المسلون والعالم
عثمان أمين عيسى
أصبحت روسيا - بعد سقوط الاتحاد السوفييتي - بلداً مثيراً، وغير مفهوم،
وغدت الدولةالروسية جمهورية محيرة، ليس فقط للذين يعيشون خارجها، أو
للأجانب المقيمين فيها؛ بل كذلك لكثير من أهل روسيا أنفسهم.
والأحداث التي جرت في داغستان مؤخراً تدخل في إطار تلك الأوضاع
المضطربة؛ إذ لا يمكن فهم ما يجري هناك وفي الشيشان دون فهم ما يجري في
روسيا؛ فكلامنا عن أوضاع روسيا مفتاح لفهم كثير مما حدث ويمكن أن يحدث في
داغستان وغيرها من الجمهوريات الإسلامية التي كانت خاضعة للاتحاد السوفييتي
السابق.
وقبل الخوض في الأوضاع الروسية من حيث تأثرها بالسياسات الخارجية
للدول العربية يحسن بنا أن نلقي نظرة مختصرة على بلاد الداغستان التي تقطنها
أغلبية مسلمة: ما شأن هذه البلاد؟ وأين أصبحت داغستان بين الأمس واليوم؟
تقع داغستان في شمال القوقاز [1] وتبلغ مساحتها حوالي 50 ألف كم مربع،
وعدد سكانها 2 مليون نسمة، 70% منهم يسكنون المناطق الجبلية القروية، 30%
يسكنون المدن، ويمثل المسلمون نسبة 80% من إجمالي عدد السكان معظهم من
السُّنَّة، وتضم داغستان نحو 30 قومية عرقية أبرزها (الأفار) الذين يمثلون ربع
السكان، ثم (الدارغيون) ويمثلون ربع السكان.
دخل الإسلام بلاد الداغستان في عصر خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - وظل أهلها يتكلمون اللغة العربية حتى ألغاها الروس وأحلوا بدلاً منها اللغة
الروسية.
وتتسم داغستان بأهمية استراتيجية خاصة؛ لأنها المعبر الذي يتم خلاله نقل
الجزء الأساس من نفط قزوين إلى (نوفور سيسك) الروسي على البحر الأسود عبر
الشيشان وروسيا الجنوبية، وهذا هو (الخط الجنوبي) وهناك خط آخر يمر بشمال
داغستان فالشيشان وصولاً إلى (نوفور سيسك) قادماً من كازاخستان، وكانت
تحصل روسيا على عائدات سنوية من هذا النفظ تصل إلى خمسة مليارات دولار؛
أما الآن ومع تعطل الخط من الشيشان فهي تحصل على أقل من مليار دولار،
وربما تفقد روسيا نهائياً الوصول إلى هذا النفط مع التهديد الذي يواجهها بسبب
خطر استقلال الداغستان.
ومن المعروف أن منطقة قزوين هي أهم ثاني منطقة حاوية للنفط في العالم،
توازي في ذلك منطقة الخليج العربي، بل أحياناً يطلق على منطقة قزوين (الخليج
الثاني) ؛ فاحتياطي النفط في قزوين يبلغ 200 مليار برميل، يساوي أربعة آلاف
مليار دولار.
وكما سبق بيانه فإن فهم أوضاع داغستان مربوط بمعرفة ما يجري في روسيا، من تصارع وتناحر على السلطة بين الأحزاب الروسية المختلفة ودور الروس
المسلمين الذين هم من أهم العناصر المؤثرة والتي تحرص مختلف الاتجاهات
السياسية الروسية للاستفادة من إمكاناتها، ويظهر ذلك من خلال أمرين هامين وهما:
أولاً: أن المسلمين يشاركون في سياسة روسيا من خلال مشاركتهم في
الانتخابات بكل مستوياتها، وعدد المسلمين الروس يبلغ خمسة عشر إلى عشرين
مليون نسمة، وهذا يعني أن عددهم يبلغ 12% من عدد سكان روسيا.
ثانياً: أن السياسة الروسية تستخدم المسلمين لتحقيق بعض ما تريده باستغلالها
لأوضاعهم وحاجاتهم ومطالبهم الأساسية.
وقبل الخوض في بيان طريقة تأثير المسلمين بمختلف قومياتهم في الوضع
السياسي الروسي يجدر بنا تسليط بعض الضوء على وضع القيادة الروسية الحالية
ومقاطع التقاء المصالح بينها وبين الغرب واليهود لنخرج بعد ذلك بفهم واضح
لوضع الداغستان ومن قبلها الشيشان ومن بعدها القوقاز كله.
إن من الواضح أن مرض الرئيس الروسي (بوريس يلتسين) وإصابته بنوع
من عدم التوازن العقلي والنفسي جعل الحديث يكثر في السنة الأخيرة عمن سيخلفه؛ فقد بدأ السياسيون فعلاً بالعمل على إعداد خليفة يلتسين في وقت تنامى فيه
التعاطف الشعبي مع الحزب الشيوعي ورئيسه (زجانوف) أملاً في الخروج بروسيا
من الوضع الاقتصادي المتردي، وإنهاء حالة الفساد المالي الذي استشرى خلال
السنتين الماضيتين، والناجم عن سيطرة مجموعات معينة في نظام يلتسين على
الأموال.
وحتى المحيطون بالرئيس الروسي لهم مخططاتهم للإعداد لمرحلة ما بعد
يلتسين الذي لا يريد أن يتخلى عن الرئاسة بشكل يدعو للاستغراب؛ فكيف لرجل
لا يكاد يمكث خارج المستشفى بضعة شهور أن يظل متشبثاً بكرسي الرئاسة على
هذا النحو، بل يمارس صلاحيات شبه مطلقة في التولية والعزل بمسوغات غير
مفهومة لغير المتابع؟
إن هناك أسباباً يمكن رصدها تقف وراء تمسك يلتسين بالسلطة حتى الرمق
الأخير؛ فمن ذلك: مخاوفه من التعرض للمحاكمة - في ظل نظام رئاسي جديد -
على الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها هو ومقربوه، بل لقد تقدم برلمانيون بالفعل
بطلبات لمحاكمته وهو في منصبه لأسباب عديدة من أبرزها مسؤوليته عن أحداث
الشيشان.
ومن جهة أخرى كان يلتسين والمقربون إليه ينظرون بتوجس للتعاطف
الشعبي المتزايد مع الحزب الشيوعي ورئيسه بعد أن حقق هذا الحزب فوزاً متميزاً
على الأحزاب الأخرى في الانتخابات البرلمانية.
وحتى الأمريكان والأوروبيون يقلقهم هذا، ولا يخفون انزعاجهم من احتمال
أن يُنتخب (زجانوف) رئيس الحزب الشيوعي رئيساً لروسيا، مما يعني عودة
الشيوعية بكل مشاكلها المزعجة للغرب؛ فروسيا لا تزال تملك أسلحة ذرية موجهة
للغرب، وسوق الروس الآن معتمد على منتجات الغرب، مقابل مواد خام أو شبه
مصنعة رخيصة تتدفق على الغرب من روسيا يلتسين بأسعار أقل من الأسعار
العالمية.
ومما يزيد في أهمية بقاء يلتسين في السلطة في نظر الغرب أنه ليس هناك
بديل له؛ لما للرئيس الحالي من شهرة وشعبية نسبية يستطيع بها أن يضبط الأمور
في ذلك البلد الكبير.
ولكل هذا تجمعت رغبات الغرب مع رغبات المحيطين بيلتسين لتتحد في
عمل مشترك يهدف إلى تحقيق خطوتين:
الأولى: الإبقاء على يلتسين رئيساً لروسيا والحيلولة دون إسقاطه حتى إيجاد
البديل المناسب.
الثانية: انتقاء شخص مقرب جداً من يلتسين ممن ينتمي إلى اللوبي اليهودي
ليحل محله ضامناً مصالح الغرب واليهود.
لذا فإنهم بدؤوا يخططون لذلك ويستغلون الأحداث؛ بل يصنعونها لتصب في
تحقيق الأمرين المهمين وهما: إبقاء يلتسين حتى يجهز البديل المناسب لذا فقد
استغل حزب الرئيس ومستشاروه حادثة النائب الداغستاني الذي رُفعت عنه
الحصانة في البرلمان الروسي لزعزعة الوضع في مناطق الداغستان تمهيداً لإعلان
حالة الطوارئ وقطع الطريق على معارضي الرئيس.
والقصة - باختصار - هي أنه منذ أكثر من سنة تقدم المدعي العام لروسيا
بطلب إلى مجلس البرلمان الروسي لرفع الحصانة عن النائب الداغستاني (نادر
حشكلايف) تمهيداً لمحاكمته عن مخالفات قانونية، وبالفعل تم التصويت على رفع
الحصانة ولتقديمه للمحاكمة على معاملات وتصرفات له؛ ولكن النائب الداغستاني
هرب إلى داغستان؛ حيث تتمتع عائلته بوضع عشائري قوي داخلها، واعتقد أنه
أصبح في وضع حماية؛ ولكن السلطات الروسية طلبت من السلطات الداغستانية
أن تقبض عليه وتسلمه ليحاكم في روسيا، فاستجابت السلطة الداغستانية، ولما
حاولت القبض عليه وقعت صدامات عشيرة حشكلايف بالسلطات في داغستان،
وهنا تطور الأمر بصورة غير متوقعة وظهر وجه آخر له - هل هو بتدبير أم لا؟
الله أعلم - حيث بدأ النائب (نادرحشكلايف) يهاجم السلطة الداغستانية باسم الإسلام
متهماً إياها بأنها خارجة عن نهج الإسلام! ودعا إلى تطبيق الشريعة في داغستان،
وتحول نادر حشكلايف النائب في البرلمان الروسي إلى داعية للإسلام! وأصبح من
مناصري الحركة الإسلامية الداغستانية بزعامة الشيخ بهاء الدين الذي يقود مجموعة
من الشباب الصادق في وجهته والصالح في منهجه - نحسبهم كذلك والله حسيبهم -
وهم يُلَقَّبون في الأوساط الداغستانية بـ (الوهابيين) وقد حدثت بينهم وبين
الاتجاهات الصوفية المنحرفة والمتعاونة مع السلطة منازعات كثيرة انتهت بتضييق
الخناق على الشيخ بهاء الدين مما أدى إلى هروبه إلى الشيشان.
وبالمناسبة فإننا نذكر هنا أن الشيخ لم يكن موافقاً على ما كان يدور في
الشيشان أثناء الحرب، وكان يرى أن هذه الحرب ليست دينية، ومع ذلك فقد
شارك طلابه دعاةً أول الأمر، ثم أصبحوا مشاركين بالقتال فيها مع الشيشانيين في
حربهم ضد الروس، ووقفوا بجانب القائد الشيشاني شامل باسييف ولم يحاول
الداغستانيون إظهار دورهم في حرب الشيشان، ولكن السلطة الروسية كانت تعلم
بذلك وتتكتم عليه، وكان هذا من أخطاء المجاهدين الداغستانيين؛ إذ إن عدم ظهور
دورهم في الحرب الشيشانية ساهم في نزع الصبغة الدينية عن تلك الحرب،
وجعلها تبدو وكأنها حرب قومية خالصة.
والشاهد هنا أن الشيخ بهاء الدين هرب إلى الشيشان مؤخراً بعد أن أصبح
مطارداً من السلطة الداغستانية هو وأتباعه والمتعاطفون معه، ومنهم حشكلايف،
وظل في الشهور الأخيرة يعد الرجال والسلاح لمواجهة السلطة في داغستان،
واللافت للنظر هنا أن نشاطات الشيخ بهاء الدين في الإعداد للمواجهة كانت تجري
تحت سمع وبصر السلطة الشيشانية والداغستانية، وقد غضوا جميعاً الطرف عن
النشاط الجهادي الداغستاني لأسباب متباينة. أما السلطة الشيشانية فقد رأت في ذلك
فرصة للقضاء على القائد العسكري الشيشاني (شامل باسييف) وهو رجل ذو ميول
إسلامية وله شعبية واسعة بين الشيشانيين؛ لما له من روح دينية صادقة واتجاه
جهادي، وكان له دوره البارز في الحرب الشيشانية، وقد أصبح شوكة في حلق
النظام الرئاسي في الشيشان بزعامة (مسعادوف) الذي يسير في حكم الشيشان على
طريقة ترقيعية تحاول إرضاء المسلمين وإرضاء الروس.
وأما الروس فقد غضوا الطرف عن نشاطات الشيخ بهاء الدين في مرحلة
الإعداد الأخيرة للاستفادة منها أثناء معركة الرئاسة الروسية - كما مر بنا - لتمديد
فترة بقاء يلتسين وجمع الشعب عليه ومنه جانب آخر فقد غضت السلطة الداغستانية
بدورها الطرف عن ذلك بغرض استدراج الشيخ بهاء الدين إلى معركة غير متكافئة
يلقى فيها نهايته؛ فترتاح من نقطة توتر قوية ومؤثرة على أوضاع القوقاز كله.
إذن، فاستدراج الإسلاميين إلى مواجهته في داغستان كان قاسماً مشتركاً بين
أطراف عديدة، لكل منها أهدافه الخاصة. ويأتي الروس في مقدمة هذه الأطراف،
فكيف حاولت روسيا استغلال نشاط الحركة الإسلامية؟ هنا نرجع إلى الخطتين
اللتين أعدهما يلتسين ورفقاؤه لمعركة الرئاسة:
الخطة الأولى: هي افتعال مشكلة قومية لروسيا، وتصويرها على أنها تهدد
وحدة البلاد، وكان الوضع متوتراً في القوقاز ومرشحاً - بعد تفجيره - ليكون
ممثلاً لهذه المشكلة القومية، لكي تستغل في إعلان حالة الطوارئ أو تأجيل
الانتخابات، أو بأي طريقة أخرى لتصوير الحال على أنها ظرف ضروري وعامل
قهري لبقاء يلتسين في الحكم، وفي الوقت نفسه للتخلص من شامل باسييف أو تقليم
أظافره لمصلحة روسيا ورئيس الشيشان، إضافة إلى إيقاف نشاط الإسلاميين ذوي
المنهج الصحيح في الداغستان لصالح الطوائف الصوفية المتعصبة والسلطات
الداغستانية، مع إظهار هؤلاء الإسلاميين بصورة المنتمين إلى دين عدواني دموي
لا يعرف الرحمة والتسامح!
وللوصول إلى نجاح هذه الخطة حدث ما يلي:
1 - ركز الإعلام الداخلي في روسيا، وتبعاً له الإعلام العالمي على إظهار
القائمين بالجهاد على أنهم متمردون شيشانيون من فصائل شامل باسييف، وأن دَوْرَ
الداغستانيين جزئي محدود، وركز الإعلام كذلك على أن من بين (المتمردين) عرباً
وطاجيك وأفغان، إضافة إلى مجموعات أسامة بن لادن، كل ذلك لإبراز ما يحدث
على أنه بمثابة غزو من خارج داغستان وبمساعدة جهات أجنبية تريد التدخل في
الشؤون الداخلية الداغستانية.
2 - التعتيم الكامل من السلطات الشيشانية والداغستانية والروسية على دور
الشيخ بهاء الدين ومجموعته، مع أنهم هم الأساس في هذه المعارك، وأن شامل
باسييف وغيرهم جاؤوا لنصرتهم فقط - وهذه هي الحقيقة - وللأسف فقد ساهم
الشيخ بهاء الدين في تجسيد هذا التصوير الروسي لدور الشيشانيين في الأحداث
بحرصه على إخفاء دوره، وفات على الشيخ أن إظهار المعركة بهذه الصورة
سيفقده مساندة الداغستانيين؛ لأنهم لا يقبلون بفكرة غزو الشيشان لهم حتى ولو كانوا
مسلمين صادقين؛ فالوعي الديني عند غالبية الناس غائب، حتى إنهم لا يفهمون
قضية حق المسلم على المسلم في النصرة، فيفهمونها على أنها غزو خارجي!
وللأسف فقد اتبع الشيخ بهاء الدين تكتيكاً خطأً مرة أخرى بعمله في الظل مرة
ثانية، وكانت نتائج المعارك تنشر من خلال المكتب الإعلامي للمقاتلين الشيشان في
جروزني وباسمهم، ليؤكد العنصر الشيشاني أنه هو العنصر الأساس في هذه
المعارك وليس الداغستانيين، وكان على الشيخ بهاء الدين ومن معه - إذا كانوا
مصرِّين على القيام بتلك المعارك - أن يعلنوا في بداياتها عن هويتهم وأنهم
داغستانيون، ويبينون الأسباب لذلك والأهداف من وراء القتال، ثم يعلنون انضمام
الشيشانيين لمساعدتهم من خلال منظور الأخوة الإسلامية، وبذلك تنتهي قضية
تصوير هذه المعركة على أنها معركة قومية.
ومن نتائج هذا الخطأ أيضاً، ظهور شامل باسييف في صورة من يقحم نفسه
فيما لا يخصه، وهذا يفقده تعاطف الشيشانيين الذين يمكن أن يستحسنوا قضية إقامة
دولة إسلامية في داغستان ولكنهم لن يحاربوا من أجلها.
3 - كانت الطريقة التي عالجت بها روسيا إدارة هذه المعارك في بدايتها هي
الطريقة نفسها التي عالجت بها معارك الشيشان، وذلك بإسناد مهمة المواجهة إلى
وزارة الداخلية الروسية بدلاً من الجيش؛ مع علم الروس أن شامل عنده أسلحة
ثقيلة من الصواريخ والهاونات والمدرعات وغيرها، وأنهم ليسوا مجرد مجموعة
متمردين يحملون رشاشات يسهل القضاء عليهم بقوات الأمن الداخلي.
وكذلك تعمدت السلطات الروسية إرسال أعداد غير كافية في بداية المواجهة
لإظهار المواجهة في بدايتها على أنها محدودة.
4 - ظهر حرص القيادة الروسية على عدم إنهاء المعارك بسرعة من عدم
سماحها باستخدام الجيش الروسي - بعد انتقال قيادة العمليات إليه - للأسلحة
المتطورة التي يمكن أن تنهي القتال بسرعة، ولكن المطلوب كان إبقاء حالة الحرب
قائمة حتى تستخدم ورقة في المعركة الرئاسية.
وهنا يأتي سؤال مهم وهو: إلى متى تستمر هذه الحرب؟ وهل في
استمرارها مصلحة لمسلمي داغستان؟ أم سيجني الروس والنظامان الشيشاني
والداغستاني منها ما يريدون؟
والإجابة والله أعلم: أن هذه المعارك ستستمر في الغالب إلا إذا تيقن يلتسين
ومجموعته أن ورقة الحرب في القوقاز لن تنفع في معركة الرئاسة، أو إذا غاب
يلتسين نفسه - بموت أو غيره - قبل بداية الانتخابات الرئاسية.
وكذلك سيحرص الرئيس الشيشاني مسعادوف والرئيس الداغستاني على
استثمار هذه الحرب لأقصى درجة لمصالحهما الشخصية، وهنا يبرز سؤال آخر
مهم، وهو: هل يمكن أن يستغل الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية هذه
المعارك لمصالح تخصهم؟، والجواب: إن الغرب يريد تفتيت روسيا، ولكنه وإن
كان يرغب في التعجيل بذلك فإنه لا يريد أن يكون ذلك على أيدي الإسلاميين، كما
حدث مع الاتحاد السوفييتي، والغربيون لا يريدون في الوقت نفسه ذهاب يلتسين
الآن دون بروز بديل يضمن مصالحهم، وإلا فإن البديل القوي والجاهز الآن هم
الشيوعيون؛ والغرب وأمريكا لا يريدون للشيوعية أن تعود إلى روسيا، وهذا
سبب إضافي سيجعل موقف الغرب من الحرب منحازاً للطرف الروسي، أو على
الأقل غير مبالٍ بما يحدث في داغستان من أمور تدخل في انتهاكات حقوق الإنسان، والغربيون - إضافة إلى كل هذا - يتخوفون من تحول المسلمين في روسيا إلى
مركز قوة يضاهي أو ينافس اللوبي اليهودي المسيطر هناك سياسياً واقتصادياً؛
ففرصة المسلمين لاحتلال موقع متميز داخل روسيا ليست صغيرة؛ لأن عددهم
داخلها يبلغ أربعة أضعاف عدد اليهود في أمريكا، ونسبتهم في روسيا أكبر من
نسبة اليهود في أمريكا؛ لأن عدد سكان أمريكا يزيد على عدد سكان روسيا بنسبة
50%.
نعود إلى الخطة الثانية والمعدة بصورة متوازنة مع الخطة الأولى وهي أنه
في حال إخفاق حرب القوقاز في تحقيق أهدافها ونتائجها المرجوة لدى الأطراف
المستفيدة منها - وهي بقاء يلتسين أطول فترة ممكنة والتخلص من خصومه
الآخرين أو إضعافهم - فإن هناك خطة بديلة يتضح للمراقب أنها تنتظر التنفيذ،
وتعتمد الخطة البديلة على انتقاء شخص مقرب جداً من يلتسين ممن ينتمون إلى
اللوبي اليهودي، فيسير على منهج يلتسين نفسه. وفي الواقع، فإن تلك الخطة
يمهد لها منذ سنوات، فمنذ عام 1994م عُين أحد الشخصيات من ذوي الميول
اليهودية وهو (لشكوف) عمدة لمدينة موسكو، بمباركة من اللوبي الصهيوني في
الغرب، وقد حقق هذا الشخص إنجازات كثيرة وبارزة في مدينة موسكو جعلته
مشهوراً فيها، إلا أن شهرته لم تتعد العاصمة، وكان ذلك عقبة في سبيل تلميعه
وإبرازه على مستوى روسيا كلها؛ فالصلاحيات الممنوحة له محدودة بحدود المدينة
(موسكو) ، ولم يكن ممكناً إعطاؤه منصباً أكبر في الحكومة حتى لا تنسحب عليه
أخطاؤها، فهو يعد ليُبرَز رجلاً بعيداً عن التورط في أي أخطاء سابقة، ولمزيد من
التقوية لموقع (لشكوف) عندما يأتي دوره يتم بين حين وآخر حرق الرجال الأقوياء
في الحكومة، بتعيينهم في منصب رئاسة الوزراء ثم إقالتهم، ويتم من جهة أخرى
تجسيم وإبراز شخصية لشكوف البديل القوي ليلتسين عندما يرحل، ويجري أيضاً
إظهاره على أنه شخصية مضطهدة من رجالات الحكومة الحالية بما فيهم يلتسين،
مما يضع حوله هالة من التعاطف، مشفوعة بالإعجاب الناشئ عن إصلاحاته في
المدينة الكبرى موسكو، مما يؤهله لإصلاحات أكبر على مستوى روسيا كلها.
وقد بدأ (لشكوف) من الآن في الاستعداد للمرحلة المعد لها، فهو ينفصل عن
حزب الرئيس يلتسين (ييتنا روسيا) ويكوِّن حزباً يسمى (الأم) حتى لا يتحمل
سلبيات الحزب الحاكم، ويحاول في الوقت نفسه جذب شخصيات مرموقة إلى
حزبه من الأحزاب الأخرى.
أما عن علاقة (لشكوف) بما يجري في القوقاز، فيذكر هنا أنه معارض لهذه
الحرب، مع تأكيده على وحدة روسيا وعدم انفصال داغستان أو غيرها عنها، وهو
بذلك يحاول اكتساب مشاعر الشعب، ويسترضي الشيوعيين والقوميين وحتى
الغربيين بانحيازه إلى الموقف الذي يميلون إليه من تلك الحرب.
فهل يتم إخراج (لشكوف) اليهودي الميول من وراء الكواليس إلى واجهة
المسرح السياسي في روسيا؟ وهل يكون لبرزوه دور في تفاعلات حرب القوقاز،
أم سيستمر مسلسل الاستدراج للإسلاميين هناك على يد يلتسين وزمزته؟ !
الله أعلم؛ ولكن الذي يهمنا في هذه الأحداث هو: إلى متى والمسلمون
يُستخدمون أداةً لتحقيق مصالح الآخرين ويُجعلون الطرف الأهون على الجميع
والأقل قيمة؟ ألم يحن الوقت لأن نعرف ما يحاك ضدنا؟ وإلى أي طريق تقاد أمتنا؟ هل نحن بحاجة إلى شواهد أخرى ومآسٍ حتى نعرف موطن أقدامنا؟ إننا -
بصراحة - بحاجة إلى الرجوع إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة
والجهاد لنتلمس منه طريقنا ونعرف عيوبنا ونواقصنا ونسردها كيف لا يكون ذلك
والله - سبحانه وتعالى - يقول: [لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان
يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا] [الأحزاب: 21] .
والدعاة - والقادة على وجه الخصوص - بحاجة إلى إعادة النظر في معرفة
سنن الله الشرعية والكونية والتي جعلها الله أسباباً في النصر والفلاح.
إن الفترة المكية جديرة بأن يُعاد دراستها دراسة متأنية وعميقة لنستلهم منها
المنهج ونحدد معالم الطريق الصحيح الذي سيقود - بعون الله - إلى علو الحق
وأهله وزهوق الباطل وجنده وأوليائه.
إننا على يقين بأن مكر الكفار يدور عليهم، وأن كيدهم سيرتد إليهم.
وصدق قاهر الجبارين حيث يقول: [إنهم يكيدون كيدا. وأكيد كيدا. فمهل
الكافرين أمهلهم رويدا] [الطارق: 15-17] .
اللهم نصرَك لإخواننا المستضعفين في داغستان وما حولها؛ إنك على كل
شيء قدير.