مراجعات في السيرة والتاريخ
حصار الشِّعب
والدروس المستفادة منه
د. إبراهيم بن محمد عباس
إن الدين الإسلامي ليس مجرد تنظيم للحياة ولكنه دين واقعي يتعايش بأصوله ومبادئه وأحكامه مع الواقع بعيداً عن الافتراضات الخيالية والمثل العائمة التي لا تتوافق مع طبيعة النفس البشرية.
والسيرة النبوية العطرة هي المثال الحي للتطبيق العملي للمثل والأخلاق والمبادئ والأحكام الإسلامية، بل هي المنهج الإسلامي الكامل بكل مكوناته في واقع الحياة. وهي بهذا وبكل ما اشتملت عليه من أحداث وتوجيهات نور ساطع في سجل التاريخ البشري يقتبس منه من أراد في أي جيل دروساً تهدي الحيارى وترشد التائهين لأحسن السبل وأقومها.
إنها منهج ينبغي أن نتربى عليه ونربي أبناءنا على ما يشمله من مفاهيم وقيم نرى أن الناس في هذا الزمان أشد ما يكونون حاجة إليها.
وفي هذه المقالة نقلِّب النظر في حدث من أحداث السيرة النبوية المشرفة وهو (حصار الشِّعب) لنستنبط منه بعض الدروس والعبر التي نأمل أن ينفع الله بها..
أولاً: خبر الصحيفة:
قال ابن إسحاق: (لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن ... عمر قد أسلم؛ فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل: اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شِعْبه فاجتمعوا إليه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سراً متخفياً به من أراد صلتهم من قريش. وقد كان أبو جهل بن هشام ـ فيما يذكرون ـ لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟
والله! لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه؛ أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سبيل الرجل. قال: فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لَحْيَ بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطئاً شديداً وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم
يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وجهراً مبادياً بأمر الله لا يتقي فيه أحداً من الناس) [1] .
قال السهيلي: (وذكر ما أصاب المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من الحصار لا يبايَعون ولا يناكَحون. وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر، حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة. وكان فيهم سعد بن أبي وقاص رُوي أنه قال: لقد جعت حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته وما أدري ما هو إلى الآن. وفي رواية يونس أن سعداً قال: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة أخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ثم رضضتها وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثاً. وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدُهم السوقَ ليشتري شيئاً لعياله فيقوم أبو لهب عدو الله فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً؛ فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي؛ فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يُطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً) [2] .
الدروس المستفادة من هذه الحادثة:
1 ـ لقد فكر الأعداء ـ كما رأيت ـ تفكيراً جماعياً جاداً منظماً ومعتمداً على التخطيط الدقيق لضرب الحركة الإسلامية، وذلك حينما بدأت قاعدتها في الرسوخ، ونجحت في جذب العناصر القوية إليها، وبدأت تفكر في الحماية الأمنية اللازمة حتى تؤدي رسالتها للعالمين، عندئذ أدرك الأعداء أنه لا بد من القضاء على هذه الدعوة في مهدها، فكانت فكرة الحصار الاقتصادي وسياسة التجويع أملاً يداعب حلمهم ويطفئ ثورة حقدهم. ولكن الله خذلهم فأعز دينه وأتم نوره وازدادت الدعوة صلابة وقوة وازداد
أصحابها يقيناً وتضحيات؛ فلا بد إذن من اليقين بأن الله متم نوره ولو كره ... الكافرون، وأن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار مهما مكر الأعداء بأهله [ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] . ... ...
2 ـ لم تقتصر معاهدة قريش وأذاها على أصحاب الدعوة وحدهم بل شملت كل من يعطف عليهم أو يدافع عنهم أو يمدهم بصلة ولو سراً. ولهذا ينبغي لعموم المسلمين أن يكونوا يداً واحدة مع علمائهم ودعاتهم يؤازرونهم وينصرونهم، وعلى الدعاة إلى الله تقوية صِلاتهم بأكبر قدر ممكن مع جمهور المسلمين ومد الجسور إليهم بالطرق الشرعية الصحيحة حتى يكونوا صفاً واحداً لا تخترقه سهام الأعداء. قال الله ـ تعالى ـ: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] .
3 ـ لقد تجرع الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ مرارة هذا الحصار وتقلبوا في لظى هذه المؤامرة الخبيثة عندما أُطبِقَ عليهم بسياج من الظلم المكشوف المتمثل في تلك الصحيفة الجائرة، فصبروا حتى أتاهم نصر الله. لقد كانوا يقدرون مسؤولية تبليغ الرسالة الملقاة على كواهلهم، وكانوا يدركون حقيقة هذه الرسالة وطبيعتها، وأنها لا بد أن تبلَّغ للناس بجهد من البشر، وفي حدود قدراتهم؛ فكان الصبر على مثل هذا البلاء نِعْمَ الزاد الذي يتناسب وطبيعة الطريق. لقد كانت التربية الجادة على منهج القرآن الكريم عاملاً مهماً من عوامل الصمود والتحدي أمام الباطل وأهله، ولقد كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابة على الصبر مقصودة في حد ذاتها؛ لأنه يعلم ـ ويريد أن يعلمهم ـ أن النصر مع الصبر، وأن البلاء سُنَّة ماضية، وأن أهل الإيمان لا بد أن يتعرضوا للفتن تمحيصاً وإعداداً. قال الله ـ تعالى ـ: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ]
[العنكبوت: 2] .
4 ـ لقد تجلت التضحيات والمواقف النبيلة للثبات على المبدأ الحق عند الصحابة الكرام بما يبهر العقول وتعجز عن وصفه الألسن، ولذلك لم يكن مثل هذا المكر السيئ والكيد المسعور ليثنيهم عن واجب عظيم ورسالة قد آمنوا بها وأُشرِبوا حبها وعاهدوا الله على الجهاد في سبيل نشرها. إن الثبات والاستمرار في الدعوة علامة على صدق الداعية وإخلاصه وفهمه السليم لطبيعة الدعوة وحقيقتها، وإن التراجع أو الانتكاسة في منتصف الطريق وعند ... المنعطفات الحرجة التي تمر بها الدعوة يعد علامة على ضعف الإيمان وتزعزع اليقين وحب الدنيا والخلود إليها. يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ: (وفي أيام الشِّعب كان المسلمون يلقون غيرهم في موسم الحج ولم تشغلهم آلامهم عن تبليغ الدعوة وعرضها على كل وفد؛ فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات؛ بل يزيد جذورها عمقاً، وفروعها امتداداً، وقد كسب الإسلام أنصاراً كثراً في هذه المرحلة) [3] . فالثباتَ الثباتَ أيها الدعاة، وعليكم بمواصلة السير والاستفادة من كل باب مفتوح لتبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] . [آل عمران: 139] .
5 ـ لقد وقف الكفار من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً حسناً؛ إذ دخلوا معه ومع أصحابه في الشِّعب حمية منهم وتقديراً ـ ولا شك في ذلك ـ لما تميز به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وحسن المعاملة معهم. فما أجمل الإحسان إلى الناس! وما أحق الأقربين بالمعروف! وأفضلُ الإحسان إلى هؤلاء هو دعوتهم للخير والأخذ بأيديهم إلى رياض الإيمان. والداعية ـ بلا شك ـ معرض للأذى والخطر من أهل الشر الكارهين للدعوة ولمن يقوم بها؛ ولذلك لا بد له من حماية. وعشيرة الداعية وأقرباؤه هم أكثر الناس
استعداداً لمثل هذه الحماية؛ وخاصة إذا مَنَّ الله عليهم بنور هذه الدعوة وصبروا على ما يلاقون في سبيل نشرها من الأذى؛ فإنهم حينئذ في مقام كريم [ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] [فصلت: 35] .
6 ـ لا بد أن ندرك أن الأعداء يبذلون الكثير من المال من أجل نشر باطلهم والصد عن سبيل الله؛ فمن أجل تلكم الأزمة الاقتصادية دُفعت الأموال الطائلة للضغط على الأجساد والبطون، ولكنهم لم يجدوا إلى القلوب المؤمنة سبيلاً، وما زال الأعداء ولا يزالون ينفقون بسخاء في سبيل الظلم والطغيان ونشر الكفر والإلحاد وتشجيع الفجور والإباحية عن طريق المؤسسات الإعلامية والمؤسسات التنصيرية والمؤسسات الفكرية وغيرها؛ كل ذلك ليصدوا الناس عن الحق [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ َسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] [الأنفال: 36] .
وإذا كان أهل الباطل يبذلون الكثير من المال من أجل باطلهم وفجورهم فما بال الموسرين من المسلمين يمسكون ـ إلا ما شاء الله ـ عن الإنفاق في سبيل الله لنشر الحق، ودعوة الحق ومواساة المعوزين من المسلمين؟ فالبذلَ البذلَ ـ أيها المسلمون ـ وإلا حق فينا قول الحق ـ ...
جل ثناؤه ـ: [هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] [محمد: 38] .
ثانياً: حديث نقض الصحيفة:
قال ابن إسحاق: (ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها ... قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش ولم يَبْلُ فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو؛ وذلك أنه ابن أخ نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلاً، وكان ذا شرف في قومه فكان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً قد أوقره طعاماً حتى إذا أقبل به فم الشِّعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بزاً فيفعل به مثل ذلك ... ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ فقال: يا زهير! أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً. قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد! والله! لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: وقد وجدتُ رجلاً. قال: من هو؟ قال أنا. قال له زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً، فذهب إلى المُطعِم بن عدي، فقال له: يا مطعم! أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً. قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدتُ ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلتُ، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحواً مما قال لمطعم بن عدي، فقال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم! ثم سمى له القوم. فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية وعليه حلة فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة! أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل ـ وكان في ناحية المسجد ـ: كذبت، والله! لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت ـ والله ـ أكذب؛ ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب ـ والله ـ فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل تُشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأَرضة قد أكلتها إلا: (باسمك اللهم) وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فَشُلَّت يده ـ فيما يَرَوْنَ.
قال ابن هشام: وقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: يا عم! إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.
فقال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فوالله! ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش! إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلمَّ صحيفتَكم، فإن كانت كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي؛ فقال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً؛ فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا) [4] .
الدروس المستفادة من هذه الحادثة:
1ـ لقد استطاع نفر من الناس بعمل يسيرٍ مواجهة أزمة دامت ثلاث سنوات خطط لها أصحابها وأحكموا تنفيذها ودعموا استمراريتها بكامل قواهم السياسية والاجتماعية. نعم! لقد استطاعوا تخطي هذا المأزق الصعب وهم نفر قليل كانوا يعيشون وسط المجتمع نفسه، وذلك بالعزيمة القوية والتخطيط الدقيق؛ إذ لم يكن أحد من كبار القوم ومن أصحاب تلك المؤامرة الخبيثة يحلم بأنه سيأتي اليوم الذي تنتهي فيه هذه المؤامرة بمثل هذه السرعة وبمثل هذه المفاجأة؛ فقد وضعوا في حسابهم أنه لا يمكن لأحد أن يقف في وجه هذه القوة التي تحمي هذا القرار، وإن استطاع أن يقف في وجوههم فإنه لا يستطيع أن ينتهك قداسة القرار الذي علق في جوف الكعبة، ولكنهم نسوا أن الظلم مرتعه وخيم، وأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه.
واليوم وبفعل الهزيمة النفسية التي أصابت المسلمين فإنه يقع مثل هذا الحصار من الدول الظالمة ولا يقوم أحد برد الظلم وتمزيق الصحيفة والانسحاب من القرار؛ بل لا يفكر الكثير من المسلمين حتى في مجرد المحاولة؛ لا أقول بالعنف ولكن بالحوار والحل السلمي وهو الأسلوب الذي ينادون به حينما تكون القضية في صالحهم؛ فأين الذين يفكرون في قضايا إخوانهم المسلمين ويتفاعلون مع همومهم ويدركون معنى قول الله ـ تعالى ـ: [إنما المؤمنون إخوة]
[الحجرات: 10] .
5 ـ إن الحكمة وحسن التخطيط من أساسيات الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وكم نحن في حاجة إليه؛ لأن العشوائية وارتجال المواقف والتكبر عن طلب النصح والمشورة قد جنت الدعوة من ويلاتها العلقم المر حتى أصبح التخطيط والتنظيم ضرورة دعوية على مختلف المستويات لا يكاد يختلف عليها اثنان ممن يعرفون طبيعة الدعوة ومخططات أعدائها خصوصاً في مثل هذا العصر المشحون بالفتن والمغريات، ومع ذلك فإن هناك ـ للأسف الشديد ـ من لا يكتفي بعدم القناعة بهذا؛ بل يشكك فيه ويحاربه، ولعل مثل هذا يستفيد من الحكمة والتخطيط عند هؤلاء النفر ولعله يستفيد من موقف زهير بن أبي أمية مع قومه وكيف اختار هيئة مناسبة وقدم للأمر بالطواف، وتكلم كلاماً موجزاً قوياً يفي بالغرض لهذا العمل الفدائي ـ إن صح التعبير ـ في ذلك الوسط المشحون بالعداوة والموبوء بحب
الانتقام والسيطرة.. ولينظر كيف تم التشاور الثنائي في كل مرحلة حتى أحكمت الأدوار وتم التنسيق للعرض والمواجهة، وأخذت العدة واختير الزمان والمكان المناسبين لعقد هذا الاتفاق، ثم مُثِّل هذا الدور على أحسن صورة فكانت كلمات القوم تنطلق من وسط الصفوف يؤيد بعضهم بعضاً بطريقة لم يجد أمامها الملأ إلا التسليم ... فهل في هذا العمل الإنساني النبيل من بأس، وهو يحقق مصلحة عامة؟ ألا فليتأمل هؤلاء ويقيسوا ـ إن كان للقياس
عندهم اعتبار ـ بدلاً من أن يجعلوا التخطيط والتنظيم في أمور الدعوة محل اتهام، ويرونه جائزاً للكفار ومحرماً على المسلمين. ألا فاستلهموا رشدكم واعرفوا قدر عدوكم [ولا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ] [النساء: 104] .
2 ـ إن أصحاب النفوذ والقوة كلماتهم مسموعة وأمرهم مطاع في غالب الأحيان؛ ولكن الذي يؤسف له هو عدم الروية والتفكر فيما يأمرون به وينهون عنه؛ فهؤلاء النفر الذين سعوا في نقض الصحيفة كانوا ـ ولا شك ـ على علم بها منذ بداية أمرها فوافقوا عليها حينئذ مكرهين ـ إكراهاً ـ معنوياًـ حتى لا يشذوا عن الصف ويكونوا محل اتهام من أصحاب القرار؛ ولكنهم فيما بعد فعلوا الذي فعلوا، بل وبينوا أنهم لم يكونوا راضين عن هذه
الصحيفة عند كتابتها، ولم يستشرهم فيها أحد، بل تشاور فيها الملأ ولم يستأذنوا فيها العامة، ولهذا أدرك هؤلاء الرهط أن هذه السابقة تنبئ عن خطر عظيم تكنه نفوس القوم الذين سعوا في كتابة هذه الصحيفة؛ فلذلك قال هشام بن عمرو للمطعم بن عدي: (أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً) وأدركوا أيضاً أن هؤلاء الملأ لم ينفذوا هذا القرار إلا لرغبتهم الشخصية، وليس فيه أي مراعاة للمصلحة العامة؛ ولذلك قال ...
صاحب المبادرة هشام بن عمرو لزهير: (أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً) وهذه سياسة أصحاب المطامع؛ فهم في كل زمان يكيلون بمكيالين شأنهم شأن من قال الله فيهم: [الَذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ونَمْنَعْكُم مِّنَ المُؤْمِنِينَ] [النساء: 141] .
4 ـ لا شك أن موقف أهل الباطل من الدعوة ليس بدرجة واحدة؛ بل يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وكذلك ينبغي أن يكون موقف أهل الحق منهم؛ لأن منهم من يتعاطف مع الدعوة ويقف بجانبها حتى وإن كان مقيماً على فسقه وفجوره، ومنهم من يكرهها ويحقد على أهلها بكل حال ـ وإن كانوا مظلومين ـ استكباراً منه وعدواناً، ومنهم أناس بين ذلك ? [ولِكُلٍّ ... دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ومَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] [الأنعام: 132] وفي قصة الشِّعب نجد لعمِّ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب مواقف تستحق الذكر والإشادة وإن كان كافراً؛ ففي بداية الأمر كان هو الذي (جمع بني عبد المطلب فأجمع لهم أمرهم على أن يُدخِلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه شعبهم، ويمنعوه ممن أراده، وذلك حينما أجمع المشركون من قريش على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فاجتمع بنو المطلب كافرهم ومسلمهم؛ منهم من فعله حمية وهم الكفار، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً وهم المسلمون؛ فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع المشركون من قريش وأجمعوا أمرهم على ما في الصحيفة) [5] كما كان في ليالي الشِّعب (يأخذ أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فيضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها حرصاً عليه ممن يريد به مكراً أو غائلة) [6] ثم إنه أيضاً كان صاحب المحاولة الأولى في نقض الصحيفة ـ كما أسلفنا ـ. وفي المقابل فإن عدو الله أبا جهل كان أول من سعى في كتابة الصحيفة وكان يمنع وصول أي مدد إلى المحاصرين وكان من أكبر المعارضين لنقض هذه الصحيفة.. ثم تأمل في أولئك النفر من قريش كيف كانوا كارهين لهذا الأمر؛ كلما ذهب ...
هشام إلى واحد منهم وافقه على رأيه بسهولة ويسر ودون تردد، بل بما لو أراد هؤلاء الخمسة أن يستزيدوا لوجدوا كثيراً من الجماهير ممن نشؤوا على كره الظلم تتابعهم على ذلك، ولكنهم خافوا أن يفتضح أمرهم فيدخل معهم من لا يؤمن جانبه. (والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا؛ تجد من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه) [7] .
5 ـ إن رد الجميل لأصحابه، ومكافأة المحسنين على ... إحسانهم خُلُق رفيع حث عليه الإسلام؛ وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أتى إليكم معروفاً فكافئوه) [8] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مقدراً لأصحاب المواقف مواقفهم الإيجابية في هذا الحدث الهام، وكان يكافئهم عليها. فأما عمه أبو طالب فقد قال العباس بن عبد المطلب ـ
رضي الله عنه ـ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيتَ عن عمك؛ فوالله كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (هو في ضحضاح من نار؛ ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) [9] .
وأما هشام بن عمرو فقد أسلم وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم معركة حنين دون المائة من الإبل [10] . وأما أبو البختري فقد كان في صف المشركين يوم بدر فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، قال ابن هشام: (وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة) [11] وهذه مجرد
أمثلة للاعتبار. وعلى الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ أن يعرفوا لأهل الفضل فضلهم، وأن يسجلوا لأصحاب المواقف الشريفة مواقفهم، وأن يجازوهم على الإحسان إحساناً؛ فإن من الأفاضل من يذب عن أعراض الدعاة بلسانه وقلمه ويتصدى لأعداء الدعوة ويسد طريقهم، ومنهم من يتفانى في نصح الدعاة وطلبة العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويدعمهم ويقف معهم؛ فهذه الجهود ينبغي أن تكون محل رضى وتقدير من جميع الدعاة [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .
6 ـ يجب ألا يغفل الدعاة إلى الله عن الاهتمام برؤوس الناس وقادتهم الذين يؤثرون فيهم سلباً وإيجاباً وحسن العلاقة معهم؛ فقد يتحقق على أيديهم نفع عظيم للدعوة ولو لم يكونوا على قدر من الاستقامة.
7 ـ ينبغي ألا يعرض عن أهل الباطل بالكلية؛ فإن منهم أناساً مأسورين إما بشهواتهم وأهوائهم أو بتأثير من شياطين الجن والإنس، وبعض هؤلاء قد لا يحتاجون إلى كبير جهد ليميزوا بين الحق والباطل فيتبعون الحق ويعز الله بهم الدين.
8 ـ من الحكمة اتخاذ الأسلوب الحكيم والحجة البالغة في الحوار واهتبال الوقت المناسب له ليؤدي نتيجة مثمرة؛ فإن الرهط الذين سعى إليهم هشام ليتفق معهم على نقض الصحيفة لم يعترض منهم أحد؛ ولعله قد اختار الأشخاص المناسبين لهذا الحدث حسب معرفته بالرجال ومواقفهم السابقة من الدعوة وحسب تقديره لما يتطلبه الموقف.
9 ـ يراعى جانب من بدرت منه بادرة طيبة وموقف حسن من الدعوة؛ فإن مثل هذا غالباً مهيأ في مستقبل الأيام ليكون له شأن آخر ومواقف مباركة، فلا بد أن يشجع ويشكر على مواقفه تلك لعله يكون رصيداً لمستقبل الدعوة.
ثالثاً: الحصار الحديث: أخي القارئ الكريم: لعلك قد أدركت من خلال هذا العرض السريع لحدث تاريخي هام من أحداث السيرة النبويةالعطرة وما تخلل ذلك من الدروس والعبر أن الأمة الإسلامية في الوقت الراهن تعاني أربعة أنواع من الحصار:
النوع الأول: الحصار المادي لبعض الشعوب الإسلامية المنكوبة وهو أسلوب وإن استنكرته الجاهلية الأولى فإن من يفرضونه في جاهلية اليوم ممن يسمون بالدول الكبرى يفتقدون بعض الخصائص التي كان يتميز بها أسلافهم من المشركين مثل المروءة والشهامة والحياء، ويفتقد كبراؤهم بعض المبادئ الإنسانية الأولية التي يمكن أن ينبثق عنها العطف والرحمة لهذه الشعوب، ولقد بلغت بهم الكبرياء والغطرسة مثل الذي كان بفرعون من الطغيان وإن لم يقولوا بألسنتهم ما قاله الأول بلسانه: [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] [النازعات: 24] [مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] [غافر: 29] إلا أن لسان الحال شاهد على ذلك بما لا يقبل الشك، ومكرهم أصبح مكشوفاً، ونحن نؤمن بقول الله ـ تعالى ـ: [ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ] ... [فاطر: 43] .
النوع الثاني: الحصار المعنوي للشعوب المسلمة وذلك (بإغراق الناس في الشهوات بالإعلام الماجن الذي يشيع الفواحش وينشر الرذيلة على أمل أن ينجرف أكثر الشباب في تيار الإباحية والفجور فلا ينفعهم نصح الناصحين ووعظ الواعظين) [12] .
النوع الثالث: الحصار المادي للدعاة والعلماء؛ وهذا وإن كان مما يؤلم القلوب المؤمنة إلا أن له فوائد عظيمة وآثاراً بعيدة المدى في صقل نفوس الدعاة المأسورين فإذا هي كالذهب الخالص. قال الله ـ تعالى ـ: [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] [الرعد: 17] .
النوع الرابع: الحصار الفكري للدعاة وذلك بصد الجماهير عنهم من خلال وصفهم بالألقاب المنفرة كالتطرف والإرهاب وغيرها، وذلك بواسطة الإعلام الذي يخدر الشعوب ويقلب الحقائق ويفرق بين القلوب؛ فهو السحر الحديث الذي أفرزه الفكر الغربي، وهو المصيدة التي يمكن أن تؤدي الدور بالوجه المطلوب بعد أن ترفع راية الإرهاب وتلوِّح بها
وتنادي الجميع للمشاركة في زوبعتها ليجعلوها دعوى يطعنون من خلالها في الدعوة الإسلامية، ومعولاً يضربون به حصونها، وسيفاً مصلتاً على رقاب الدعاة والمخلصين، وتهمة جاهزة تطرح على المجاهدين الصادقين.
إن هذا المصطلح ـ أعني الإرهاب ـ مصطلح مناسب لمثل هذا الحصار الدعوي بغضِّ النظر عن مكان منشئه وسببه. إنه مصطلح مخيف يهز قلوب الجبناء ويسيطر على أفئدة ضعفاء العقول؛ لأنه لفظ يوحي بالنفرة والوحشية لسامعه ومن خلال وصم الدعاة بهذا اللقب يمكن الطعن في الجهاد الإسلامي والتشكيك في حكمته.
ويهتبل الإعلام الكاذب والمزور للحقائق فرصة كل حركة نشاز وكل حادث شاذ يقع من بعض الجهلة أو المتعجلين من المسلمين ـ أو من غير المسلمين أحياناً ـ فيضخمه ويستغل الحدث اليسير أبشع استغلال، من أجل الكيد للدعوة ودعاة الإسلام وشن الهجوم الكاسح عليهم والطعن في نياتهم؛ حيث يتهم دعاة المسلمين زوراً وبهتاناً وظلماً وعدواناً بأنهم وراء كل عمل إجرامي وكل حادث تخريبي يحدث في أي مكان من الأرض حتى تثبت براءتهم إن كان لذلك من سبيل.
لقد نجح الأعداء إلى حد بعيد ـ وعلى مدى العشرين سنة الأخيرة تقريباً ومنذ أن ظهر مصطلح الإرهاب والتطرف ـ في عزل الدعاة عن جماهير المسلمين عزلاً فكرياً يفوق في آثاره العزل الحسي.
لقد جعل الأعداء شبح هذا المصطلح يطارد كل مسلم مستقيم يحافظ على أصول دينه أو يفكر في الدعوة إليه، وجعلوا هذا المصطلح مرادفاً للتعصب المذموم والتشدد في الدين والغلو والتنطع والبعد عن حقيقة الإسلام وصفائه، واتهموا من وصموهم بهذا المصطلح بكره الشعوب وعامة الناس والانتقام من المصالح العامة وتدمير مقدرات الأمة والعبث بها، وبعد أن وسّعوا دائرة هذا المصطلح بما يوافق شهواتهم وأهواءهم جعلوه عنواناً على صنف من الناس بمواصفات خاصة تزيد في مكان وتقل في مكان آخر. ومع أن التأثير يتفاوت من بلد لآخر إلا أن العامل المشترك هو نظرة الجميع لهذه الفئة من الناس بأنهم شواذ أو على أقل تقدير يجب التحفظ عليهم والبعد عنهم والخوف من آرائهم المنحرفة وأفكارهم المسمومة وحمل كلامهم دائماً على المحامل الأخرى التي تتناسب مع التفسير الإعلامي الذي يطن في الآذان صباح مساء. ومن هنا نجح هذا الحصار الدعوي الفكري الإعلامي في عزل هذا الفئة المؤمنة المجاهدة عن التأثير المطلوب في الجماهير المتعطشة لدينها من خلال هذا التخطيط الماكر وهذه الفكرة المسمومة.
ومن أجل هذا كان لا بد من التفكير الجاد للخروج من مأزق هذا الحصار النفسي وتحدي هذه العقبات بتوثيق الصلة بين فئات المجتمعات المسلمة، والدعوة في صفوفهم بالأساليب المشروعة، وكشف خطط الأعداء بإجلاء الغشاوة التي وضعها الإعلام الخبيث على أعين الكثيرين من الغافلين؛ وذلك من أجل توضيح الحقائق وتصفية القلوب وتبليغ دين الله ـ عز وجل ـ حتى يعم الخير ويفشو الصلاح ويقطع دابر المجرمين.