مجله البيان (صفحة 3316)

دراسات تربوية

وصايا محب

بليغ المشاعل

الحمد لله رب العالمين ...

أخي الحبيب: كم يعتريني خجل وحياء كلما رأيت قلمي يداعب الورقة لكتابة

رسالة إليك، فأنا كالمدين الذي جاء يسدد الدين بعد فوات الأجل، تراه يسير بجانب

الجدار ثم يطرق الباب، وهو يسأل الله ألا يفتحه الدائن بل أحد أبنائه الصغار،

فيعطيه ما معه وينصرف سريعاً ليختفي عنه ردحاً من الدهر.. وأحسب أني لا

أختلف كثيراً عن ذلك المدين؛ فكم أتمنى أن أرسل هذه الرسالة مع أحد معارفك أو

زملائك، أو لعل ريحاً تأتي فتحمل تلك الرسالة إليك وتريحني من عناء اللقاء

المشوب بخجل المداينة؛ لكن طمعي وأملي في جميل طبائعك وكريم سجاياك

سيجعلني أتجرأ لأقف بالرسالة بين يديك فأعطيكها دون خوف الدَّين والمدين.

مشاعر غريبة جداً اعتلجت في صدري حينما قرأت ما كتبته إليَّ حول طلبك

النصيحة مني:

أهي شعور بالفرح لاستمرار الثقة والمودة بيننا؟

أم شعور بالخوف من عدم القدرة على أداء هذه المهمة؟

أم شعور محبط بنقصي الذي يمنعني من نصح من هم على مستوى عالٍ من

الخلق والدين.

وبقيت أياماً لا أستطيع تحديد حقيقة مشاعري وموقفي تجاه تلك الرسالة،

حتى استقر شأني على أمرين لا ثالث لهما: إما أن أكتب الرد، أو لا أكتبه.

وكان لكلٍ من هذين الأمرين داعيه الذي يلح عليَّ بالإجابة فأقف حائراً بينهما، ولكني عزمت على الكتابة أداءً للحق الواجب شرعاً بين المؤمنين، ولعلَّ الله -

تعالى - أن ينفعني وإياك بهذه الوصايا:

الوقفة الأولى: رفيق الدرب!

أخي الفاضل ... ما أشق الطريق وأبعد الغاية على الذين يسافرون وحدهم من

غير صاحب يخفف عنهم عناء الطريق، ويدفع عنهم جهد السفر، والمسلم في هذه

الحياة مسافر يحتاج إلى أنيس في سفره ومعين في جهاده حتى يصل لغايته وهدفه،

ويا لسعادة ذلك المسافر إن كان رفيق دربه كيّساً تقياً! ويا لتعاسته إن كان غير

ذلك!

إن المؤمن قوي بإخوانه ضعيف وحده، ولا يزال العبد في قوته ما دام آخذاً

برفقة الخير والجلساء الصالحين (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) [1] .

كم أشعر بالغباوة وأنا أسترسل في ذكر أهمية الأخ الصادق والرفقة الطيبة

وهي حقيقة أصبحت من آكد المسلَّمات!

قد يستنكر بعض الشباب الذين قطعوا شوطاً كبيراً في الهداية حينما توصيه

بالتزام الرفقة الصالحة والعض عليها بالنواجذ، وهم مخطئون بذلك الاستنكار؛

فالمؤمن في كل حال ومهما بلغ يظل محتاجاً لإخوانه، بل هذا نبي الله محمد صلى

الله عليه وسلم يوصيه ربه فيقول: [واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة

والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من

أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا] [الكهف: 28] .

فيا لغباء المستكبرين! !

الوقفة الثانية: وللرفيق بريق:

من الخطأ بل من السذاجة أن نعتقد أن الشيطان سينسحب من المعركة في أول

هزيمة له أو أنه سيتركنا مع أول وقفة جادة لنا مع أنفسنا.

ولئن أشرت إلى أهمية الرفقة الصالحة قبل قليل فلا بد من الإشارة إلى

مزلقين هامين يحرص الشيطان على نصبهما لنا كثيراً:

المزلق الأول: أن نعتقد أنَّا قد وجدنا الرفيق الصالح بمجرد رفقتنا لمجموعة

صالحة، ومن ثمَّ يعتقد الإنسان أنه مع جليس صالح بمجرد أن يكون مع رفقة

بعمومها صالحة، وننسى أن النفع الأكبر إنما يكون من خاصة أولئك الصالحين،

فبعض الناس ينتقي أردى الأصحاب ليقتبس أخلاقه ويتطبع بطباعه، ويهمل

الأخيار والمتميزين منهم؛ لأنه في رفقةٍ الغالبُ عليها الصلاح، ولا يزال يتردى

وينحط مع خليله ذاك حتى ينسى نفسه، ويفقد خيراً كثيراً.

وقد أشار الإمام ابن القيم إلى آفات الاجتماع بالإخوان فقال: (الاجتماع

بالإخوان قسمان:

أحدهما: اجتماع مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.

الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق

والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:

تزيين بعضهم لبعض، والكلام والخلطة أكثر من الحاجة، وأن يصير ذلك

شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود) [2] .

المزلق الثاني: الاكتفاء بدور الأستاذ المربي، ومع شرف هذه المهمة

وأهميتها إلا أن الاهتمام بمعاشرة أهل الفضل والعقل والتقوى من الجانب الآخر أمر

مهم؛ لكي لا يكون عقل الرجل مع مرور الوقت عقل صبي في جسم رجل.

والتوسط في كل الأمور حسن ومطلوب.

الوقفة الثالثة: حياة بلا روح:

ما أقبح الحياة بلا روح! بل لا حياة بلا روح.. وكل مبتغٍ للحياة استمراراً

من غير روح فهو كمن يرجو المحال.. يقول تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من

أمرنا [الشورى: 52] .

سبحان الله! فقد سمَّى الله القرآن العظيم بالروح، فلا حياة حقة من غير

كتاب الله عز وجل، ولا نعيم في الدنيا والآخرة من غير كتاب الله؛ فهو لذة

المتلذذين ونعيم المتنعمين، وهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم.

إن خير ما يربي به المرء نفسه وخير ما يربي به المربون أبناءهم جلسة

خاشعة مع كتاب الله عز وجل خالية من كدر الدنيا، وخالصة من شوائب الحياة،

وما أجمل الصلة بحبل السماء يوم تنقطع حبال الأرض! وما أجمل ولوج أبواب

السماء يوم تغلق أبواب الأرض! وأعظم ما يكون الأُنس بكتاب الله تعالى حينما

تهدأ العيون ويغط الناس بنومهم، فيقوم الصالحون يتلون كتاب الله تعالى بخشوع

صادق، وإخبات تام، تحفهم الملائكة بالرحمة، [وقرآن الفجر إن قرآن الفجر

كان مشهودا] [الإسراء: 78] .

احرص على قراءة كتاب الله وتفسيره وحفظه وتدبره والعيش معه في ورد

خاص، ولا تقطع صلتك بكتاب الله، بعيداً عن كل ملهيات الدنيا وصوارف الحياة.

[وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم] [فصلت: 35] .

الوقفة الرابعة: أرحم الناس بالناس:

أخي الكريم: كم تكون شفيقاً حينما تشاهد منكوباً يتألم، فتتألم لألمه وتبكي

لبكائه.

وكم تكون رحيماً حينما تمد يدك بصدق من أجل مساعدته.

وكم تكون أرحم ممن سبق حينما تجهد نفسك في عونه ومساعدته، وتؤثره

على نفسك.

لكن اعلم رحمك الله أنك من أرحم الناس بالناس يوم تدعوهم إلى الله، يوم

تقدم لهم نور الهداية، وتنقذهم من ظلمة الغواية.

إن الدعوة إلى الله هي مهمة الأنبياء والمرسلين من قبلنا، ولنا الشرف يوم

نسلك مسلكهم ونسير على طريقهم، واعلم أن من أعظم الدعوة إلى الله تربية النشء

على حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وإبعادهم عن مستنقعات الرذيلة؛

أقول كلامي هذا في وقت انتقص فئام من الناس مهمة المربين ووصموهم بقصر

النظر وسطحية التفكير، وتعليم الصبيان.

أخي المحب: إن تربية الشباب على الطاعة والتقوى من أعظم أوجه الدعوة

إلى الله التي لا يبصر نتائجها إلا أهل البصيرة الثاقبة الذين وفقهم الله لفهم هذه

الأمور، ولْيرتع أصحاب الفكر السطحي وطالبو النتائج السريعة في حمأة سذاجتهم

ولْيتركوا هذا الأمر لرجاله.

إن المربين هم صُنَّاع الرجال، وهم بنّاؤو الحضارة، ومغيرو مسيرة التاريخ. والدعوة التي تمتلك أكبر قدر من المربين الصادقين هي الدعوة التي يكتب لها

البقاء، وترسخ أقدامها في أعماق الأرض، فلا تضرها فتنة إلا أن يشاء الله.

الوقفة الخامسة: لا تكن شمعة!

مسكينة هي الشمعة، كم هو مؤلم أن تحترق ويستفيد الناس من نورها..!

وكم هو مؤلم أن يحترق الداعية للناس فيستنيرون ويذبل هو..!

ما أعنيه هنا هو إهمال المرء تربية نفسه ببلوغه مرحلة من العمر؛ فقد يعتقد

بعضنا أن كبر سنه يغنيه عن التربية الفردية لنفسه، أو أن ممارسته لنشاط دعوي

يغنيه عن الانتباه لنفسه، وهذا مزلق خطير؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، والداعية في

مقام القدوة دائماً فلا بد من أسلوب التربية الذاتية، والحرص على بناء الإيمان،

وتعهد القلب بالصلاح وإنماء الورع، حتى لا نكون مثل الشمعة تحترق وغيرنا

يتمتع بالإضاءة.

الوقفة السادسة: ميراث الأنبياء!

مع أهمية ما أسلفت من دعوة إلى الله عز وجل وعبادة صالحة له، إلا أنها

قد تكون وبالاً على صاحبها إذا خلت من أساسها المتين ومادتها الأصيلة وهي العلم

الشرعي، قال الله تعالى: [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن

اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين] [يوسف: 108] .

إن كل دعوة مهما بلغت من نشاط هي دعوة جوفاء إذا خلت من العلم الشرعي

الرصين، بل ربما تكون دعوة إلى الجهل، وما نشأت الجماعات الضالة إلا بسبب

الدعوة المفرَّغة من العلم الصحيح.

وكل عبادة على غير هدي النبوة مهما بلغت من كثرة هي نقص وخلل

وخاصة إذا خلت من العلم الشرعي، وما نشأت فرق الزهاد الضالة إلا بسبب

الجهل العريض الذي اكتنف تلك الفرق.

إن في العلم حياة لا يعرف قدرها إلا من ذاق حلاوتها، واستطعم لذتها، وما

أحسب أن هناك صفوة في أي مجتمع إلا وكان أهل العلم هم روادها، [إنما يخشى

الله من عباده العلماء] [فاطر: 28] .

الوقفة السابعة: إخلاص يحتاج إلى إخلاص:

يقول الله عز وجل: [ليبلوكم أيكم أحسن عملا] [الملك: 2] لقد جعل الله

عز وجل أساس التفاضل هنا الحسن، ولم يجعله الكثرة؛ فالمسألة ليست مسألة

كثرة، بل هي نوع وجنس صالح.

وأكمل ما يعين على تحسين العمل ووصفه بالحسن: (إخلاص العمل لله عز

وجل) بل هو مادة العمل الحقيقية، ومن غيره فوجود العمل وعدمه سواء.

أخي الكريم: كم يعاني الصادقون من قضية الإخلاص، لكن لا بأس؛ فأول

خطوات الوصول (المعاناة) لكن لا بد من الصبر والمصابرة والمجاهدة حتى يصل

المرء إلى غايته ومطلوبه ولو بعد حين، وإياك والاغترار بالعمل فقد قال بعض

السلف: (من ظن أن في إخلاصه إخلاصاً، فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص) .

أخي الفاضل: إن ما ذكرته سابقاً من وصايا أنا والله من أحوج الناس إليها قد

تثير في نفسك همة العمل وشِرَّة [3] الإنتاج، وهذا ما أرجوه، لكن قد يعجز المرء

في أول أمره فلا بأس، فليعاود ثم ليجاهد ثم ليصابر حتى يبلغ مراده ولا تحسبن أن

الأمر سهل ميسر، بل هو غاية قُطِعَتْ من أجلها رقاب وأزهقت أنفس، فأرخص

الغالي لها سددك الله: [والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا] [العنكبوت: 69] .

ختاماً: أخي الكريم! أعتذر إليك إن كنت قصرت في نصحك أو أسأت الأدب

في وعظك؛ فهذا جهد المقل وأرجو التجاوز والصفح، واعلم يا رعاك الله أني ما

كتبت هذا الكلام إلا بعد تردد لعلمي بقصور ذاتي وقلة علمي.

وأسأل الله أن يعينني وإياك على تحقيق مرادنا، وأن يتجاوز عنا جهلنا

وإسرافنا في أمرنا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015