الإفتتاحية
كنا نود أن لا نتعرض لهذا الموضوع، لاعتقادنا بأنه لا يستحق أن يتخذ منه
المسلمون جبهة جديدة يفتحونها على أنفسهم، ولكن لأن هذه القضية بما -وصلت
إليه- تصلح للاعتبار؛ فقد أصبح لابد أن نقول فيها كلمة.
وقبل كل شيء نقدم مختصراً لهذه المشكلة التي تتلخص بأن كتاباً ألفه مرتد
عن الإسلام من أصل هندي، باحتٌ عن الشهرة، درس في مدرسة تبشيرية قبل
مجيئه إلى بريطانيا، التي أكمل تعليمه فيها، واستوطنها. والكتاب هجوم مقذع
على الإسلام، وشريعته، ونبيه -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته الكرام، وقذف
مر لأمهات المؤمنين بأسلوب سوقي وضيع، بل هو في مجمله سخرية شديدة بكل
ما تعارف عليه البشر من معان سامية، وشخصيات قدوة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتهجم فيها هذا الكاتب المأفون على الإسلام، بل سبقت له مناسبات قبلها، ولعل الغربيين فطنوا إلى أهمية أن يهاجم الإسلام
ويشهِّر به شخص كان في الأصل مسلماً؛ فاحتضنوه، وشجعوه عن طريق أجهزة
الإعلام من صحافة وإذاعة ودور نشر، وعن طريق منحه جوائز لترويج كتبه،
وتسابقت كثير من الصحف تفسح له صفحاتها، وتنقل فقرات من كتابه، وتقدم
عرضاً له، وهذا عمل مألوف في كل عمل له رأي سلبي حول الإسلام، أو ما
يتعلق به.
وقد تنبه بعض المسلمين في بريطانيا لما في هذا الكتاب من أكاذيب حول نبي
الإسلام، ومن قصد سيء لهذا الكاتب ولناشر كتابه من أجل النيل من الإسلام،
وتجديد تصويره بأبشع الصور عن طريق أرخص السباب والشتائم المقذعة التي لا
يقدم عليها إلا شخص يستهين بكل مبادئ البحث العلمي والموضوعية، فاعتبروا أن
هذا العمل يستحق الشجب، واستعملوا أغلب الطرق القانونية المعروفة في الدول (الديموقراطية) للاحتجاج على نشر هذا التشويه المتعمد لكل ما يعتز به المسلمون.
وقد كان الأمر يسير سيراً طبيعياً، ولا يثير أية ردود فعل، إلى أن قام
المسلمون بمظاهرة في مدينة (برادفورد) في شمال إنكلترا، عبروا فيها عن شجبهم
للكتاب بالقيام بعمل رمزي فأحرقوا نسخة من الكتاب، وعلى أثر ذلك ثار بركان
الغضب المكتوم عند غير المسلمين، فشجبوا تصرف المسلمين هذا، وليس هذا
فحسب؛ بل بدأت الصحافة بطرفيها: (الرصين والوضيع) حملة لا مثيل لها في
الهجوم على الإسلام، والسخرية من المسلمين، ولم يبق في جعبتها نعت من نعوت
التخلف والتعصب إلا وألصقته بالمسلمين وفكرهم، ودولهم، وتاريخهم، وعاداتهم، وكل شيء يتعلق بهم.
واعتبرت الصحافة ما قام به المسلمون للفت النظر إلى مشاعرهم ومدى
إحساسهم بالألم اعتداءً على حرية الفكر، وعداءً للديموقراطية وحقوق الإنسان،
وتهديداً للمجتمعات التي يعيشون فيها، بل وسخَّرت أقلاماً كثيرة، لتحصر
الاعتراض على ما جاء في الكتاب في مجموعة من المسلمين محبة للفوضى
متعطشة للتخريب، منغلقة الفكر، ولكي تكسو دعواها هذه برداء يشبه الحقيقة؛
كانت تلجأ إلى بعض الشخصيات (المارقة) ذات الأصول الإسلامية، ممن لا
يختلف عن (رشدي) إلا بارتدائهم ثوب البحث العلمي والأكاديمية، فتستكتبهم، أو
تجرى معهم المقابلات التي يسفهون فيها آراء المسلمين، ويسخرون من طريقة
تناولهم للأمور ... وهكذا. وفي الوقت الذي كانت فيه الصحافة تصول وتجول
منفردة بعرض وجهة نظرها؛ كانت وجهات نظر المسلمين تُتَجاهل، ويُسخر منها
بتحامل شديد، وبعد عن الموضوعية والحياد.
وبعد أخذ ورد ومحاولات كثيرة قام بها المسلمون للتعبير عن غضبهم،
وتجاهل الصحافة؛ وتجاهل المسؤولين؛ بل وتحدٍ من الكاتب والناشر؛ دخل على
الخط عنصر آخر في المواجهة، فبينما كانت الدول بعيدة تقريباً عن مجرى
الصراع؛ إذا بنا فجأة نجد أن هناك من تقدم ليخطف الراية، ويقود المواجهة! .
ونحن نرى أن هذا الاختطاف للراية ليس من البطولة في شيء ذلك لأنه لا
تكافؤ بين الخاطف والمخطوف منه، فالخاطف دولة، والمخطوف منه منظمات
وأصوات لا تتبناها دول، هذا من حيث الشكل الخارجي، أما إذا لجأنا الى التفسير
الباطني للأحداث (وأظن أنه لا تثريب علينا في ذلك، إذا أخذنا بمبدأ المعاملة
بالمثل) فإننا يمكن أن نلمح أشياء كثيرة لا يجهلها إلا المصاب بعمى الألوان،
فتحويل الحملة لتأخذ هذا النطاق العالمي يخفي وراءه مقاصد كثيرة، ويهدف إلى
تحقيق مكاسب سياسية، فيبعد أنظاراً عن مشاكل، ويصبوا إلى استعادة ثقة
أصبحت مهزوزة، وليس هدفنا هنا الاسترسال في رسم الصورة لما وراء الأكمة.
المهم أن الغرب حول المعركة في الاتجاه الذي يريده، وقادها بمقدرة فائقة
بأجهزة إعلامه المتنوعة، ولم يبقها محصورة في نطاق الموضوع المتنازع عليه؛
بل اتخذ من هذا الموضوع وسيلة يخرج بها كل الكراهية والأحكام المسبقة التي
يكنها للإسلام والمسلمين جميعاً دون تفريق، وهو إن أشار إليهم أحياناً بإشارة يُشَمُّ
منها تعاطف ما، فهو لا يعدو تعاطفه مع جنس من المخلوقات يخشى عليها من
الانقراض، فيؤدي انقراضها إلى نقص في امتيازات الرجل الغربي (المتحضر) ،
ماذا نقول؟ ! ... بل إن تجاوب هذا الرجل الغربي (المتحضر) ، القاسي القلب،
المملوء جلده بالغرور والأثرة والغطرسة مع آلام الحيوانات أضعافَ أضعافِ تجاوبه
مع آلام البشر إذا كانوا مسلمين لو بالوراثة، دع عنك ما إذا كانوا مسلمين
بالممارسة.
هل هناك دروس يمكن استخلاصها من هذا (المهرجان) التشهيري بالإسلام
وحضارته، وبالمسلمين ودينهم؟ ما أجدر المسلمين أن يوظفوا مثل هذه التجارب
من أجل أن تكون لهم مواقف مبدئية لا تتأثر بالعواطف، ولا تقوم على ردود
الأفعال.
أول فائدة يمكن استخلاصها هي أن هذه الديموقراطية التي يتغنى بها الكثير
هنا وهناك لا تقوم على أساس صحيح، حتى لو حاول أنصارها أن يقنعونا بعكس
ذلك، بل حتى الأساس المفترض للمساواة بين البشر غير موجود فيها، والصحيح
أنها فلسفة مفصلة لنوع معين من البشر وهو النوع الذي يعتقد أنه أرقى من غيره
عرقاً وأصلاً وفكراً وحضارةً، ديموقراطية متناقضة مبنية على الكذب والادعاء
والبعد عن الإنصاف، فهي في الوقت الذي تتهم المسلمين بأنهم يريدون أن يفرضوا
أعرافهم وأفكارهم على غيرهم؛ تقوم هي بالفعل والقول في فرض أعراف الإنسان
الغربي وتقاليده وإفرازات حضارته في جميع أنحاء الأرض، حتى إذا أحد تململ
أو قال: لا؛ سلطت عليه آلتها الإعلامية وضغوطها السياسية، و (رمته بدائها
وانسلت) .
والفائدة الثانية أن الأفعال المنبعثة عن الهيجان وغليان الدم في مواجهة مثل
هذه الأحداث قد تؤدي إلى عكس المقصود، فدماء المسلمين أغلى من أن تراق من
أجل أهداف وهمية، والقتلى والجرحى الذين سقطوا في (معركة الأشباح) هذه؛
أولى لهم أن كانوا سقطوا في مواجهة أعداء محددين أمامهم أو على أرضهم؛ لا أن
يسقطوا بعيداً بآلاف الأميال عن مخبأ مارق خسيس تحتضنه الديموقراطية الغربية
الوثنية.
رب قائل يقول: أين الغضب لحرمات الله التي انتهكت؟ ألم يكن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يغضب لحرمات الله حتى لا يقوم لغضبه شيء؟ والجواب: نعم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغضب غضباً منتجاً، لا غضباً عقيماً. وحق لنا أن نغضب، وحق لنا أن نمتلئ غيظاً، ولكنه الغضب الذي يتجه إلى
الهدف؛ لا الغضب الذي يكون صرخة في واد، الغضب الذي يبتعد عن
الاستعراض والتهويش، فيكون نفعه أكثر من ضرره.
الفائدة الثالثة: أن يوفر المسلمون جهودهم لما ينفع ويؤدي إلى صلاح حالهم،
وأن لا ينخدعوا بأساليب الديموقراطية الغربية وضمانها لحرية القول والتعبير
والاحتجاج، فهذه الحرية سلاح ذو حدين، أضعفهما الحد الذي يستعمله المسلمون
الذين يعيشون في ظل هذه الديموقراطية، وأشرسهما وأشدهما نكاية الذي تستعمله
هذه الديموقراطية وعُبَّادُها ضد من يقف في وجه اعتدائهم ووقاحتهم.
الفائدة الرابعة: أن حقوق المواطنة سراب خادع مادام الإنسان حريصاً على
أن يبدو مسلماً قولاً وسلوكاً، والجمع بين هذه الحقوق؛ وبين أن يكون المسلم مسلماً؛ كالجمع بين الماء والنار، وتستوي في هذه النتيجة كل الديموقراطيات: شرقية
وغربية، كما تستوي في النظر إلى المسلم نظرة الاشتباه والترقب والحذر كل
العلمانيات: المسيحية والممسوخة.
وأخيراً فإن من أساليب أعداء الإسلام استغلال بعض الظواهر التي تثير
المسلمين، فينفخون فيها، ويصطنعون منها معارك، فيجهزون الساحة، ويحشدون
النظارة، ويغرق الفريقان غير المتكافئين في حمى التشجيع، ولا يعودان يميزان
أماماً من وراء؛ ولا يميناً من يسار؛ ولا فوقاً من تحت، وهي معارك حتى لو
انتصر فيها المسلمون، فانتصارهم ليس إلا (فقْعة في قاع!) [1] ، وقد يكتشفون
أو لا يكتشفون أن المستفيد الحقيقي من هذه المعارك ليس المنتصر، بل الذي أقامها
وحشد لها، وهم في الحالة الراهنة الغربيون ومن يشاركهم العداء للإسلام وأهله في
كل مكان، وما استفادوا هو أنهم أظهروا المسلمين بالصورة التي يريدون، وروجوا
ما شاؤوا من الأفكار، وسوّقوا انتاجهم الرخيص بثمن غالٍ، واستفرغوا طاقات
كثيرة للمسلمين في محاربة طواحين الهواء.
ألا من وقفة أمام تعريف الحكمة وتحديدها؟ ! .
الحكمة التي قال الله تعالى فيها:
[يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ، ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً، ومَا
يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [البقرة: 269] .