال نحو 20 جولة، كانت (إسرائيل) خلالها تصرُّ إلى جانب نزع السلاح على الاحتفاظ بمحطات إنذار مبكر على جبل الشيخ [3] . إن (إسرائيل) تريد أن تحول المطالب الأمنية إلى وضع استراتيجي يحقق لها مزيدا من التفوق، في الوقت الذي تتصلب فيه تجاه تنازلات جوهرية للعرب، هي في رأي باراك تتعارض مع شعار حزبه: (إسرائيل واحدة) فهو يخشى من تناقص التأييد لمشروعه في السلام، إذا لم يرَ فيها الشعب الإسرائيلي بقرة حلوباً تدر الثروة وتمنح الحراسة والأمن.
الشرط الثاني: أن تعترف الحكومة السورية بـ (إسرائيل) اعترافا كاملاً، وتتبادل معها السفارات وتطبِّع معها العلاقات؛ بل إن (إسرائيل) ربطت مدى الانسحاب بمدى الاستعداد للتطبيع، وأطلقت في الآونة الأخيرة شعاراً جديداً يقول: (عمق الانسحاب سيكون بعمق السلام) ! ومعنى هذا أنهم أي الإسرائيليين لن ينسحبوا انسحاباً كاملاً، كما تطلب سوريا إلا إذا حصلوا ... منها على تطبيع كامل! وهذا يعني ببساطة إلحاق حزب البعث العربي القومي السوري بالحظيرة التي سبق أن شنَّع عليها وعلى أصحابها وهي (كامب ديفيد) [4] ... وعند ذلك سيتتابع العرب في دخول بيت الطاعة وولوج عتبة دار السلام اليهودية الأمريكية، وعند ذلك أيضا تكون قد أُغلقت آخر حوانيت الكفاح ودكاكين النضال في سوق ما كان يعرف بـ (القومية العربية) !
الشرط الثالث: أن تتقاضى الحكومة الإسرائيلية مقابلاً مقنعاً ومشبعاً لجشع الشعب الإسرائيلي حتى يمكن أن يصوِّت بالموافقة على الاستفتاء الشعبي الذي سيُجرى لإبداء الرأي في إرجاع ما يعتبره اليهود جزءاً من (أرض إسرائيل) ! [5] .
ومن أجل هذا فقد أعدت الحكومة الإسرائيلية، ولا زالت تعد؛ قوائم من المطالب والشروط والاستحقاقات التي ترى أن على العرب والعالم، وعلى رأسه أمريكا أن يوافقوا على تلبيتها إذا ما أرادوا أن تُعاد الجولان، وبذلك ينتهي ... الصراع العربي الإسرائيلي في جانبه العسكري. وفواتير السلام التي أعدتها (إسرائيل) مقابل إعادة الجولان تتضمن الأثمان الآتية:
1 - الثمن الاقتصادي: مع بدء المفاوضات السورية الإسرائيلية، كان الطلب الإسرائيلي بالتعويضات المالية يتراوح بين ثلاثة مليارات من الدولارات أو أربعة مليارات؛ وذلك بحجة إقامة منشآت عسكرية بديلة لتلك التي سيجري ... تفكيكها في الجولان وجنوب لبنان، ومع تحسن المفاوضات ارتفع الرقم المطلوب إلى 17 مليار دولار مقابل الانسحاب، ثم أضيفت مطالب أخرى بـ 18 مليار دولار لتحديث القوات المسلحة الإسرائيلية، ومع إضافة أثمان المطالب الأخرى العينية من سلاح ومعدات صار مجموع ما تطالب به (إسرائيل) من (تعويضات) على ترك الجولان 70 مليار دولار! ! هذا عدا المدفوعات السنوية الجارية فعلاً، القديمة منها والجديدة. وبعد زيارة قام بها وفد من الكونجرس الأمريكي إلى (إسرائيل) أبلغته الحكومة الإسرائيلية أنها لن تنسحب من أي أرض إلا إذا جرى تفعيل برنامج المطالب الإسرائيلية؛ بحيث يتزامن مع عملية الانسحاب في حال البدء فيها بعد نجاح المفاوضات. ولكن بالنظر إلى أن الكونجرس الأمريكي لا يمكن أن يوافق باسم الشعب الأمريكي على هذا الابتزاز غير المسبوق لـ (البطة الخشبية) [6] في أيامها الأخيرة، فقد جاءت الإشارات بعدم الموافقة على دفع استحقاقات السلام نيابة عن سوريا! ! ولكن باراك الذي يعلم مدى حاجة كلينتون إلى فاصل من معزوفة السلام يختم بها عهده الملطخ ظل يرسل بإشارات تهدد بعرقلة العملية برمتها، فألمح كلينتون ثم صرح بأن هناك رغبة أمريكية في إقامة عملية (تمويل دولي) للسلام في الشرق الأوسط، وبالفعل وجه الكونجرس الأمريكي دعوة لأقطار الخليج العربي الستة، والدول الصناعية السبع بأن تشارك في دفع فاتورة (التعويضات) . ومن الكنيست الإسرائيلي صدرت تلك الدعوة فيما يشبه الأوامر، مما أثار سخط هذه الدول التي لم تُستشَر أصلاً قبل ذلك في هذا التوجه؛ فعلى الصعيد العربي انتقدت الكويت هذا الطلب نيابة عن دول مجلس التعاون الخليجي وطلبت من الجامعة العربية أن تتخذ موقفاً عربياً موحداً تجاه هذا الابتزاز في دورتها القادمة في مارس2000م. وسَخِرت مصر على لسان وزير خارجيتها مما أسماه: (التجارة بالسلام) ، أما الدول السبع الصناعية الغنية، فقد عارضت أيضاً هذا الإجراء الأمريكي الإسرائيلي المقترح، فاعتبرته كل من اليابان وألمانيا منافياً للشرعية القانونية، وكذلك امتنعت كل من إيطاليا وفرنسا وكندا عن الموافقة على هذا الطلب، ولم يبق من الدول السبع إلا أمريكا صاحبة القرار وحامية (إسرائيل) ، ثم بريطانيا الأم الشرعية لها؛ حيث التزم الإنجليز الصمت حتى لا يُحرَجوا مع ابنتهم اللقيطة! ولكن الطلب الإسرائيلي لا يزال مرفوعاً ولم يتم التنازل عنه، فقد يُعدَّل أو يُخفَّض، ولكنه لن يلغى، فهكذا عودها العالم (الحر) !
هذا.. ويدخل في الثمن الاقتصادي ما أعلنه رئيس طاقم التفاوض في مكتب باراك من أن (إسرائيل) لها مطلب قاطع في الإبقاء على السيطرة على مصادر المياه في الجولان، وهذا المطلب شبيه باشتراط (إسرائيل) احتكار شراء بترول سيناء بعد إرجاعها لمصر، ولكن مياه الجولان التي تمثل 35% من حاجات (إسرائيل) ربما تجد فرصة أسهل من بترول سيناء، خاصة وأن الصحافة الإسرائيلية سربت ما يفيد بأن الجانب السوري وافق في عهد نتنياهو على بقاء الوجود السوري بعيداً عن الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية بمقدار 500 متر على الأقل.
2 - الثمن العسكري: يريد إيهود باراك أن يستغل ثمرات المفاوضات مع سوريا إن نجحت لتحديث الترسانة الإسرائيلية، وإعطائها عناصر التفوق الإقليمي المطلق لمدة لا تقل عن خمسين عاماً كما قال، وهو باعتباره رجلاً عسكرياً [7] يرفع شعار: (جيش إسرائيل نواة الأمن القومي) ، والسلام بنظره ليس هدفاً في حد ذاته، بل وسيلة لتعزيز الأمن أو بالأحرى الهيمنة لا على الدول المحاذية لـ (إسرائيل) فحسب، بل على الشرق الأوسط كله. وهذا هدف أصيل ... في السياسة الإسرائيلية بوجه عام، كما صرح بذلك الأكاديمي الإسرائيلي (إسرائيل شاحاك) في كتابه: (الأسرار المفضوحة) فقد قال: (إن الهدف الرئيس للسياسة الإسرائيلية في الحرب والسلام هو السيطرة الإقليمية على الشرق الأوسط بأكمله) ! ولكن باراك يريد أن يعطي لهذه السياسة بُعداً آخر باستغلاله فرصة السلام السانحة الآن مع سوريا، ويهدف إلى استثمارها لتحصيل تفوق عسكري جديد تتمكن (إسرائيل) من خلاله أن تدافع أو تهاجم عن بُعد، دون الحاجة إلى السيطرة المباشرة على أرض بذاتها في الجولان أو جنوب لبنان، وقد أبدى إعجابه الشديد بسياسة الحرب عن بعد التي مارستها الولايات المتحدة في العراق وكوسوفا، وأطلق عليها وصف: (الحرب المعقمة) !
ولهذا نجد قائمة المطالب الإسرائيلية العسكرية تصب في هذا الاتجاه؛ فدولة اليهود تطالب أمريكا بقائمة طويلة من الأسلحة المتقدمة وعلى رأسها، تقنية طائرة ستيلث (الخفية) أو (الشبح) فقد طلبت (إسرائيل) خلال الجولة الثانية من المفاوضات أن تزودها أمريكا بتقنية هذه الطائرة التي لا تستطيع الرادارات اكتشافها.
وطلبت (إسرائيل) من أمريكا أيضاً أن تزودها بصواريخ كروز (توماهوك) التي لم تكشف المؤسسة العسكرية الأمريكية أسرارها حتى لشركائها في حلف الأطلسي باستثناء بريطانيا، وعدد الصواريخ المطلوبة في القوائم هو 350 ... صاروخ، ثم عُدِّل إلى 700، وتضمنت القوائم طلباً إسرائيلياً بالمساعدة على استكمال مشروع صاروخ (ناديتلوس) المضاد للصواريخ، وطلباً آخر بسربين من مروحيات (أباتشي) وسرب من طائرات (بلاك هوك) وسرب من طائرات النقل (هيركونيس) وآخر من طائرات الإنذار المبكر (إواكس) التي طلبتها (إسرائيل) قبل بدء المفاوضات مع سوريا أصلاً، وعلى القائمة طلب بالتزود بطائرات تزويد الوقود بالجو، ومحطة أرضية لالتقاط صور الرصد الجوي والأقمار الصناعية.
ويعلق المحلل الإسرائيلي (إلوف بن عالي) على هذه الطلبات بقوله: (إن باراك، ومنذ كان رئيساً للأركان يحلم باستبدال الجولان وجنوب لبنان بجيش جديد ... و (ذكي) !) [8] .
إنه من الواضح أن الصورة التي يريد الإسرائيليون أن يكون عليها جيشهم في (عصر السلام) هي أن يتحول من جيش للدفاع إلى جيش للإخضاع وسط عواصم عربية ترفرف في سمائها رايات نجمة داود المرفوعة فوق السفارات والقنصليات!! ولم ينس الإسرائيليون أن يُشركوا سوريا في غنائم ... السلام؛ فهي مدعوة بعد نزع سلاحها من الجولان أن تبعد جيشها عن المنطقة وأن تتعهد كالمنظمة بضمان أمن (إسرائيل) على الحدود السورية واللبنانية، مع هدية أخرى لرفع المعاناة عن كاهل الشعب السوري وهي: تخفيض عدد القوات المسلحة إلى عدد يليق بدولة (محبة للسلام) !
3 - الثمن السياسي: في حديث مع صحيفة معاريف الإسرائيلية في 19/12/ 1999 م قال إيهود باراك: (بالنسبة لتوقعاتي من المفاوضات، هناك إمكانية لإنهاء النزاع مع سوريا ولبنان،..، وذكر دولاً عربية أخرى ثم قال: ... أنا لست أعمى حتى أضيع هذه الفرصة) ! إن باراك يريد من الاتفاق مع سوريا ولبنان أن يفتح الباب أمام (إسرائيل) لعقد اتفاقيات صلح كامل مع البلدان العربية كلها؛ فدمشق برأيه، هي بوابة الدخول إلى العواصم العربية التي لم تعترف بعدُ بـ (إسرائيل) دولة مستقلة ذات سيادة على أرض بيت المقدس. وإعادة الجولان وجنوب لبنان يمكّن الإسرائيليين أن يقايضوا ذلك بالانفتاح على نحو عشرين دولة عربية، ستفتح أمامهم أسواقها وسفاراتها، وأرضها وعقول ... شعوبها وربما قلوبهم! والظاهر أن فراسة اليهود تصدق دائماً مع العرب؛ فحتى عصر (الشجب) يبدو أنه سيولِّي؛ بدليل أن عدداً من العواصم العربية قد بدأت تستبق الأحداث وتسرع في مضمار الهرولة حتى قبل أن تُبرم أي اتفاقيات مع سوريا أو لبنان، ويتم ذلك دون شجب أو تنديد أو حتى معاتبة رقيقة، وهذا أمر جديد على أبناء يعرب بن يشجب! [9] ولكن ماذا نفعل في ثمرات (القومية العربية) الخبيثة التي ولَّت بعد ما قضت على اللسان العربي ذاته؛ فلم يعد يُعرف الفرق بين المدلول اللغوي لكلمة السلام والاستسلام. فمن حق اليهود أن يهنَؤُوا إذن ويقروا أعيناً، عندما يدشنون بالتعاون مع العلمانية العربية صرحاً جديداً من القلاع اليهودية في ديار الإسلام يوازي في أهميته وربما يفوق تأسيس الدولة الإسرائيلية ذاتها، ويبدو أن (باراك) لم يكن مبالغاً عندما قال: (إن إنجاز مهمة السلام مع سوريا يوازي في أهميته مشروع إقامة (إسرائيل) عام 1948 م) [10] .
ومع فداحة تلك الأثمان المطلوبة للسلام مع سوريا، هناك ثمن أفدح، وهو ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي ما انبعث رموز البعث إلا بدعوى النضال من أجلها؛ ف (إسرائيل) فيما يظهر لن توقع معاهدة سلام مع سوريا بشأن إعادة الجولان إلا بعد حسم المسائل الكبرى في مفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني؛ فالسلام مع سورية لا معنى له بنظر (إسرائيل) إذا لم ينطوِ على اعتراف سوري بنتائج مفاوضات الوضع النهائي مع الفلسطيني [11] وهو الوضع الذي يُراد فيه أن تُطوى صفحة القدس بعد إعلانها عاصمة موحدة وأبدية لدولة اليهود، وأن يسدل الستار على قضية أربعة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين، وأن تظل المستوطنات الإسرائيلية على ما هي عليه دون تفكيك أو إلغاء، وأن تسوَّى مسائل الحدود بما يزيد من عزلة الشعب الفلسطيني داخل أرضه، ولكن هذا موضوع آخر نرجو أن يكون لنا فيه حديث آخر. الشاهد هنا أن الأمور إذا سارت مع سوريا على ما يهوى اليهود ويرتب الأمريكان فما الذي يمنع الإسرائيليين وهم يزدادون قوة والعرب يزدادون ضعفاً أن يكرروا التجربة في المستقبل ويحتلوا أجزاءاً أخرى مما يعتبرونه ضمن (أرض إسرائيل) ثم يقايضوا ويزايدوا عليه مرة أخرى، لكي يقبضوا ثمنه ثم ينتقلوا إلى غيره؟ ! ما الذي سيمنعهم؟ ! إن الحالمين الواهمين الذين يظنون أن الذئاب سترعى الغنم قريباً في الشرق الأوسط، ينبغي أن يقال لهم: كفوا عن الأوهام والأحلام؛ ... فالصراع متجدد والصدام أكيد، وما يقوم به يهود (إسرائيل) ويهود أمريكا سيجعل الأخرس يتكلم والأبكم يسمع، بل.... سيجعل الحجر ينطق! بلى والله! سينطق ... الحجر، وكذلك الشجر ليقول لكل من تحرر من الأوهام والأحلام: (يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله) [12] .