قضايا ثقافية
من مواقف طه حسين
تجاه التراث الإسلامي
خالد بن سعود العصيمي
كانت الحلقة الأولى عرضاً لما سجَّله طه حسين من آراء ومواقف معادية
للتراث الإسلامي من خلال كتبه. وفي هذه الحلقة يحلل الكاتب تلك الآراء
والمواقف مفصحاً عن مواردها ودوافعها وما تحمل في طياتها من اعتقاد وفكر؛
لتستبين سبيل طه حسين وسبل من اقتفى أثره.
- البيان -
آراء طه حسين بين الجدة والقدم:
إن ما طرحه طه حسين من آراء، وما ادعاه من نظريات ليست وليدة أفكاره
بالجملة، بل جاءت تقليداً في بعض الأحيان، ومسخاً وتشويهاً في أخرى، وسرقة
وسطواً في ثالثة.
ففكرة بشرية القرآن وأنه من عمل محمد الذي عاش حياة خاصة، وهي حياة
المكيين مأخوذة من المستشرق جب في كتابه: (المذهب المحمدي) ، وقد قام الدكتور
محمد البهي - رحمه الله - بعقد موازنة بين ما ذكره جب في (المذهب المحمدي)
وما ذكره طه حسين في (في الشعر الجاهلي) [1] واستخلص ما توافقا فيه، واختلفا
فيه، فأما ما اتفقا فيه، فأُوردها بإجمال:
1 - أن الحياة الجاهلية قبل الإسلام كانت حياة حضارية، وكانت حياة حافلة
بالكياسة والسياسة، والنشاط الاقتصادي والنهضة الدينية.
2 - أن محمداً - أو الإسلام أو القرآن - استغل المقدسات في مكة. وظاهرة
استغلال هذه المقدسات - كما يرى صاحب المذهب المحمدي - تكمن في أن ثورة
محمد أو الإسلام أخذت طابع الدين دون الطابع الاجتماعي، أما صاحب كتاب (في
الشعر الجاهلي) فيرى أن ظاهرة استغلال المقدسات برزت عند محمد أو الإسلام في
قبول قصة إسماعيل وتعليمه العربية اضطراراً مع أنها أسطورة أثبتت الحقائق
العلمية - بزعمه - عدم وقوعها.
3 - أن القرآن لم يكن جديداً كل الجدة على العرب، فما فيه من عقائد كانت
تعرفها قلة، ويعرفها العرب في شبه الجزيرة، ولكن صاحب كتاب (المذهب
المحمدي) يرى أن دليل معرفتهم لذلك هو عدم معارضة المكيين له، وما ظهر من
معارضة أرجعه إلى المنافسة السياسية والخشية من انهيار اقتصادهم، بينما يرى
صاحب كتاب (في الشعر الجاهلي) أن دليل ذلك هو قبول من قَبِلَ منهم، ومعارضة
من عارض من بينهم، فلو لم يكن مألوفاً لديهم لما عارض من عارض ولا قَبِلَ من
قَبِلَ، ولا حفل به أحد ولا كان له أي خطر.
4 - أن دعوة الإسلام دعوة محلية في جماعة خاصة وفي حياة خاصة؛
فالقرآن أو الإسلام انطباع واضح لهذه الجماعة الخاصة [2] .
أما الفرق بين الكتابين في عرض بشرية القرآن فيمكن تلخيصه من كلام
الدكتور البهي فيما يأتي:
1- أن كتاب (المذهب المحمدي) يصف القرآن ويصف صلته بالعرب بقوله:
- فيه (أي القرآن) ما أخذ من الوثنية العربية.
- وفيه ما أخذ من المسيحية العربية.
- وفيه رد على اليهودية العربية [3] .
وواضح مدى تأثره وتقليده لجب حتى في الأمور التي ظاهرها المخالفة.
أما فكرة كتاب (على هامش السيرة) فما هي إلا تقليد لكتاب (على هامش
الكتب القديمة) لجيل لومتير كما ذكر طه حسين في كتاب (الإسلام والغرب) الصادر
عام 1946م في باريس، وقد وصفه بقوله: (وهذا الكتاب من عمل المخيلة
اعتمدت فيه على جوهر بعض الأساطير ثم أعطيت نفسي حرية كبيرة في أن أشرح
الأحداث وأخترع الإطار الذي يتحدث عن قربٍ إلى العقول الحديثة، مع الاحتفاظ
بالطابع القديم) [4] .
وقد ذكر الأستاذ محمود شاكر في حديثه عن سطو طه حسين على كتابه
(المتنبي) أنه (حين قرأت شهادة الدكتور طه حسين على جيلنا المفرغ من ثقافة أمته
في سنة 1935م: توهمت بحسن الظن أنه سوف يبدأ عهداً جديداً في تفكيره وأنه
سيفارق السُّنة التي سنها هو والأساتذة الكبار، أعني: سنة السطو، وسنة
التلخيص) [5] ، (لكن سرعان ما تحقق الشك والريب فيما كتبه الدكتور طه، على الوجه الذي فصلته تفصيلاً صريحاً، وكان ما كان، ورجعت ريمة إلى عادتها القديمة، كما يقال في المثل، بل هي لم تفارق عادتها قط ولا تملك أن تفارقها ضربة لازب) [6] .
أما كتاب (في الشعر الجاهلي) فقد تمثل فيه عدة أهداف:
الأول: محاولة تأكيد نظرية مسمومة ملخصها: أن الشعر الجاهلي موضوعٌ
جله - إن لم يكن كله - بعد الإسلام [7] .
الثاني: نفي كون الأدب العربي مرتبطاً بالفكر الإسلامي لا ينفصل عنه،
ويلتزم بقيمه الأخلاقية ومفاهيمه العقائدية [8] .
الثالث: الدعوة إلى تخلي الأديب عن العاطفة الدينية والقومية، ودراسة
الأدب كما يُدرس العلم الطبيعي [9] .
الرابع: محاولة الادعاء بأنه اعتمد على نظرية الشك التي أذاعها
ديكارت [10] .
والنظرية في مجموعها مسروقة سرقة كاملة من المستشرق اليهودي
مارجليوث، نشرها في المجلة الملكية الآسيوية (الإنجليزية) عدد يوليو
عام 1925م، وهو بحث في 22 صفحة بعنوان: (نشأة الشعر العربي) .
وكان موقف مارجليوث هو موقف الاشتباه والشك والترجيح، أما موقف طه
حسين فهو موقف الحسم بأن هذا الشعر وُضِعَ بعد الإسلام [11] ولهذا سمَّى
بعضُهم [12] كتابه: (الشعر الجاهلي) الحاشية الصغرى على مقالة مارجليوث، وكتابه: (في الأدب الجاهلي) الحاشيةَ الكبرى على تلك المقالة.
وإذا كانت آراء طه حسين - كما رأينا - تقليداً ومسخاً لأفكار بعض
المستشرقين وغيرهم، فيمكن أن نجيب عن قوله: (تأثري بالمستشرقين شديد جداً؛ ولكن لا بآرائهم؛ بل بمناهجهم في البحث) [13] نجيب (بأن عبارة: تأثره
بالمستشرقين شديد جداً صحيحة من كل وجه، أما استدراكه بأنه لم يتأثر بآرائهم
فليست صحيحة؛ لأنه ثبت بالبرهان الواقعي تطابق وجهات النظر في كثير من
الآراء التي لا يمكن أن تكون من باب وقع الحافر على الحافر.
الانتماء عند طه حسين:
عبَّر الدكتور السيد أحمد فرج عن ظاهرة طه حسين وأمثاله في الفكر
الإسلامي العام (بغسيل المخ) [14] ، وذلك أنهم أُشرِبوا حُبَّ الثقافة الغربية،
وتعاظمت صورتها عندهم حتى لم يعد لثقافتهم العربية والإسلامية أدنى درجات
الاعتزاز والافتخار، وظهرت في كتابات طه حسين الفكرة الصليبية القائلة: إن
زمام الأمر بيد حضارتها، والغربي وحده هو الذكي المتفوق، أما العرب فهم
قطعان بربرية مفتقرة للذكاء، والعربي المسلم محكوم عليه بعدم الاقتدار على
التغيير لكون ذلك صفة كامنة فيه [15] .
وتولد عن هذه الفكرة (عقيدة سخيفة فاشية في الشرق، وهي أن الأوروبي لا
يخطئ أبداً) [16] ولهذا (كان عنده قناعة كاملة للاستجابة لمنطق الأوروبة بطريق
ترك الماضي الإسلامي كله، والذوبان في الثقافة الأجنبية والفكر السياسي
الأوروبي) [17] .
وولاؤه العظيم للغرب جعله يوظف القضايا التاريخية المتصلة بالأمة الإسلامية
لحضارة الغرب البائدة؛ فالدولة الإسلامية ورثت سياسة اليونان والفرس
وحضارتهم [18] .
و (لقد كانت لفلسفة أرسطاطاليس الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي
الإسلامي) [19] .
و (المسلمون أخذوا بأسباب الحضارة الفارسية واليونانية) [20] .
و (وظيفة المحتسب في الإسلام تشبه ما كان شائعاً عند اليونان ومعروفاً من
أمر تأديب العامة، ومراقبة أعمالهم) [21] .
ونتائج العقل الإسلامي كلها (تنحلُّ إلى آثار أدبية وفلسفية وفنية متصلة
بحضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن) [22] .
ولو حاولنا استنطاق التاريخ عن بداية الحملة التغريبية على الأمة الإسلامية،
لجاءتنا الإجابة بارتباط حملة التغريب مع الاحتلال الإنجليزي لمصر؛ فقد أعد
الإنجليز أبواقاً لهم تنطق بالعربية؛ فكان نصارى العرب - وبخاصة الشام - أشهر
من شارك في تنفيذ هذا المخطط، وكانت مصر معدة أكثر من غيرها من الدول
العربية والإسلامية لقيادة خطط التغريب؛ ففي أوائل القرن العشرين كانت سمة
التفكير العام هي اتباع الأوروبيين في كل شيء [23] .
وقد ساعد على نجاح هذه الخطة انبهار المهزومين المغلوبين بالغالب القوي،
فهبُّوا يقلدون الغرب، وينادون بترك موروث العرب المسلمين.
ولخص الدكتور محمد محمد حسين برامج التغريب في قاعدتين ساسيتين:
الأولى: هي اتخاذ الأولياء والأصدقاء من المسلمين وتمكينهم من السلطة
واستبعاد الذين يعارضون مشاريعهم ووضع العراقيل في طريقهم وصد الناس عنهم
بمختلف الطرق، والقاعدة الأخرى: هي التسلط على برامج التعليم وأجهزة الإعلام
والثقافة عن طريق من نصبوهم من الأولياء، وتوجيه هذه البرامج لتطوير الإسلام، وإيجاد تفسير جديد له يخدم أهدافهم ويدعم صداقتهم) [24] .
والغريب أن طه حسين لا يداهن ولا يجامل في مسألة الدعوة إلى تقليد الغرب
والسير على خطاهم، وأخذ ما عندهم من خير وشر دون تمييز؛ فهو يقول تحت
عنوان: (وجوب الصراحة في الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية) : (وهي واحدة
فذة ليس لها تعدد وهي: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها حلوها ومرها، ما يحب منها
وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب) [25] .
وفي كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) أصر كل الإصرار على أن مستقبل
الثقافة في مصر مرتبط بماضيها البعيد، ويدعي أن ماضيها مرتبط بالحضارة
اليونانية الأولى، وأن العقل المصري اتصل بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى
اتصال، تعاون وتوافق، وأنه: (إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض ... المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط) [26] ، وأن مصر أمة غربية وليست أمة شرقية، وأنها كانت غربية منذ عهد الفراعنة حتى اليوم، ولم تكن يوماً ما شرقية، ولم تطق أن تكون ... يوماً ما شرقية [27] .
وهو يعني بالغرب أوروبا، ويعني بالشرق الهند والصين واليابان، ويتجنب
أن يذكر غيرها من الأمم إلا تلميحاً.
وقد كان طه حسين معجباً بفرنسا إعجاباً صوَّره بنفسه، ولو قاله غيره عنه
لما صُدِّق، فهو يقول: (كل شيء في فرنسا يعجبني، ويرضيني: خير فرنسا
وشرها، حلو فرنسا ومرها، نعيم فرنسا وبؤسها، كل ذلك يروقني ويلذني،
وتطمئن إليه نفسي اطمئناناً غريباً. إني لأحس نفسي تسبق القطار إلى باريس على
سرعة القطار) [28] .
وهذا الولاء والمحبة لفرنسا جعل من (الفكر الفرنسي بالنسبة لطه حسين أكثر
من مدرسة أو من مَعين، لقد كان جزءاً من حياته، وجزءاً من إنتاجه، حتى تكاد
تحسب من خلال قراءة ما كتبه عن فرنسا، وعن أرجاء فرنسا، وعن تاريخ فرنسا، ما يقنعك بأن هذا الأثر لا ينتجه إلا من كان فرنسياً فكراً وثقافة وإحساساً؛ فعلاقته
بالفكر الفرنسي ليست علاقة أخذ فقط) [29] .
ورافق هذه المحبة للغرب ولفرنسا بخاصة تبعية سياسية ودفاع عن الاستعمار؛ فبعد أن أوقعت فرنسا عدوانها على سوريا ولبنان، ويوم عقدت الجامعة العربية
دورتها الطارئة لمواجهة هذا الحدث أوائل عام 1945م، ووفدت وفود البلدان
العربية إلى مصر ومن بينها وفدان يمثلان سوريا ولبنان؛ وإذا الدكتور طه يقول
في مقال له: (إن تصرف المستر تشرشل مع الجنرال ديجول لم يكن ملائماً للتقاليد
الدبلوماسية؛ لأنه أعلن رسالته إلى الجنرال في لندن قبل أن تصل إلى الجنرال في
باريس، وأن هذا التصرف قد عقَّد الأمر بين الفرنسيين والبريطانيين) [30] .
ويعلق خليل تقي الدين على مقال الدكتور طه هذا بقوله: (إذن فلعينيك أيتها التقاليد
الدبلوماسية، وفي سبيلك يجب أن تُضرب دمشق إكراماً لعيون اللباقة والسياسة،
ولا بأس من تهديم بضع مئات من المنازل، وتقتيل بضع مئات من
الأبرياء ... ) [31] .
ولم ينس الغرب - والفرنسيون منهم بخاصة - هذا الولاء من طه حسين لهم، فأجزلوا له المكافأة، فكانت خطة توليه منصب مراقب الثقافة في وزارة المعارف
في مصر 1939م، ثم توليه المستشار الفني للوزارة 1942م، وأصبح بعد ذلك
وزيراً للمعارف 1950م [32] .
ومن محاولات تكريمه لقيامه بالدور الذي صنع لأجله، منحه الدكتوراه
الفخرية من جامعة ليون عام 1938م، وإعطاؤه نيشان اللجيون دونور من درجة
أوفيسيه، ثم توالت عليه الدكتوراهات الفخرية، فجاءته من جامعة مونبيليه ... 1946 م، وجامعة روما 1951م، وجامعة أوكسفورد 1950م وجامعة باريس 1950 [33] ، وقرر د. ريمون فرنسيس في مقال له بعنوان: (طه حسين والأدب الفرنسي) قرر أن طه حسين خادم الفكتر المخلص العبقري ... العظيم [34] .
وبإزاء هذا نجد أن اليهود قد لقوا عند طه حسين كل تقدير، فكتاب: (في
الشعر الجاهلي) ليس بحثاً علمياً كما يزعم طه حسين ولكنه كان يخدم زعماً عبرانياً
بعثه اليهود؛ إذ يزعم العبرانيون أنهم وحدهم ذرية إبراهيم، ولهذا نفى وجود
إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وقيامهما ببناء الكعبة، وعليه فليس لدين
إبراهيم - عليه السلام - نفوذ في العرب قبل الإسلام، فهم مدينون لليهود في
حظهم من الحضارة [35] .
بل إن الدكتور عبد الحميد سعيد أشار في مارس عام 1932م إلى أن طه
حسين كان يكلف بعض تلاميذه بأن ينقدوا بعض آيات القرآن الكريم يعيِّنها لهم،
ويطلب منهم إثبات هذا النقد في كراسات يتلونها عليه، وأنه - أي الدكتور عبد
الحميد - وجد في كراسة لأحد تلاميذه قولاً عزاه لطه حسين وهو: إشارته إلى أن
صلة النبي صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة قد أدخلت على عبارات القرآن
الكريم بعد الهجرة إلى المدينة ليونة ورِقَّة) [36] .
وأقام طه حسين محاضرات عديدة بعد عام 1935م تؤكد أن لليهود دوراً في
الحياة العربية، وفي تقديمه لأطروحة (إسرائيل) لولفنسون اليهودي، التي هي
بعنوان: (تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام) يقول طه:
(ليس من شك أن هذه المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيراً قوياً في الحياة العقلية
والأدبية للجاهليين من أهل الحجاز) [37] .
وقد لقي طه حسين من اليهود ما لقيه من الفرنسيين، فقوبلت محاضراته
وكتاباته بشيء غير قليل من الإطراء والإعلان؛ فقد علَّقت مجلة الشمس اليهودية
الصادرة في (7 يناير 1944م) على محاضرة ألقاها طه حسين في دار المدارس
الإسرائيلية بالإسكندرية؛ حيث تقول: (كانت محاضرة الدكتور طه عن اليهود
والأدب العربي آية على يقظة الشرق وعنايته بتراثه، ومظهراً عملياً من تعاطف
وتساند بين أبناء العروبة، وقد جاءت في الوقت المناسب تذكِّر بما كان لليهود في
العصور الخوالي من أيام بيضاء، وفضل عظيم في نشر النور والعرفان، وكانوا
الواسطة إلى نقل الثقافة اليونانية إلى الشرق كما نقلوا ثقافة العرب إلى
أوروبا) [38] .
وجعل اليهود في مصر طه حسين أحد المقربين لهم، فأوكلوا له رئاسة تحرير
(الكاتب المصري) التي صدرت في مصر سنة 1945م وكانت تُموَّل من قِبَلِ أسرة
هراري اليهودية، وشاركه كتَّاب يمالئون اليهود كتوفيق الحكيم، ولويس عوض،
وسهير القلماوي، وحسين فوزي [39] .
وفي مقابل هذا الولاء للغرب واليهود، وهذه المحبة الجياشة للفرنسيين
والحضارة الأوروبية، نجد الجفاء لكل ما يتصل بماضي الأمة العربية والإسلامية
وحاضرها، ونجد الحط من شأن العرب وثقافتهم؛ فطه حسين يطلب ممن يقرأ له
أن ينسى عروبته وإسلامه بذريعة البحث العلمي المجرد؛ حيث يقول: (يجب حين
نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخِّصاتها، وأن
ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية، وما يضاد هذا
الدين ... يجب ألا نتقيد بشيء، ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي
الصحيح) [40] .
ويطلب عزل الإسلام عن الحياة؛ لأن الأديان لا تضع أسساً للأخلاق
والأحكام مع بزوغ عصر النهضة الحديث؛ فالدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط
باعتباره جزءاً من التاريخ القومي، لا ديناً إلهياً منزلاً بين الشرائع للبشر؛
فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة أساساً للأخلاق والأحكام؛ ولذلك
لا يجوز أن يبقى الإسلام في صحيح الحياة السياسية، أو أن يتخذ منطلقاً لتجديد
الأمة؛ فالأمة تتجدد بمعزل عن الدين) [41] .
وهذه هي العلمانية التي تفصل الحياة عن الدين، وهذا أثر من الآثار التي
تركتها الثقافة الفرنسية في نفسه، وجعل يطبقها على الدين الإسلامي فيقول: (ومن
الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشراً بالإسلام أو هادماً للإلحاد،
وأنا لا أريد أن أبشر ولا أريد أن أناقش الملحدين) [42] ، ويقول أيضاً: (الأدب
في حاجة إذن إلى هذه الحرية، هو في حاجة إلى ألا يعتبر علماً دينياً ولا وسيلة
دينية، وهو في حاجة إلى أن يتحرر من هذا التقديس) [43] .
وازدراؤه لكل ما يمت للإسلام بصلة جعله يسلِّط مِعْوَل الشك على تاريخ الأمة
من غير تحقيق أو تمحيص، وإنما اتباعاً للهوى، وتقليداً للمستشرقين وأذنابهم؛
فهو يشك في كل ما روي من أحداث عصر الشيخين: الصدِّيق والفاروق - رضي
الله عنهما -[44] ، ويتهم الرواة الذين عن طريقهم وصلتنا السنة النبوية ووصلتنا
السيرة والتاريخ الإسلامي بأنهم: (يتكثَّرون في بعض الحديث، ويختلفون فيما
يتكثرون فيه باختلاف نزعاتهم السياسية) [45] .
وهكذا تجد جُلَّ بل كل ما كتبه رفعاً لشأن الأوروبي، وحطاً من شأن العربي
المسلم، لماذا؟ لأن المحبة القلبية لهؤلاء غلبت، فطغت، فأخرجت غثاءاً بَلْهَ
صديداً. يقول مصطفى صادق الرافعي - وقد صدق -: (فإنه - أي طه حسين -
لا يكتب ولا يفكر إلا لغرض واحد يبتغي له وسائله وأسبابه بكل ما استطاع وهو
توهين أمر الإسلام وصدْعه من مفاصله، وتفكيك العقد المحكمة التي يتماسك بها في
تاريخه، وناهيك به دائباً يجمع من هنا وهناك من أثينا إلى مكة ... !) [46] .