مجله البيان (صفحة 3226)

دراسات إعلامية

العجل الفضي

ماذا تعرف عن: العجل الفضي [*]

محمد بن أحمد إسماعيل

أعدها للنشر:إسلام دعدوشة

إن أمتنا - إلا من عصم الله - تعيش اليوم مع التلفاز وتوابعه في محنةٍ لم

تُكْره عليها؛ بل رغبت فيها، واستشرفت لها، وفتحت ذراعيها وتشبثت بأذيالها؛

لأن بعض المسلمين في حالة رغبة فيما يفسد دينهم ويخرب دنياهم وهم يحسبون

أنهم يحسنون صنعاً.

فما أشبه حال المنجذبين نحو التلفاز، والقابعين باستمرار لمتابعة الأطباق

الفضائية، ما أشبه حال هؤلاء بحال الفَراش الذي يتساقط في النار لجهله واعتقاده

النفع في النار المهلكة. لكن: هل الناس اليوم في غفلة عما يعرض في التلفاز؟

وهل يجهلون ما يبث لهم ليلاً ونهاراً عبر البث المباشر؟ ألم يشاهدوا الآثار التي

طفحت على المجتمعات، وانعكست على شبابنا وفتياتنا؟ ! كلا؛ إنهم على علم،

وربما سمعوا القصص المخجلة، وذاقوا الآثار المدمرة لأجهزة التلفاز؛ لكنهم

مبهورون، أسكرتهم الرغبة، وأعمتهم الشهوة؛ فلم يحركوا ساكناً! ولسوف

نعرض لآثار هذا الكابوس من خلال العناوين الآتية:

الناس على دين التلفزيون:

استولى التلفزيون على زمام التربية والتوجيه حسبما خطط لها وما يبث فيها،

وهجم الفيديو ليهدد الثروات، ويقتل الساعات، ويعرض المحرمات، وأطلت فتنة

البث المباشر لتضييع أوقاتنا، وتعبيدنا لغير ربنا [1] ، واستذلالنا لننضم إلى

القطيع الهائم الذي تردى في هاوية الرذيلة، وغرق في مستنقع الشهوات.

لقد صدرت عشرات الدراسات العلمية الجادة التي تكشف مخاطر التلفاز وآثار

البث المباشر الخطيرة، وحذرت من مسخ هويتنا التي يميعها الغزو الفكري

والثقافي من خلال برامج التلفاز، واللغة المحلية التي يفسدها التلفاز، والذوق

الاجتماعي الذي يشوهه، والروح الاستهلاكية التي يشجعها وقليلة هي الدراسات

التي تتناول مشكلة التلفاز من منظور شرعي، على أساس الحلال والحرام،

والولاء والبراء، والصلاح والفساد.

اعرفْ هذا العدو من نعوته وأسمائه:

نحن لا نعجب أن فُتن بنو إسرائيل (بالعجل الذهبي) وأُشربوا في قلوبهم حبه

كما قال تعالى: [وأشربوا قلوبهم العجل بكفرهم] [البقرة: 93] . لكن نعجب

من مسلمين موحدين حنفاء أشربت قلوبهم حب (العجل الفضي) فقطعوا الساعات

الطوال أمام الشاشة الفضية، عاكفين في محرابه في صمت ومتابعة مستمرة، فلا

يبالون بالصلوات المضيَّعة، وقد شُغِلت عيونهم بمتابعة مشاهد الفسوق والعصيان،

استدبروا قبلة الحنفاء واستقبلوا قبلة العجل الفضي.

أحسب أنه ما دخل بيتاً إلا أذن بخرابه، وإذا اقتناه متدين بدأ العد التنازلي في

التزامه، وإذا اقتناه فاسق مفرط بدأ العد التصاعدي في فسوقه وعصيانه، وبقدر

التصاقه وعكوفه عليه بقدر ما يزيغ عن صراط الله المستقيم، ويذوب في صراط

المغضوب عليهم والضالين. وصدقني أنك لو تأملت أحوال المنتكسين والمتنكبين

الصراط المستقيم، فغالباً ما تجد أن التعلق بالعجل الفضي قاسم مشترك بين أولئك

الناكصين على أعقابهم.

إن التلفزيون وتوابعه قد يكون مدرسة الإجرام [2] ، فمن خلال برامجه التي

تخدم أهدافاً خبيثة محددة صار مدرسة تربي، وأستاذاً غير أمين يدفع بالأجيال إلى

الجريمة والفساد، فيشيع الفاحشة، وينفث روح الجريمة ويقلب القيم رأساً على

عقب، ويدرِّب الصغار على الجريمة والانحراف، وينشئ الأبناء على قبول

الانحراف والتعايش معه، والانخراط في سلك أهله، فيمتصون هذه المفاهيم،

ويستلهمون هذه القيم: يُعَلِّمُهم أن اللصوصية بطولة، والغدر كياسة، والخيانة

فطانة، والعنف هو أقصر الطريق لتحقيق المآرب، وعقوق الآباء تحرر، وبر

الوالدين ذل، وطاعة الزوج رق واستعباد، والنشوز حق، والعفة كبت، والدياثة

فن راقٍ رفيع!

لقد اهتم أستاذ الإجرام بأساليب نشر الفساد، وكشف للشباب الساذج والفتيات

البريئات عن طرق الاتصال بين أهل الأهواء، ولقنهن طرق التحايل على الأهل

وخداعهم، وعرض لهم الفواحش بطريقة تحريضية مثيرة.

وقد توصلت الدراسات التحليلية إلى (أن التلفاز بما يعرضه من أفلام ومناظر

إجرامية أو انحلالية [3] قد يؤدي إلى انحراف كثير من النشء عن طريق ما تخلفه

من خيالات يعيشها. كما تبين من مجموعة ذكور منحرفين قد تناولتهم تلك الدراسة

أن أحد الأفلام أثارت فيهم الرغبة في حمل السلاح، وعلمتهم كيفية ارتكاب

السرقات وتضليل البوليس، وشجعتهم على المخاطرة بارتكاب الجرائم) .

حتى الفتاة لم تسلم من وسوسته وتأثيره الذي أفسد فطرتها، وشوَّه هويتها،

فشاع التحرر من القيود الأخلاقية، وظهر التمرد على الأسرة. وأما تأثيره على

النشء باغتيال براءتهم ووداعتهم، وإفساد فطرتهم فحدِّث ولا حرج! كيف لا؟ وقد

صار موجهاً في عصر يعيش فيه الأطفال يُتماً تربوياً هو المربي والقائد! فشاع

الاستخفاف بكل القيم، والسخرية بالمثل الروحية، وأشبع الأطفال بالروح

الإجرامية والميول العدوانية.

ففي ولاية (ميامي) هاجم اثنان من الفتيان الصغار امرأة فضرباها على رأسها

بمؤخرة المسدس، وما إن أغمي عليها حتى قاما بركلها بأرجلهما تماماً مثلما شاهدا

في الأفلام البوليسية [4] .

وفي (واشنطن) قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه عليه وهو

نائم، ثم أشعل الثقاب ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه، وكان

عمر هذا الصغير ست سنوات [5] ! !

ملوّث البيئة الأخلاقية:

إن أثر التلفزيون وتوابعه يكاد يكون من أخطر أنواع التلوث الأخلاقي،

وأعمقها في نفوس البشر خصوصاً الشباب والأطفال. يقول (يوري ديو زيكوف)

أخصائي الاجتماع: (إدمان مشاهدة التلفاز وباء سيكولوجي جديد يعم كوكبنا؛ إنه

إذ يسلِّينا يلوث طبيعتنا السيكولوجية والحِسِّية) [6] .

مخرّب البيوت:

إن التلفاز له دوره في تحطيم الاستقرار الأسري، والتفريق بين المرء

وزوجه؛ فمن وسائله ووسائل توأمه الفيديو في تنغيص الحياة الزوجية ما يلي:

1 - يدفع الزوجات إلى المقارنة بين حياتها ومستواها المعيشي وبين ما تراه

على الشاشة من الكذب والمَشَاهِد، فتنقم على حياتها، وتزدري نعمة الله عليها،

وتجحد فضل زوجها عليها، وتنسى المسكينة أن ما تراه ما هو إلا (تمثيل) . ...

2 - التزوير العاطفي من إبراز الزوجة (التلفزيونية) في غاية الرقة واللطف

في معاملة زوجها التلفزيوني، وإبراز الأخير في صورة العاشق الموله بزوجته،

فتنبعث مشاعر الحسرة والألم من قلب الزوج المشاهد، والزوجة المشاهدة، وينسى

الاثنان أن هؤلاء لا يعرفون حياة (الأسرة) ولا قيمها، وإنما يتقنون فقط ...

تمثيلها [7] !

3 - افتتان المشاهدين والمشاهدات بما يرون من صور؛ حيث قال أحدهم

لمجالسيه وهو يحدق في صورة المذيعة: (بالله عليكم أهذي امرأة، وأم فلان -

يعني زوجته - امرأة؟) [8] .

4 - إشاعة الأفكار الهدامة المعادية للإسلام من خلال التمثيليات والأفلام التي

يكتبها من لا خلاق لهم، فيسوغون الخيانة، وتبرير الفاحشة، ونفث سموم ما

يسمى بالحرية الشخصية بمفهومها الإباحي، وتحريض المرأة على التمرد على أبيها

وزوجها، والتنفير من أحكام الشريعة المطهرة في قضايا: الحجاب، والطلاق

وتعدد الزوجات، ونحوها.

هاتك الأستار:

الإسلام دين الستر، ندبنا إلى ستر العورات الحسية والمعنوية على المستوى

الفردي والجماعي، وحرم الإسلام إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، قال - تعالى-: [إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا

والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون] [النور: 19] وأحاط الخلوة بين الزوجين

بالسرية والاحتشام والستر، فجاء (هاتك الأسرار) ليمزق الحجب، ويقتحم الأعين

البريئة فيغتال براءتها، ويفسد فطرتها، فيتولى الإلحاح في عرض صور النساء

في أبهى زينة وأكمل فتنة.

وبينما يحرم الإسلام هتك أسرار الزوجية المغيَّبة، إذا بـ (هاتك الأستار)

يحول الغيب شهادة، والخبر معاينة، قال - عليه الصلاة والسلام -: (إن من أشر

الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم

ينشر سرها!) [9] .

إن من أسوأ آثار التلفاز وأضرار توابعه هو خدش الحياء، وتحطيم القيم،

ونشر الرذيلة، وقتل الغيرة على حرمات الله التي هي مادة حياة القلب.

ولا ريب أن توالي هذه المشاهد المسموعة وتكرارها يجعلها مع الوقت شيئاً

عادياً، فيروِّض المشاهِد على غض الطرف عن الفضائل وقبول الخيانة الزوجية،

إلى غير ذلك من الأحوال، ألا ترى أن السذج صاروا يقبلون أن يحتضن رجل

بنتاً شابة؛ لأنه يمثل دور أبيها! فلم يعودوا يستنكرونه. وتعجب أن ترى الزوج

المسلم يجلس مع زوجه وبناته وأبنائه في محراب العجل الفضي وهم يرون ما

يعرضه من مشاهد إباحية، وتسكر أهله تلك المشاهد، ويلذ لزوجته وبناته وأبنائه

هذه المناظر وهو قرير العين، قد استنوق، ثم هو يضحك ملء فيه، وينام ملء

جفنه!

وهكذا تتعود القلوب رؤية مناظر احتساء الخمور والتدخين، وإتيان

الفواحش [10] ، والتبرج والاختلاط، وتألف النفوس هذه الأحوال ويكون ... (التطبيع) مع المعاصي والكبائر والدياثة؟ !

محرقة الحياء:

إن من أخطر مفاسد التلفاز هو القضاء على ذلك الخلق الفطري الأصيل لدى

العذراوات. فجاس الممثلون والفنانات والراقصات خلال تحصيناتنا الأخلاقية

فدمروها تدميراً، وصاروا هم الأساتذة والموجهين و (الأبطال) وكان (إحراق

الحياء) وتبخيره هو أول مقاصد القوم بأبنائنا وفتياتنا.

قال العلاَّمة عبد الله بن حميد: (هل ينتظر من النساء قطرة من الحياء وهن

كل ليلة ينسللن من كل حدب إلى حيث تمثل روايات الغرام المهيجة على شاشة

التلفاز؛ حيث ترى المرأة بعينيها كيف يعمل العاشق مع معشوقته وما يقع بينهما من

الآثام والكلمات الغرامية، وتبادل كلمات التلاقي والشوق المبرح، ترى المرأة هذا

وتسمعه بأذنها، وترى ويرى الرجال الرقص الخليع والمخاصرة وغير ذلك، ولو

أنها لا ترى هذا إلا مرة واحدة في حياتها لكفى في فسادها أبد الدهر، ولكنها تراه

كل ليلة يتكرر على سمعها وبصرها وهي امرأة ضعيفة.. فما قولك في امرأة هذه

حالتها؟ أيبقى شيء من الحياء والعفة؟ فالنفوس مولعة بالتقليد خصوصاً نفوس

النساء) .

وحينما يُدخِل الأب التلفاز إلى بيته، فإنه يكون قد أحضر لأبنائه وبناته

مدرساً خصوصياً مقيماً في البيت، وهو بارع في تلقينهم فنون العشق والغرام،

وأصول الفسق والفجور، فينشأ الفتيان على الاستهانة بالخلق، والفضيلة،

والشرف، والعفة، وصيانة العرض، فيصور هذه القيم على أنها تافهة لا يتمسك

بها إلا السذج والرجعيون [11] فهل آن لهذا الكابوس أن يرحل عن بيوتنا؟ ألا

فليتذكر أولو الألباب [12] ؛ فإنه من يُعْط ِمن نفسه أسباب الفتنة أولاً، لم ينجُ آخراً

وإن كان جاهداً.

آثاره على الصحة:

للتلفاز وتوابعه آثار ضارة على الصحة الجسمية والنفسية للعاكفين أمامه.

أما أضراره على الصحة البدنية فمنها:

1 - الأمراض التي تنشأ عن ركود الدورة الدموية بسبب تقييد حركة الجسم،

وحرمانه من الرياضة والنشاط العضلي.

2 - الترهل والسمنة التي هي بحق (أم الأمراض) والتي تنشأ نتيجة للطعام

التلفزيوني المتميز بالالتهام السريع، والازدراد النهم لكميات كبيرة من المأكولات

والمسليات.

3 - التعود على السهر أمام الشاشة المرتعشة وما يترتب عليه من:

أ - تضييع صلاة الفجر: إما بالتخلف عن الجماعة، أو بقضائها في غير

وقتها، أو بأدائها في جماعة دون خشوع بسبب الإعياء والنعاس.

ب - التقصير في الواجبات الوظيفية: بالحضور إلى العمل متأخراً وفوت

المحاضرات الأولى على الطلاب، أو جلوسهم على الكراسي كالكراسي.

ج - قلب نظام الفطرة: حيث ينام بالنهار، ويسهر ليلاً مما يترتب عليه

تضييع وقت حيوي ثمين قال - تعالى -: [وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار

معاشا] [النبأ: 10، 11] كما يُحرَمون بركة وقت قال فيه النبي صلى الله عليه

وسلم: (بُورك لأمتي في بكورها) [13] .

4 - أظهرت الفحوص الطبية للأطفال المتقدمين للمدارس المغرمين بالجلوس

الطويل أمام التلفاز إصابتهم بانحناء الظهر وضعف البصر [14] .

5 - الأخطار الناجمة عن التعرض للأشعة الصادرة عن الشاشة التلفزيونية،

وفي دراسة تشير أصابع الاتهام إلى دور التلفاز الفعال في إحداث (السرطان)

مرض العصر الذي حار فيه الأطباء [15] .

وقد وجَّهت صحيفة الأهرام للأمهات الحوامل تحذيراً [16] من الجلوس أمام

التلفزيون كي لا يصاب الجنين بإشعاعاته فقالت: (أكدت نتائج بحث علمي مصري

أن تعرض الأم الحامل لمصادر الإشعاع الشديد الموجودة حولنا في كل مكان ينتج

عنه تشوهات في الأجنة قد تتسبب في موت الجنين قبل أو بعد الولادة) [17] .

وينصح الدكتور (محمد منصور) رئيس وحدة بحوث المناعة والطفيليات

بالمركز القومي لتكنولوجيا الإشعاع - ينصح السيدات الحوامل وكذلك الأطفال ... (بعدم الجلوس لفترات طويلة أمام أجهزة التلفزيون الملون الموجودة حالياً في معظم

البيوت المصرية؛ إذ به مصدر للإشعاع القاتل للجنين، كما أنه يؤدي إلى ضعف

الإبصار عند الأطفال إضافة إلى تأثيره على عدسة زجاج النظارة الطبية ومن ثَمَّ

درجة ملاءمتها لقوة العين) ا. هـ.

وأضاف الدكتور (كروب) قبل موته: (إن شركات التلفزيون تكذب وتخدع

الناس عندما تزعم أن هناك حداً أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر.. فالعلم بعد

التجارب العديدة يقول: إن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم على درجات

متفاوتة وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون) .

وأيّد كل من د. هاسل، ود. لامب أقوالَ د. كروب. وطالبت مجلة

(الاقتصاد) التي نقلت هذه المعلومات في نهاية مقترحاتها أن على كل أب وكل أم أن

يتناولوا مطرقة ضخمة، ويحطموا بها كل ما لديهم من أجهزة تلفزيونية [18] .

أليس فيما أكدته تلك الدراسات مدعاة إلى إعادة النظر في تلك العلاقة الحميمة

الآثمة بالتلفاز ووليده الخبيث الفيديو؟

وهل يحسب العاقل الذي يتهاون في حفظ نعمة العافية ويفرط فيها أنه غير

مسؤول عن هذا التفريط؟ ألم يسمع لقول الصادق المصدوق: (لا ضرر ولا

ضرار) وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى

يُسأل عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه فيمَ فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ

أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه؟) [19] .

ثانياً: أخطاره على الصحة النفسية: يظهر أثر التلفاز وخطره على أهم

شريحتين في الأمة:

وهما: الأطفال وهم مستقبل الأمة، والشباب حاضرها وعدَّتها. فماذا يبقى

للأمة إذا تشرَّب أبناؤها القيم الهابطة، والآفات الفكرية، والعاهات النفسية من

المهد إلى اللحد؟ !

- تكاد الدراسات العلمية التي أجريت لدراسة آثار التلفاز على الصحة النفسية

أن تجمع كلها على أنه يدرب مشاهديه على الكسل الذهني، ويشيع فيهم روح

السلبية، ويجعلهم إمَّعات يميلون مع الريح حيث مالت، وأنه ينفث في روعهم روح

(عدم المسؤولية) والاستسلام، والانهزامية، ويصرفهم عن معالي الأمور،

ويشغلهم عن الأهداف السامية، ويزيد رقعة الخواء الفكري في نفوسهم [20] .

- كما أنه يولد الغلظة في المشاعر، والبلادة في الحس، كما تؤثر

المسلسلات البوليسية ومشاهد العنف والقتل على نفسية الأطفال [21] ، كما أنه

يظهر للصغار أن الكبار يحيون حياة حافلة بالصراع والتنافس فيشوه مفاهيمهم

مبكراً.

- التعود على الضجيج والصخب الذي يضر بحاسة السمع فيسبب كثيراً من

حالات الصداع والاضطرابات العصبية والتوتر.

ومن أضراره النفسية: تعلق قلب الشباب المراهقين بمذيعة أو ممثلة أو مغنية

حسناء، وابتلاؤه بمعصية العشق الذي يتلف الدنيا والدين، والأخطار نفسها يخشى

منها على الفتيات اللائي هن أضعف قلوباً وأسرع استجابة لداعية الهوى.

المخدر الكهربي:

لقد كتب الكثيرون محذرين من إدمان المخدرات والسموم البيضاء، وما أقل

الذين انتبهوا لمخاطر إدمان مشاهدة الفيديو والتلفاز، وها هي وسائل الإعلام تنشر

سموم هذا المخدر العجيب، إنه يعتبر أمضى وسائل تخدير الشعوب.

إن المخدر الكهربائي يعتبر - على حد تعبير (جيري ماندر) (ورقة عمل

جاهزة للطغاة والمستبدين) [22] ، يستعبدون بها رعيتهم عن طريق عزل الناس

عن فهم أنفسهم، وعن ماضيهم وتراثهم، وتقليل العلاقات الشخصية بين الناس،

وفصل عقول الناس عن أجسادهم، ثم إحباط التفكير الحر بكل الوسائل.. بل ربما

زرع (المخدر الكهربي) في نفوسهم أن المخدرات والخمر والتدخين هي الوسيلة

المثلى للهروب من المعاناة. فتراهم يُهرعون إلى التدخين أو الخمر أو المخدرات لا

إلى صلاة الاستخارة أو ذكر الله - عز وجل - وقراءة القرآن والدعاء.

فهو يسرق سمعك وبصرك وفؤادك، ويجوب بك المراقص والمسابح،

والحانات والمسارح، ويطوف بك في المسلسلات والأفلام التي تدور حول قطب

واحد هو قيم الحب والغرام، والعشق والهيام وكأن هذه هي المشكلة اليتيمة التي

تمزق من الأمة الأوصال، وتتفتت في سبيلها أكباد الرجال، فضلاً عن ربات

الحجال!

هكذا يجري قتل الإنسان اليوم: بالمهرجانات، بالرقص الخليع، بالأفلام،

باللهو الماجن، وبالضحك الهستيري يميت القلب مصداق قوله - عليه الصلاة

والسلام -: (لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) [23] .

وهكذا يجري مسخ الإنسان وتحويله إلى حيوان مستهلك، أو حيوان قاتل، أو

حيوان كاسر، لا فرق [24] .

ومن عقاقير الهلوسة التي يوفرها (المخدر الكهربي) لمدمنيه عقار (المجنونة

المستديرة) التي في سبيلها تُنفق الأموال، وتشد الرحال، وتهدر الأوقات ويتخاصم

الإخوان، وتحترق الأكباد، وتسكب العبرات، وتتعالى الصيحات من الأحشاء

الملتهبة. إن عقار (الهلوسة الكروية) نقل عقول الأمة إلى أقدامها، وتعاطاه

الرجال والنساء، والشباب والشيبة، والمراهقون والأطفال وفي سبيله خُرِّبت

المساجد، وهُجرت حِلَقُ الذكر واشتعلت النزاعات العائلية، وضُيِّعت الواجبات

الدينية والالتزامات الوظيفية.

فمن المسؤول عن هذا (الخبل الكروي) الذي طغى على عقول أكثر الناس

اليوم؟

إنها - بلا شك - (الشاشة المخدرة) التي تذل الناس بهذا العقار، وتستعبدهم

بهذا الإدمان [25] !

إن أمة هذه حالها تحتاج بالضروة إلى تحليل نفسي، وعلاج قلبي، وتحويل

جذري إلى وجهة أخرى نحو معالي الأمور، إنها بحاجة إلى من ينقذها من هذا

(الإدمان) لتقوم من رقدتها، وتفيق من غفلتها، إنها بحاجة إلى أن تعرف أعداءها

الرابضين خلف الشاشة الذين يُهرِّبون من خلالها هذا العقار الخبيث في غير كتمان

وخفاء، بل في وضوح وجلاء، ليصدوهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وليشغلوهم

بهذا اللهو عن حقوقهم وواجباتهم، ليعيشوا انتصارات وهمية، وهزائم خيالية بعيداً

عن واقع الحياة، بعيداً عن الرسالة التي حملتها خير أمة أخرجت للناس.

يا أحفاد أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي وصلاح الدين إن (البطل) ليس

الذي يتقن اللهو الباطل واللغو الفارغ لتكون راية فريقه العليا، ولكن البطل هو

الذي يعمل بالإسلام، ويغيظ أعداء الله، ويجاهد في سبيل الله لتبقى كلمة الله هي

العليا.

يا أصحاب بدر، والقادسية، وحطين، والقسطنطينية! القدس تستصرخكم،

والأقصى يناديكم، وإخوانكم في العقيدة مشردون في الأرض، وحرمات الله تنتهك، والفقر والجهل والمرض يخيم في أكثر بقاعكم، وأنتم تستغيثون ربكم - بلا حياء- في ساحات اللهو: (يا رب - يا رب) !

هلم نصنع المجد في المساجد، ثم المدارس والجامعات، والمعامل والمصانع

حتى نخرج من وهدة التخلف، ونطهر بلادنا من وحل المعاصي، ومستنقع الفن

العفن.

هيا نمضي إلى الهدف: (إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) .

دوره في التغريب:

تطورت أساليب الغزو الفكري وتنوعت طرائقه؛ ففي دراسة أجراها

اليونسكو تذكر: (إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات

التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية

كرسها الزمن) [26] .

وفي تعليقه على دخول البث المباشر إلى تونس قال الأستاذ فهمي هويدي:

(خرج الاستعمار من شوارع تونس عام 1956م ولكنه رجع إليها عام 1989م لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسِرَّة نومنا. رجع ليقضي على الدين واللغة والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب والترحاب، نتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه، إنه الاستعمار الجديد لا كاستعمار الأرض وإنما استعمار القلوب، إنه الخطر الذي يهدد الأجيال الحاضرة والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء والأمهات) [27] .

إن أهداف البث المباشر الذي يجوس خلال ديار المسلمين نلخصها في النقاط الآتية:

1 - تسميم الآبار الفكرية التي يستقي منها شباب المسلمين، وإضعاف

مناعتهم عن طريق تسويق القيم والسلوكيات الغربية لتذويب انتمائهم الإسلامي.

2 - تجميل الوجه القبيح للحضارة الغربية، وإخفاء حقيقة هذه المجتمعات

التي وإن تقدمت في الحضارة المادية - فإنها انتكست بالإنسان إلى أحط من مستوى

القردة. يقول حمدي قنديل: (المعروف أن القردة هي التي تقلد الإنسان، ولكن

إنسان العالم الثالث قد اختار أن يقلد قردة أوروبا) [28] .

3 - القضاء على الأخلاق الإسلامية كالحياء والطهارة والعفة عن طريق نشر

الخنا والرذيلة وتزيين السلوك البهيمي للغربيين. ومن ثم لا يتعذر عليك جواب

التساؤلات الآتية:

- لماذا تحرص أمريكا وأوربا - وبخاصة فرنسا - على دعم البث المباشر

في بلاد المسلمين؟

- ولماذا يقدمون هذه الخدمة المجانية وينفقون عليها من أموال شعوبهم

الراضية بذلك؟

ففي الوقت الذي يشجع فيه الغرب البث المباشر إلى بلاد المسلمين تتعالى

صرخات مفكريهم وساستهم شفقاً من الغزو الأمريكي مع انتمائهم إلى ملة واحدة

وحضارة مادية واحدة! [28] .

فهل آن الأوان أن يفر المسلمون من دجال العصر، ويطهروا بيوتهم من هذا

الرجس والنجس، ولا يُفْرِطُوا في الثقة بأنفسهم أنهم لن يتأثروا بفتنته؛ فإن البطولة

ليست أن تتعرض للفتن وتثبت؛ ولكن البطولة هي ألا تتعرض للفتن أصلاً.

آثار التلفاز الاجتماعية والنفسية على الأطفال:

إليك أقدم الآثار المرعبة على أطفالنا من جراء هذه الأجهزة الشيطانية:

1 - يحرم الطفل من التجربة الحياتية الفعلية التي تتطور من خلالها قدراته

إذا شغل بمتابعة التلفاز.

2 - (يحرم الطفل ممارسة اللعب الذي يعتبر ضرورياً للنمو الجسمي

والنفسي فضلاً عن حرمانه من المطالعة والحوار مع والديه) [29] .

3 - التلفاز يعطل خيال الطفل لأنه يستسلم للمناظر والأفكار التي تقدم له دون

أن يشارك فيها، فيغيب حسُّه النقدي وقدرته على التفكير [30] .

4 - يستفرغ طاقات الأطفال الهائلة وقدرتهم على الحفظ في حفظ أغاني

الإعلانات وترديد شعاراتها.

5 - يشبع التلفاز في النشء حب المغامرة، كما ينمي المشاغبة والعدوانية

عن طريق محاكاة الممثلين ويزرع في نفوسهم التمرد على الكبار والتحرر من القيود

الأخلاقية [31] .

6 - يقوم التلفاز والفيديو وكذا البث المباشر - نافذة المجون والضياع -

بإثارة الغرائز البهيمية مبكراً عند الأطفال، وإيقاظ الدوافع الجنسية قبل النضوج

الطبيعي [32] مما ينتج أضراراً عقلية ونفسية وجسدية.

7 - يدعو التلفاز وتوابعه النشء إلى الخمر والتدخين والإدمان ويلقنهم فنون

الغزل والعشق.

8 - للتلفاز دور خطير في إفساد اللغة العربية - لغة القرآن الكريم - وتدعيم

العجمة، وإشاعة اللحن.

9 - تغيير أنماط الحياة - الإفراط في السهر، فأفسد الدنيا والدين كما يرسخ

في الأذهان أن الراقصات والفنانات ونجوم الكرة أهم من العلماء والشيوخ والدعاة

والمبتكرين [33] .

ماذا يقول العقلاء والمنصفون؟

إن أي عاقل يتفكر في أضرار هذه الأجهزة ومفاسدها لا يتردد في اتخاذ

القرار الحاسم بوضع حد لآثارها السلبية وعربدتها الشيطانية في البيوت.

فقد ناشد (هيلموت شميت) مستشار ألمانيا الغربية السابق (الآباء والأمهات

أن يغلقوا أجهزة التلفزيون على الأقل يوماً واحداً خلال الأسبوع، وقد رفض رئيس

جمهورية فنزويلا أن يسمح بإدخال التلفزيون الملون إلى بلاده، زاعماً أنه سيكون

دافعاً جديداً لزيادة الروح الاستهلاكية المحقونة) [34] .

ذهب الكاتب الأمريكي (جيري ماندر) في كتابه (أربع مناقشات لإلغاء

التلفزيون) الذي أودعه خلاصة تجربته في حقل الإعلام إلى القول: (ربما لا

نستطيع أن نفعل أي شيء ضد الهندسة الوراثية والقنابل النيوترونية، ولكننا

نستطيع أن نقول (لا) للتلفزيون ونستطيع أن نلقي بأجهزتنا في مقلب الزبالة؛

حيث يجب أن تكون، ولا يستطيع خبراء التلفزيون تغيير ما يمكن أن يخلفه الجهاز

من تأثيرات على مشاهديه، هذه التأثيرات الواقعة على الجسد والعقل لا تنفصل

عن تجربة المشاهدة) [35] .

وأضاف: (إنني لا أتخيل إلا عَالَماً مليئاً بالفائدة عندما أتخيل عَالَماً بدون

تلفزيون، إن ما نفقده سيعوض عنه أكثر بواسطة احتكاك بشري أكبر، وبعث جديد

للبحث والنشاط الذاتي) [36] .

حكى الأستاذ مروان كجك أن صديقاً له زار أستاذه الجامعي في بيته وكان هذا

الأستاذ نصرانياً، فلاحظ الأخ أنه ليس لدى أستاذه تلفزيون فسأله عن سبب ذلك

فأجاب: (أأنا مجنون حتى آتي إلى بيتي بمن يشاركني في تربية أبنائي؟) [37] .

يقول الكاتب محمد عبد الله السمان مشيراً إلى حلقة تلفزيونية استضيف فيها

بعض طلبة مدرسة معروفة للمتفوقين يقول الكاتب: (كان المتوقع أن تكون الحلقة

إلى آخر دقيقة فيها من الحلقات الجادة التي يتلقى منها سائر الطلبة دروساً في

التفوق. وسأل مقدم البرنامج الطلبة واحداً واحداً عن مثله الأعلى في الحياة،

وكانت الإجابات مذهلة؛ فالمثل الأعلى لدى الطلبة المتفوقين هم على الترتيب

ولست أدري أهو ترتيب تصاعدي أم تنازلي؟ : عبد الحليم حافظ، بليغ حمدي،

نزار قباني، محمد عبد الوهاب، أنيس منصور. قلت تعقيباً على هذه الإجابات:

لم أكن أنتظر من هؤلاء المتفوقين أن يقولوا: إن مثلنا الأعلى هو أبو بكر أو عمر

أو علي أو خالد بن الوليد، بل كنت أتوقع أن يقول واحد منهم: إن مثلي الأعلى

هو: أبي) [38] .

ألم يَأْنِ للبيوت المسلمة الواعية المستنيرة أن لا يدخلها تلفزيون بعد اليوم؛

فهذه الأجهزة لا تساهم في تربية مستقيمة صالحة تعيننا على صياغة رجال الغد،

وأمهات المستقبل (إنني أُطمئن الذين يستعدون للتخلي عن تلك القنوات الفضائية

بأنهم لن يخسروا شيئاً ذال بال) [39] بل ستربح أسرهم كثيراً، فليس من العقل أو

الإنصاف بعد كل هذا احتمال هذا الكم الهائل من الضرر في دين المرء ودنياه مقابل

تلك الفوائد التي لا تكاد تذكر أمام هذا الركام المدمر من البرامج السيئة القصد.

فيا قومنا إن هذه الأجهزة ليست عفوية؛ بل هي أجهزة تربوية وتعليمية بالغة

الخطورة، تعمل على نسف الأسس الصحيحة للتربية السليمة، إنها - والله -

معاول هدم وتدمير للتحصينات الأخلاقية.

يا قومنا إن من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولاً لم ينج آخراً وإن كان جاهداً، وهل إن تحكمت في هذا الجهاز أثناء وجودك فهل تضمن أن تنضبط الأمور عند

غيابك حين يكون الجهاز بين يدي أهلك وأولادك؟ !

فعلى المسلم الحقيقي أن يحتاط لدينه، وعرضه، وتربية أسرته وأولاده، ولا

يتأتى ذلك إلا بإبعاد هذا الخطر الداهم، وهذا الكابوس الجاثم على أنفاس البيت

والأسرة.

وأي خطر على العرض والشرف والأخلاق أكبر وأعظم من البرامج والسموم

التي تنفثها هذه الأجهزة لمسخ هويتنا والقضاء على قيمنا [**] .

نحن لا نرفض التقنية، ولكننا نرفض المحتوى الإعلامي الهدام، وإننا لندعو

الله أن يأتي اليوم الذي تستطيع فيه البشرية أن تفيد من هذه المخترعات الفذة

كالفيديو والتلفاز والكمبيوتر، وأن تقف مع البشرية لا مع أعدائها، ولن يتأتى ذلك

إلا حين تصبح المؤسسات الإعلامية في أيد أمينة شديدة الإحساس بما ينفع ويضر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015