مجله البيان (صفحة 3283)

سبق درهم مئة ألف درهم

قضايا دعوية

سبق درهم مائة ألف درهم!

عبد الخالق القحطاني

من نافلة القول أن الدعوة إلى الله - عز وجل - من أجلِّ الأعمال وأشرفها؛

فهي مهمّة الرسل - عليهم الصلاة السلام - وقد خُصَّت بها هذه الأمة من بين سائر

الأمم من لدن آدم - عليه السلام - حتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

غير أن الناظر إلى الساحة اليوم يجد انصرافاً - إن لم يكن إعراضاً - عن

هذه المهمّة العظيمة من قِبَلِ أناسٍ كان يُفترض فيهم أن يكونوا هم أهل الميدان

المنتظرين، وقادته المبرّزين.

هؤلاء الأفراد على مستويً عالٍ من التربية الإسلامية والفهم الصحيح،

ويجمعون إلى ذلك ذكاءاً وَقَّاداً ومعرفة بالعلوم الشرعية لا يستهان بها.

ولكنّ المعادلة غير المفهومة تنشأ عندما نرى هذه الفئة من المؤهلين تدير

ظهرها لهذه المهمّة -أعني الدعوة إلى الله- وتنشغل بما ينشغل به عامَّة الناس من

الانخراط في الوظيفة والعمل الدنيوي، وقد يجمعون إلى جانب انشغالهم ذاك توزيع

كتاب أو شريط إسلامي أو القيام بعمل دعوي محدد أيّاً كان - كأثرٍ من آثار الضغط

الذي تفرضه عليهم التربية التي تلقوها في سنين ماضية - ظانين بذلك أنهم قد أدّوا

ما عليهم تجاه الفكرة التي يحملونها.

هذا الفراغ الهائل الذي خلّفه هؤلاء النفر، دفع أناساً ممّن ليست لديهم الخبرة

الكافية ولم يبلغ علم أحدهم النصاب الشرعي [1]-وربما لم ينخرط الواحد منهم في

أي برنامج تربوي طيلة حياته - إلى أن ينزلوا إلى ميدان الدعوة وليس لديهم عُدَّة

سوى العاطفة الصادقة، والإحساس بالمسؤولية تجاه الدين الذي هم به يؤمنون.

إن هذه الصورة غير المتوازنة تثير في النفس الشعور بالأسى والإعجاب في

آن واحد:

- الأسى لواقع أولئك المتخلفين عن قافلة الدعوة مع قدرتهم وتمكنهم.

- والإعجاب بأولئك المتقدمين - على قلة بضاعتهم - وأذكر عن أحد هؤلاء

المتقدمين قوله لأحد الزملاء: (أنا قليل الفهم في العلم الشرعي؛ ولكنني أستطيع

أن أقف على باب المسجد وأوزّع على الناس أشرطة أو كتيبات، أليس الدال على

الخير كفاعله؟) لقد قلت في نفسي: هو - والله - أفقه من كثيرٍ ممن لديهم الكثير

من العلم الشرعي!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم: رجلٌ له

درهمان أخذ أحدهما فتصدّق به، ورجلٌ له مالٌ كثير فأخذ من عرض ماله مائة

ألفٍ فتصدَّق بها) [2] .

وهكذا سبق درهم الفقير مائة ألف الدرهم التي للغني؛ لأنَّ الدرهم كان نصف

مال الفقير، ومائة ألف درهم كانت شيئاً من مال ذلك الغني.

وبالمثل حال أولئك النفر من الناس الذين يملكون قدرات ومواهب ولا

يستثمرون منها إلا النزْر اليسير يجعلونه لدعوتهم، وحال أولئك الذين ليس لديهم إلا

القليل من المعرفة والفهم ولكنهم قد بذلوه كله في سبيل دعوتهم؛ فإن درهم هؤلاء لا

شك يسبق دنانير أولئك المكدّسة!

فإلى إخواننا الذين هجروا الميدان قبل أن يلجوه، وظنّوا أنهم قد أدَّوْا ما عليهم

وزيادة، إليكم ما قاله أبو مالك - رحمه الله -: (كم من رجلٍ يرى أنه قد أصلح

شأنه، قد أصلح قربانه، قد أصلح همّته، قد أصلح عمله، يُجْمَع ذلك يوم القيامة

ثم يُضرَب به وجهه!) [3] .

قال - تعالى -: [وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم]

[محمد: 38] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015