البيان الأدبي
سليمان بن عبد العزيز الربعي
أزري الروائي المغربي محمد شكري في مقابلة أجرتها معه صحيفة الحياة
اللندنية مؤخرا بقرار وقف الجامعة الأمريكية بالقاهرة تدريس روايته (الخبز
الحافي) لسفورها الأخلاقي، ذاهبا إلى أن ذلك يندرج في إطار محاربة الإبداع الذي لا سبيل له في نظره إلى توافره على الإمتاع الفني، إلا بالتحرر من الفكرة الأخلاقية.
وإذ ليس غريبا في شيء أن ينهج شكري في روايته تلك كما في غيرها منحى
غرزيا [1] يصل في أحيان كثيرة إلى المستوى البهمي المقزز، ولا أن يلازم بين
الإبداع والفوضوية بمعناها المتحرر من كل قيد ويجعلهما في قرن واحد في المقابلة
آنفة الذكر؛ لأن الرجل ينطلق كما يبدو من عقيدة تتكئ على رؤية (أبيقورية)
مندفعة تحيل إلى الشهوة اطرادا مرجعية تفسير الظاهرة الكونية والإنسانية بعموم؛
بحيث تشكلت الرؤى الفكرية آثارا تابعة لها، أعني تلك التي نراها طافحة في
إنتاجه الروائي من النزعة العدمية الشمولية، والسخرية الغلية بالقدر، والتطرف
في العقوق الأبوي منه بوجه خاص، والجفاء الاجتماعي المتلون بالأنوية [2]
المسيطرة، والهزيمة النفسية المتشعبة في مواقفه الوطنية والمحلية، والتردد
الإسقاطي بين العقل الفاعل والباطن خشية المواجهة، والتماهي [3] الاحتفالي
بالواقع المنحط هروبا من حالات اليقظة النادرة، والغاشية المادية التي تحيل موقفه
من الآخر إلى عدوانية فعلية أو فكرية اشتركية، والتفكك السيكولوجي إذ يزمن في
دواخله [4] الفارغة من قيم الروح، وغير ذلك من الخصائص التي انطلقت من
موقف خلقي غالبا، فإنما المدهش حقا والغريب موضوعا أن يحاول فرض تجربته
الخلقية والاجتماعية تلك على مؤسسات التعليم في البلاد العربية، احتجاجا بالحرية
الفكرية وإطلاق ملكات الإبداع.
مدهش ذلك في ظل معرفتنا بخميرة (الخبر الحافي) المتعلقة بدءا، وإدراكنا
لحجم ضرر المبادئ الذي ينوف ثانيا على الخطر الصحي الجسدي حال استمرار
الدعاية الكاذبة لها، وإدراكنا لحجم ضرر المبادئ الذي ينوف ثانيا على الخطر
الصحي الجسدي حال استمرار الدعاية الكاذبة لها، ولكنه الإرهاب الفكري يتوسل
به خبازها هو وغيره إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، معتمدين على بعض
أحدث صوره من إثارة الاستقطاب الشعبي شعوريا، والإجلاب الصاخب لتوريج
مكرهم الكبار، والتصنيف المجاني للمخالفين والإستعداد عليهم، خاضعة في تأويلها
إلى مقامات الأحوال وظروف الوقائع، كالتنور، والفكر المبدع، والتحرر النهوض
... إلخ.
ونحن إذا أردنا أن نبحث مع شكري عن الرواية العربية الناجحة حين تنعتق
من الشرط الخلقي، فلسنا نجد تجردا إلاركاما من الانحراف ذاته الذي يزهي
بتجسيد إنتاجه له؛ فعلى سبيل المثال تحمل جل روايات نجيب محفوظ وهي في
موقع الهرمية هم في موقع الهرمية هم الفكرة الوجودية والترويج لها، وإطلاق
العنان للمذهب التشكيكي في الحقيقة العقدية، وتسهم بدرجة فائقة في وزر إزالة
حواجز النقد عن المقدس وحيا وعالم غيب، وتؤكد على إسناد المكنة في الأفعال
إلى الأسباب الطبيعية البحتة، كما صورت المجتمعات الإسلامية خلاعية ماجنة لا
هم لأفرادها إلا إشباع نهمهم الغريزي إلى غير ذلك من مقومات النجاح بحسبهم،
ولكنها بحسب التوصيف الموضوعي لا تمثل سوى معوقات ثقافية تعمل على
تكريس مشكلات الوعي الفردي والجمعي، وتزيد من واقع التخلف في المناحي
العقدية والسلوكية والسياسية والحضارية وغيرها، وهو ما ينسحب مع شديد الأسف
على كثير من النتاج الروائي العربي اليوم.
وفي الجانب الآخر، نجد أن ثمة قيمما إبداعية عالمية كثيرة عرت هذه الشبهة
الحاضرة في جل حوارت (النخب العربية المثقفة) في إلزام ما لا يلزم من الفصام
النكد بين الإبداع والأخلاق، مع كون بعض تلك القمم ينتسب إلى عقائد محرفة
ضالة، وبعضها الآخر إلى حضارات خرافية وثنية؛ إذ حازت على ما هو أدل من
جائزة نوبل مع حصولها عليها، وذلك بالانتشار الجماهيري، لما تحملة من تجارب
إنسانية ثرة لا حضور فيها للمنزع الجنسي، وهي في الوقت عينه منتمية إلى
تراثها، مخلصة لجذورها المعرفية والاجتماعية والدينية التقليدية.
وإذن، فليس هناك ما يدعو شكري إلى الجمع بين الحشف بابتذال القيم في
روايه من وجه، وسوء كيلة بالمطالبة بتضمينها المنهج التعليمي باعتبارها قيمة
فكرية وتجربة مفيدة من وجه آخر، إلامنهج (البراغماتي) الذي سيماه القفز على
المحظور القيمي والتشريعي على السواء. وإن بدرجات متفاوتة تبعا للموقف
والظرف والحاجة، عدم المبالاة بالرفض الفج للقواعد الشرعية الضرورية في الدين
والدنيا، بل وإعلان العصيان المعنوي والفكري على الأسس العلمية التي تشترط
لأتتاج مجتمع متحضر ولو على المستوى الإنساني البحت.
ولئن تقولب هذا الجانب عند شكري من خلال جنس الرواية بدافع الموهبة
والإتقان فنيا، فإنه عند عديد من مشاكليه من الكتاب المنتسبين إلى بيئات أخرى
لايمكن أن يأخذ شكلا آخر سواها وإن كانوا أبعد ما يكونون عن امتلاك أدني
أبجدياتها. وبتعبير آخر: فأن الرواية بالنسبة إلى شكري قيمة فنية قادرة على
الإنباء عن قناعاته من خلال آلية إمتاعية، أما عند أولئك فهي منبر بلاغ فحسب؛
بحيث يتجاوز فيها الكاتب العري السلوكي إلى مظاهر الانسلاخ على مستوى القيم
بصورة عامة. أي إنها تتحول بتعبير ثالث من منجز إبداعي منحاز إلى الشكل
محايد في الموضوع، إلى وسيلة إجرائية منحازة التوظيف في كلا المحورين،
وصولا إلى مطلب تكامل الشروط الاحترازية في التعبير عن الأفكار، بعيدا عن
القيود التي تلحق الأجناس الأخرى، عند أولئك.
وإنه ليس مسوغا بحال الاحتجاج بأن الرواية المنتشية بردئ القول والفعل
تمثل رصدا لحقب تأريخية حقيقية ذاتية لا ضير من إعلانه؛ لأن المعيار التشريعي
وهو ذو غاية حضارية وإنسانية أيضا يجب أن يحكم التجربة حينئذ، وذلك بالعمد
إلى طلب الستر بحيث تكون الآثار السلبية لازمة خاصة. وأما المجاهرة بالرذيلة
فهو تعد على قيم المجتمع الإسلامي الثابتة، وعقبة كؤود في وجه مشروعه
الحضاري التنموي، وإنذار بالتحلل المربع الذي لايلوي على شيء، الأمر الذي
قعد لردع مجسديه عقوبات تعزيرية مادية، وأوصافا معنوية تشي بهم وتحيلهم إلى
ركن الخجل ومن ثم الكف عن الغي، لو كانوا يعقلون، نقرأ في بعضها قوله صلى
الل علية وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما
شئت) . [5]