مجله البيان (صفحة 3365)

قضايا ثقافية

موقف العصرانيين من الفقه وأصوله

(2-2)

محمد حامد الناصر

في الحلقة الأولى أشار الكاتب إلى جرأة العصرانيين على الفقه والفقهاء، ثم

فضح شذوذاتهم في هذا الميدان وذكر منها: تحليلهم ربا البنوك، وإلغاء أحكام أهل

الذمة، وإصرارهم على امتهان المرأة بدعوى تحريرها وخلص الكاتب إلى حقيقة

العصرانيين العلمانية مدللاً على ذلك بمحاولاتهم تنحية الشريعة وتأييد سقوط

الخلافة؛ بل ودعوتهم الصريحة إلى علمانية الحكم. ويتابع الكاتب في هذه الحلقة

كشف النقاب عن أولئك النفر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-

تزوير التاريخ وتمجيد الشخصيات المنحرفة (عند العصرانيين) :

وهذا أغرب مواقف العصرانيين، ويكاد الإنسان ألاَّ يصدق ما سطرته

أقلامهم، وما بثوه في كتبهم. لقد كان العبث في التاريخ الإسلامي هدفاً من أهداف هذه المدرسة، ولم تقف عملية التزوير عند عصر دون عصر، ولا عهد دون عهد؛ بل شملت كافة عصور الإسلام بلا استثناء.

فحروب الردة لم تكن برأي بعضهم حروباً دينية، وما كانت حرب عليٍّ مع

خصومه حرباً دينية، وإنما كانت حرباً في سبيل الأمر، أي في سبيل الرئاسة

والإمامة [1] .

أما الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقرر عمارة أنه العلماني

الأول في الإسلام (فقد كان رائد التمييز بين السياسة والدين، مع معارضة جمهور

الصحابة له، وقد بنى الدولة الإسلامية على هذا التمييز) [2] .

ويزعم حسين أحمد أمين أن ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله

عنه حذف من القرآن (500 آية) تطعن في بني أمية وتذم أبا سفيان [3] .

ويزعم الدكتور محمد عمارة أن (معركة بدر كانت بين الرسول صلى ... الله عليه وسلم وأصحابه، وبين الارستقراطية الملكية وحلفائها) ! [4] .

أما الفتوحات الإسلامية التي شهد الأعداء قبل الأصدقاء بعدالة أصحابها

ورحمتهم، ونبل دوافعهم في نشر الدعوة الإسلامية فللعصرانيين فيها رأي آخر؛

فالدكتور عبد المنعم ماجد يعجب من توهم بعض المستشرقين الذين يرون أن العرب

المسلمين فتحوا البلدان بدافع إسلامي ويقول: (لا نوافق بعض المستشرقين في

قولهم: إن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بالحماس الديني؛ فمن غير المعقول

أن يخرج البدوي وهو الذي لا يهتم بالدين لينشر الإسلام) [5] .

فلمصلحة مَنْ هذا الافتراء؟ ! لقد أصبح الدكتور مستشرقاً أكثر من أساتذته،

يغير الحقائق ويفتري لمصلحة أعداء أمته!

ويعتبر حسين أحمد أمين: أن الفتوحات الإسلامية هي نوع من الاستعمار،

كالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين فيقول: (وقد يحتج بعض المسلمين بأن

الاستعمار الإسلامي (! !) لدولة أسبانيا كان بنّاءاً وفي خدمة التمدين والعمران،

ولم يتخذ شكل النهب والسلب الذي اتخذه الاستعمار الأوروبي لدول آسيوية

وإفريقية؛ غير أن الاستعمار الأوروبي لأمريكا الشمالية وأستراليا كان هو الآخر

بنَّاءاً، وفي خدمة التمدين والعمران، في حين لم يجلب الاستعمار العثماني (! !) للبلقان غير الخراب) [6] .

ولست أدري كيف يستوي عند مسلم نشرُ دين الله وإقامة العدل بأروع صوره

بين البشر مع غزو الأوروبيين الذي قام على النهب واستنزاف ثروات الشعوب؟ !

لكنها نفوس هانت على أصحابها فمسخت لخدمة أسيادها.

ويحاول المستنيرون الجدد طمس معالم الصفحات المضيئة من تاريخنا

الإسلامي من منطلق دوافع قومية، ومن ذلك فتوحات العثمانيين، وانتصار

المماليك، وحتى انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين حاولوا الغمز من

صاحبه البطل المجاهد رحمه الله.

فالدكتور محمد جابر الأنصاري يحرص على تجريد العثمانيين من كل فضيلة

حتى غدوا في نظره (جماعة من الهمج المتوحشين الذين دمروا الحضارة العربية

الزاهية) [7] .

ويتابع الدكتور محمد عمارة صاحبه فيصف الفتح العثماني بأنه: (طوفان

الدمار التركي، وأرتال الجيش العثماني الذي لف العالم بردائه الأسود أكثر من

أربعة قرون) [8] .

فهل يعتبر هذا الهجوم على العثمانيين جزاء إيقافهم الزحف الأوروبي على

ديار العرب عدة قرون؟ وهل هذه مكافأة للجيش العثماني الذي فتح القسطنطينية؟ !

حتى السلطان صلاح الدين الأيوبي لم يسلم من أذى هؤلاء القوم - كما تقدم -

إذ يصفه الدكتور محمد عمارة بأنه (القائد الإقطاعي البارز) ! وهذا افتراء مشين

وغير مسؤول. قال ابن الأثير عنه: (توفي ولم يخلف في خزائنه غير دينار واحد

وأربعين درهماً) وقال العماد الكاتب: (ولم يترك داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا

شيئاً من الأملاك) [9] ، أهكذا يكون الإقطاع في نظر العصرانيين؟ ! !

كما يأسف الدكتور لانتصار المسلمين في الحروب الصليبية؛ لأنها أعادت

الحيوية للإقطاع العربي (فلقد كانت الحروب الصليبية مرحلة من الأحداث الكبرى

التي أتاحت للإقطاع العربي فترة من استرداد الحيوية والنشاط) [10] .

وهو يتبرأ كذلك من النصر الذي حققه المماليك المسلمون على المغول التتار؛

لأنهم غرباء عنا حضارياً وتاريخياً، ولأنهم لم يكونوا من العرب [11] ، ثم يقول:

(ولكن القوى التي أحرزت هذا الانتصار العسكري كانت في الأساس مؤلفة من جند

المماليك، ومن ثم فقد كانت قوة غريبة قومياً وحضارياً عن الأمة والشعب والتراث

والتاريخ) [12] .

وما أدري مَنْ هو الغريب ثقافياً وحضارياً عن تاريخ الأمة: أهؤلاء الذين

يحققون أهداف رجال التنصير والاستشراق وأعداء الأمة، أم أولئك الذين طردوا

الصليبيين والمغول عن بلادنا تحت رايات الجهاد في سبيل الله؟ ! لقد اختلت

الموازين، واضطربت المعايير عند هؤلاء الناس.

هذه نماذج فقط من تحامل العصرانيين على تاريخنا الناصع، والمجال لا

يتسع لذكر المزيد؛ إذ زَوَّروا حقائق فتوحات المسلمين للعراق والشام من منظور

قومي، وادعوا أن نصارى العرب ساعدوا الفاتحين المسلمين؛ خلافاً لحقائق

التاريخ لدى مؤرِّخينا الثقات.

تمجيد الفِرَق والحركات المنحرفة:

لقد تابع بعض العصرانيين سادتهم من المستشرقين في تمجيد الحركات الهدامة

والفرق الضالة التي ظهرت في تاريخ المسلمين فقد مجَّدوا الخوارج، واعتبروا أنهم

حزب العدالة والجمهورية والقيم الثورية التي جاء بها الإسلام، - رغم أنهم كلاب

جهنم وقد مرقوا من الدين، كما ذكرت ذلك الأحاديث الصحيحة واعتبروا أن

القرامطة (هم الجناح اليساري في الحركة الشيعية، بل كانوا حركة ثورية ضد

الإقطاع) كما يرى الدكتور محمد عمارة [13] .

والقرامطة هم الذين احتلوا مكة المكرمة وقتلوا الحُجَّاج آنذاك، ورموا جثثهم

في بئر زمزم، ونهبوا حلي الكعبة، واقتلعوا الحجر الأسود وبقي عندهم أكثر من

عشرين سنة.

وقد مجد العصرانيون المعتزلة، وأعجبوا بمنطقهم وفلسفتهم، كما أعجبوا

بالقدرية والشيعة، ويرى الدكتور محمد عمارة أن ثورات الخوارج والمعتزلة

والشيعة كانت بسبب الظلم الاجتماعي ونبذ بني أمية لمبدأ الشورى [14] .

وقد سبقهم بذلك المستشرق (بروكلمان) في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية)

فهو يُعلي من شأن القرامطة وثورة الزنج إلى جانب افترائه على الصحابة افتراءاً

عجيباً.

ومجدوا الدولة العبيدية: إذ خصص الدكتور محمد عمارة كتاباً كاملاً في

تمجيد هذه الدولة الرافضية الإسماعيلية بعنوان: (عندما أصبحت مصر

عربية) [15] . واعتبر أن تولِّيها على مصر اكتمال لعروبتها! !

قال المؤرخ ابن كثير رحمه الله في هذه الدولة: (كان الخلفاء الفاطميون من

أغنى الخلفاء وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم

البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد)

وقال عن أول ملوكهم المهدي: (كان حدَّاداً من سلمية اسمه عبيد، وكان يهودياً،

فدخل بلاد المغرب وكان يسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي،

وصار ملكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض) [16] .

وقال ابن تيمية رحمه الله: (هم من أفسق الناس ومن أكفر الناس) [17] .

فأي جناية يقوم بها العصرانيون في تمجيد هؤلاء الضالين الذين يكفِّرهم علماء

المسلمين؟ ! حتى ثورة الزنج التي التهمت البصرة يمجدونها، ويرون أنها ثورة

رائدة!

ثورة الزنج: هي من الثورات الطائشة التي اهتم بدراستها المستشرقون

كعادتهم في تمجيد التيارات الحاقدة في تاريخنا، وقد خصص الدكتور محمد عمارة

مبحثاً كاملاً من كتابه: (الإسلام والثورة) للحديث عن ثورة الزنج، وكان مما ...

قاله: (كان قائد هذه الثورة شاعراً وعالماً، وهو ثائر عربي وعلوي، وأغلب قوادها كانوا عرباً) [18] ، ويقول: (هذه الثورة قد بدأت في سلطة عربية ضد سلطة المماليك الترك الذين كانوا يفرضون طغيانهم على خلفاء بني العباس وخلافتهم في بغداد) [19] وقد كتب الأستاذ محمد جمال رسالة بعنوان (الفتنة السوداء) يقول فيها ما موجزه [20] : (لقد سماه المؤرخون (صاحب الزنج) وهو رجل فارسي الأصل، محتال خبيث، اصطنع لنفسه نسباً إلى آل البيت) . ...

قال ابن كثير: (ولم يكن صادقاً، وإنما كان أجيراً عند بني عبد القيس،

واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأصله من قرى الري) وكان يقول

لأصحابه: (لقد عُرضت عليَّ النبوة، فخفت ألا أقوم بأعبائها، فلم أقبلها) .

قال الأستاذ محمد جمال في ختام بحثه القيم عن هذه الفتنة: (هذه يا أخي

القارئ حقيقة ما يسميه بعض من يزوِّر الحقائق بـ (ثورة الزنج التحررية) نقلت

لك أخبارها بأمانة من أوثق كتب التاريخ الإسلامي) [21] .

تمجيد الشخصيات المنحرفة: وهذا أمر غريب يلفت النظر؛ إذ لم يترك

العصرانيون شخصية خبيثة في معتقدها، منحرفة في مسلكها إلا حاولوا تمجيدها،

فمجدوا غلاة الصوفية كابن عربي والحلاج وأمثالهما، ومدحوا أصحاب الحركات

الباطنية كإخوان الصفا والحشاشين والقرامطة. ومعلوم أن المستشرق (ماسينيون)

قد اهتم ببعث التراث الصوفي الفلسفي كالحلاج وكتابه الطواسين، واهتم بابن

سبعين وبمذهب الباطنية [22] .

وكثيراً ما أشاد محمد عمارة وأمثاله بالتصوف الفلسفي، رغم خروج أصحابه

على الشريعة. يقول: (وأصحاب هذا النهج لا يقفون عند حدود الشريعة كما

حددها الفقهاء، ومن هنا جاء الصراع بين الصوفية والفقهاء، لكن تاريخ هذا

الصراع يشهد بأن الفقهاء كانوا أضيق أفقاً، كما كانوا أدوات للسلطة الحاكمة على

عكس الفلاسفة الصوفيين؟ !) [23] وقال: (ابن عربي في التصوف الفلسفي قمة

القمم، لا في حضارتنا العربية الإسلامية فقط، بل وعلى النطاق الإنساني، وهو

بمقياس (السلفية المحافظة) أو (الفقهاء) وثنيٌّ زنديق) [24] .

وفلاسفة الصوفية قالوا بوحدة الوجود، وتعطيل الشريعة، ورفع التكاليف

عنهم، وكان لهم تأثير سلبي على الحياة الاجتماعية في القرن السابع الهجري وما

تلاه.

ويمجد العصرانيون انحرافات المعتزلة ورجالاتهم.

فها هو عمارة يشيد بقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (فهو أعظم

أئمة المعتزلة في عصره، وقد قاد الصحوة الاعتزالية في عصر اضطهاد المعتزلة، فقد بلغت الدولة العباسية في ذلك الاضطهاد إلى حد تحريم فكر المعتزلة بمرسوم

هو أشبه ما يكون بمراسيم الحرمان الكنسية أيام الخليفة القادر) [25] .

كما يمجد عمرو بن عبيد: (فهو زاهد المعتزلة وناسكهم وعالمهم وقائدهم وقد

ساهم في الثورة ضد بني أمية) [26] .

وبينما يمدح حسين أحمد أمين يزيد بن أبي سفيان صاحب الحَرَّة الذي استباح

مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمجد الحجاج بن يوسف الثقفي الذي حاصر

مكة وقتل ابن الزبير وضرب الكعبة بالمنجنيق

ويقول: (إنه أعظم الإداريين في تاريخ العالم) [27] على حين نراه يصب

جام غضبه على الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيرى أنه ساهم

بجهله في الشؤون السياسية في تدهور أحوال الدولة الأموية ثم سقوطها ثم يقول: ... (ولم تجلب سياسته المالية والإدارية غير خراب الدولة) [28] .

هكذا تكون الموضوعية والأمانة في دراسة التاريخ الإسلامي عند دعاة

التغريب! !

ويشيد الدكتور عمارة بالجوانب المظلمة من مسيرة جمال الدين الأفغاني،

كتنظيم (جمعية العروة الوثقى) السرية، وبمبادئها المليئة بالإشارات والرموز

السرية، ويتحدث عن تأسيسه محفلاً وطنياً شرقياً وعلاقاته مع المحفل الفرنسي

الماسوني؛ فاستمع إليه وهو يقول: (من مجموعة الأوراق والوثائق والمراسلات

التي بقيت من آثار هذا التنظيم نضع يدنا على خبرة في العمل السياسي والتنظيمي بلغت درجة عالية من النضج والعبقرية، وهذه خبرات نعتقد أن لها صلات وثيقة بتراث العرب والمسلمين في التنظيم السري منذ جمعيات المعتزلة، وإخوان الصفا القرامطة والحشاشين) [29] .

كما يمجد العصرانيون الشيخ علي عبد الرازق على خدماته الرائعة لهدم

الشريعة على طريقة الكنائس النصرانية، في كتابه: (الإسلام وأصول الحكم) .

يقول محمد عمارة: تتفق آراء كثير من المفكرين على اعتبار كتاب الشيخ علي عبد

الرازق (الإسلام وأصول الحكم) أهم الكتب التي صدرت منذ بداية النهضة العربية

الحديثة؛ لأنه يمثل موقفاً شجاعاً من شيخ واجه الملك وعلماء الدين الدائرين في

فلك الملك، ولقد كان الشيخ من تلامذة مدرسة الإمام محمد عبده، وتأثير فكر ... الإمام المعادي للسلطة الدينية واضح تماماً في منطلقات علي عبد الرازق) [30] .

والحقيقة أن واضع الكتاب الأصلي مستشرق يهودي محترف هو ... (مرجليوت) أهداه للشيخ خلال دراسته في لندن، وأن علي عبد الرازق كان ينتمي إلى أسرة عريقة في خدمة المستعمر الإنجليزي [31] .

وهكذا وقف العصرانيون في صف أعدائنا في قضايا الحكم والتشريع وفي

موقفهم من السنة النبوية وتراث الأمة وتاريخها فأصبحوا تياراً خطيراً ينخر في

جسم الأمة، ويشكك في أصول فكرها وعقيدتها وتاريخها باسم

الإسلام والتجديد والاستنارة وتحكيم العقول! ! ليوقعوا شباب الأمة في

متاهات لا نهاية لها [والله غالب على أمره] [يوسف: 21] والحمد لله رب

العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015