وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
درج عدد كبير من رموز الصحوة الإسلامية على مخاطبة الجماهير من خلال
المنابر المختلفة، ووجد كثير منهم - ولله الحمد - إقبالاً واسعاً، والتفَّت الجموع
بين أيديهم، وهذه نعمة عظيمة يفتقدها كثير من رموز الفكر والأدب والثقافة
الآخرين. ولهذا أحسب أنَّه من الواجب على الإسلاميين إعادة النظر في طروحاتهم
وطريقتهم في الخطاب وتقويمها، لتحصيل أعلى المصالح ودرء المفاسد قدر
الإمكان، والاستفادة من التجربة الماضية. وهاهنا أمور أرى أنه ينبغي مراعاتها
في هذا الأسلوب أضعها بين أيديكم للحوار وتبادل الرأي حولها:
أولاً: الإيمان بالهدف:
مرَّ على الناس في العصور التاريخية المختلفة عدد من المصلحين والمفكرين
ودعاة التغيير، سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم. وبتتبع سيرهم وأخبارهم
نجد أن صلة الجماهير بهم تزداد وترسخ مع الوقت إذا اطمأنوا إلى صدقهم وجديتهم
وإيمانهم العميق بأهدافهم التي ينادون بها، واستعدادهم القوي على تحمل تبعات تلك
المبادئ، والتضحية من أجلها. وفي المقابل نجد أن الجماهير تنفضُّ وتتفلت من
تلك الرموز إذا رأت فيها العجز والهوان، أو أحست ضعف مصداقيتها وجديتها،
وقديماً قال الرافعي: (رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تخرج الصغار شجعاناً،
ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة) [1] .
ثانياً: الحذر من الخيلاء وحب الرياسة:
محبة الناس للمصلح وتجمُّعهم بين يديه فتنة عظيمة قد تطغى على بعض
النفوس الضعيفة، وتُنبت فيها الخيلاء والاستكبار وحب الرياسة، وتصرفها عن
كثير من معالي الأمور. وكم من الرموز التي تساقطت ولفظتها الجماهير، أو
تناستها، حينما غلبت عليها تلك الشهوة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما ذئبان جائعان أُرسِلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال
والشرف لدينه) [2] .
ولهذا قال ابن تيمية: (كان شداد بن أوس يقول: يا بقايا العرب، يا بقايا
العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قال أبو داود صاحب السنن:
الشهوة الخفية: حب الرياسة. وذلك أن حب الرياسة هي أصل البغي والظلم) [3] . وقال أيضاً: (وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق
محبتها لله وعبوديتها له) [4] .
وملاحظة النفس ومراجعتها من أعظم أبواب المجاهدة التي ينبغي للمرء أن
يأخذ بها، والغفلة عن ذلك قد تؤدي إلى الزلل، ومن تعلَّق قلبه بحبِّ الظهور
صغرت نفسه، وغلبت عليه الأهواء الشخصية وتردَّى في سلسلة من الانحرافات
التي تزيد بزيادة تلك الآفة القلبية، وما أحسن قول الرافعي: (إذا أسندت الأمة
مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم) [5] .
ثالثاً: الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة:
حينما يتصدر المرء لمخاطبة الجماهير قد يقع - من حيث لا يشعر! - في
دائرتهم، فيقودونه ويدفعونه لمحبوباتهم، ويزداد تأثره بمشاعرهم الجياشة عند كثرة
الهتاف والتصفيق، وتأخذه النشوة بكثرة الحشود؛ ومعلوم أن نسبة كبيرة من أولئك
العامة لا ينظرون إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ولا يحيطون بكثير من التداخلات
الفكرية والسياسية، ولا يَزِنون ردود الأفعال بالموازين العلمية.
وأحسب أن التأثر بالجماهير نوعان:
الأول: التأثر الإيجابي:
وهو في غاية الأهمية؛ لأنهم يشعرون بالتفاعل والاهتمام، ويحسون بأهمية
آرائهم، وقيمتهم المعنوية، كما يحسون بدورهم في البناء والتغيير، ممَّا يزيدهم
ارتباطاً بدعاة الإصلاح، ويحفزهم إلى المزيد من التجاوب والتعاون.
الثاني: التأثر السلبي:
حيث ينساق المرء وراء عواطفهم، ويقع في شراكهم، ويصبح برنامجه
الإصلاحي مرتبطاً برغباتهم، وخطته العملية متأثرة بأهوائهم، وتكون النتيجة أن
الجماهير هي التي تقوده، وهو يحسب أنه يقودهم..! !
رابعاً: الدقة في الخطاب:
الخطيب الذي يتصدر لمخاطبة الجماهير لا يسلم من الخطأ والزلل، حاله
كحال غيره من المتحدثين، (وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوْب) [6] .
ولكن خطأ الخطيب يكون على رؤوس المنابر يسمعه الناس كبيرهم وصغيرهم،
وقد يطير خطؤه في الآفاق. وبعض أصحاب النفوس المريضة يكون همه أن
يتصيد العثرات، ويتسقَّط الزلات، وتكون فاكهته التي يتندر بها ويفرح، ولهذا قال
عمر بن الخطاب: (ما كانت على أحد نعمة إلا كان لها حاسد، ولو كان الرجل
أقوم من القدح لوجد له غامزاً) [7] . ولمَّا قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد! ... إنَّ هاهنا قوماً يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك! فقال الحسن: (يا هذا!
إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع، إني لمَّا رأيت الناس لا يرضون
عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم) [8] .
إنَّ على من يتصدر لمخاطبة الناس أن يعتني بما يصدر عنه اعتناءاً شديداً،
وينتقي عباراته انتقاءاً دقيقاً، ويحرص حرصاً كبيراً على أن يخرج كلامه بدقة
وإتقان، حتى ينفع سامعيه ويسد - قدر الطاقة - منافذ الهوى عند بعض الناس،
ومع ذلك كله لن يسلم أحد من الخطأ مهما بلغ حرصه، ويعجبني المتحدث الذي
يملك الجرأة والشجاعة على مراجعة أقواله، ويوضح ما استشكله الناس عليه،
ويعترف بخطئه إن كان ثمة خطأ.