دراسات في الشريعة والعقيدة
(2-2)
عبد اللطيف بن محمد الحسن
في الحلقة الأولى أشار الكاتب إلى أهمية القواعد الفقهية، وعلاقة الأحكام
الجزئية بها، ثم شرع يعرض بعضاً منها ممثلاً بما يندرج تحتها من أحكام فقهية.
ويستكمل الكاتب في هذه الحلقة عرض بقية مختاراته من هذه القواعد وبعض ما
ينبثق عنها من أحكام وقواعد فرعية، وقد أخذ على نفسه ابتداءً ألا يعرض إلا
للصحيح الثابت.
- البيان -
قاعدة: (لا عبرة بالظن البَيّن خَطَؤهُ) :
الظن هو: إدراك الاحتمال الراجح الذي ظهر رجحانه على نقيضه بدليل
معتبر. فإذا ازداد قوة حتى أصبح خلافه موهوماً فهو غالب الظن.
معنى القاعدة: البناء على الظن صحيح؛ إذ هو أعلى مرتبة من الشك؛ فهو
أقرب إلى اليقين. والأحكام الشرعية في غالبها مبنية على الظن، لكن قد يظهر
خطأ ذلك الظن، ويتبين أنه خلاف الواقع، وحينئذ فإنه لا يجوز البناء عليه،
لنزوله عن المرتبة المعتبرة، وبذلك ينتقض كل ما بني عليه من أحكام.
وهذه القاعدة فرع من القاعدة الكلية الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك) . ووجه
العلاقة بينهما أن القاعدة الكبرى تفيد أن الإنسان لا بد أن يبني أحكامه على اليقين،
وهو الأمر المجزوم به، أو ما يقوم مقامه شرعاً وهو الظن الصحيح. أما الظن
الخطأ فهو الذي تتحدث عنه هذه القاعدة [1] .
من فروع القاعدة:
- إذا توضأ بماء ظنه طهوراً، فبان أنه نجس بطلت طهارته، ولا عبرة
بظنه: كونه طهوراً.
- إذا صلى يظن الوقت دخل، فظهر خلافه، لم تصح صلاته.
- إذا حج إنسان بولده يظنه بالغاً، والحال خلافه، لم تسقط عنه الفريضة.
- لو صلى يظن نفسه متطهراً، ثم تبين له أنه محدث، فإنه لا عبرة بظنه
الطهارة، ولا تصح صلاته.
- إذا كان صائماً فأكل يظن الشمس قد غربت، ولم تغرب بعد؛ فلا عبرة
بظنه، وعليه القضاء.
- لو وجد في بيته أو مركبه مالاً ظنه له، فاستهلكه، فبان أنه لغيره، لزمه
العوض.
ومن الصور المستثناة من القاعدة:
- لو صلى خلف من يظنه متطهراً، فبان أنه محدث: صحت صلاته.
قاعدة: (الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته) :
هذه القاعدة أيضاً من القواعد المندرجة تحت القاعدة الكبرى: (اليقين لا يزول
بالشك) ، ومعناها: أنه إذا وجد أمراً ما حادثاً، وأمكن أن يكون وقته قريباً أو بعيداً، ولا بيِّنة، فإن القاعدة هي أن وقته المعتبر هو القريب؛ لأنه هو المتيقن، والبعيد
مشكوك فيه.
من فروع القاعدة:
- لو رأى في ثوبه منياً، يعلم أنه من أثر احتلام، ولم يذكر احتلاماً، فإنه
يُرجعه إلى آخر نومة نامها، ويعيد الصلوات التي صلاها بعد تلك النومة.
- لو ضرب إنسان بطن حامل فوضعت جنينها حياً، وبقي زمناً بلا ألم، ثم
مات، فإن موته يُنسب إلى سبب آخر بعد الضرب، بخلاف ما لو وضعته ميتاً،
أو حياً متألماً حتى مات، فإنه يُنسب إلى ضربه لها، فتجب فيه دية كاملة [2] .
قاعدة: (إذا اجتمع أمران من جنس واحد متفقا المقصد دخل أحدهما في الآخر
غالباً) [3] :
من فروع القاعدة:
- إذا حلف عدة أيْمان على أمر واحد دخل بعضها في بعض في الكفارة،
وأجزأته كفارةٌ واحدةٌ، أما إذا حلف على أكثر من شيء فقد اختلف القصد، فيجب
عليه كفارات بعدد الأيْمان. وكذلك إذا حلف على أمر ثم حنث وكفّر عنه، ثم حلف
عليه ثانية، وحنث: وجب عليه كفارة ثانية؛ لأن الكفارة يجب أن تكون بعد
الحلف.
- إذا فعل عدة محظورات في الإحرام من جنس واحد، كأن قص أكثر من
ظفر، فتكفيه فدية واحدة، ولكن إذا اختلف الجنس تعددت الفدية، كما لو قص
ظفراً وشعراً وغطى رأسه عمداً.
- لو كرر آية فيها سجدة، أو آيات فيها سجدات - للتعليم مثلاً كتطبيق
التجويد - كفاه عنها سجدة واحدة.
وقد عبر ابن رجب عن القاعدة بقوله: (إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد، في وقت واحد، متفقتا المقصد، ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء، ولا
عن طريق التبعية للأخرى في الوقت.. تداخلت أفعالهما، واكتفى فيها بفعل
واحد) [4] . وجعلها على ضربين:
أحدهما: أن يحصل له بالفعل الواحد العبادتان جميعاً، ويشترط أن ينويهما
جميعاً. وله صور عدة منها:
- القارن يكفيه لحجه وعمرته سعي واحد، وطواف واحد.
- إذا اغتسل الجنب اغتسالاً نوى به الطهارتين: حصلتا له.
- المرأة إذا حاضت، وكانت جُنُباً كفاها عن حيضها وجنابتها غسل واحد.
الثاني: أن يحصل له إحدى العبادتين بنيتها، وتسقط عنه الأخرى. وله عدة
صور منها:
- إذا دخل المسجد وصلى فريضة أو راتبة، دخلت فيها تحية المسجد.
- إذا طاف الحاج عند خروجه من مكة طوافاً ينوي به الإفاضة والوداع أجزأه.
- لو صلى فريضة أو نافلة بعد الطواف: كفته عن الركعتين - على قول.
- طواف العمرة يجزئ عن طواف القدوم الذي هو سنة.
- إذا اجتمع العيد مع الجمعة في يومها فأيهما قدم في الفعل أولاً سقط به
الثاني [5] .
قاعدة: (التابع تابع) :
وعبر عنها بعض العلماء بقوله: (يثبت تَبَعاً ما لا يثبت استقلالاً) ، ومعنى
القاعدة: أن بعض المسائل يختلف حكمها في حال الانفراد، عن حكمها في حال
التبع لغيرها؛ فلها حكم إذا انفردت، ولها حكم آخر إذا اتبعت غيرها [6] .
ويستدل لهذه القاعدة بالنهي عن بيع حَبَل الحَبَلَة، وهو الحمل في بطن
أمه [7] . ولكن يجوز بيعه مع أمه تبعاً لها، ويجوز أن يكون له أثر في الثمن، فثبت له تبعاً ما لم يثبت له استقلالاً.
ومن أمثلة القاعدة: الصلاة لا تدخلها النيابة، ولكن بالنظر إلى أنها تابع للحج
كما في ركعتي الطواف فإنها تدخلها النيابة بهذا الاعتبار وهو التبع للنيابة في الحج.
ومن أمثلتها: شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز
استقلالاً، ويجوز تبعاً لشد الرحال لزيارة المسجد النبوي، بأن ينويهما معاً كما
صرح به بعض أهل العلم.
ويدخل تحت هذه القاعدة قواعد، منها:
1 - التابع لا يفرد بالحكم، ما لم يصر مقصوداً، كالمفتاح يجوز بيعه دون القفل؛ لكونه صار مقصوداً بذاته، وكذا عجلة السيارة، وسائر قطع التبديل فيها، ونحو ذلك.
2 - التابع يسقط بسقوط المتبوع، كمثل من فاتته صلاة في أيام الجنون - وقلنا بعدم القضاء - فإن س'ننها الرواتب تسقط تبعاً. وكالشروط المشترطة في عقد البيع أو النكاح تسقط ببطلانه.
3 - التابع لا يُقدم على المتبوع، كالمأموم مع إمامه لا يجوز له تقدمه في المكان
أو الأفعال.
4 - يُغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها.
ومن فروعها: سجود التلاوة في الصلاة يجوز على الراحلة تبعاً للصلاة،
واختلف فيه استقلالاً.
ومنها: وقوع الطلاق لا يثبت بشهادة امرأة، ولكنه يقع إذا شهدت المرأة
بالرضاع.
ومنها: ثبوت النسب: يثبت تبعاً لثبوت الولادة على الفراش بشهادة النساء،
مع أن قولهن غير مقبول في النسب.
5 - من مَلَك شيئاً مَلَك ما هو من ضروراته: كمن اشترى سيارة ملك
عجلاتها، وعجلتها الاحتياطية وأدوات الإصلاح الموجودة فيها، ومن اشترى بيتاً
أو استأجره ملك الانتفاع بأبوابه ونوافذه وبقية منافعه.
قاعدة: (ما حرم استعماله حرم اتخاذه، وما حرم أخذه حرم إعطاؤه، وما حرم فعله حرم طلبه) :
هذه القواعد الثلاث متقاربة المعنى، وكلها تفيد سد أبواب الحرام: استعمالاً
واتخاذاً، وأخذاً وإعطاء، وفعلاً وطلباً [8] .
فالشيء الذي حرم الشرع استعماله - كآلات اللهو مثلاً - أو حرم أكله أو
شربه فإنه لا يجوز اتخاذه؛ لئلا يكون اتخاذه وسيلة وذريعة إلى استعماله. وكذلك
الشيء الذي منع الشرع من أخذه والاستفادة منه - كالربا مثلاً - فإنه يمنع من
إعطائه للغير وتقديمه له، سواء كان على سبيل المنحة ابتداءاً، أم على سبيل
المقابلة، لما في ذلك من الدعوة إلى المحرم أو الإعانة والتشجيع عليه، فيكون
المعطي شريك الفاعل، وقد نهى الله - تبارك وتعالى - عن المعاونة على المحرم
أياً كانت صورة ذلك التعاون، فقال - تعالى -: [وتعاونوا على البر والتقوى ولا
تعاونوا على الإثم والعدوان] [المائدة: 2] .
وأيضاً ما حرم الشرع فعله - كالرشوة مثلاً، وشرب الخمر والزنا - فإن
طلب ذلك الفعل محرم أيضاً؛ إذ الحرام لا يجوز فعله، ولا الأمر بفعله.
وهذه القواعد لا إشكال في صحتها لمن عرف عمومات نصوص الشريعة،
ومقاصدها، ومع ذلك فقد ورد من الأدلة ما يؤيدها، ويشهد لها، كحديث: (لعنت
الخمر على عشرة أوجه: بعينها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها،
وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها) [9] ، وحديث: (لعن
الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجمَّلوها فباعوها) [10] ، وحديث لَعْن آكل
الربا وموكله [11] .
أمثلة على القواعد الثلاث تباعاً:
- على القاعدة الأولى: حرم الشارع اتخاذ آلات الملاهي، وأواني الذهب
والفضة، والكلب لغير الصيد أو الحراسة، والخنزير، والفواسق، والخمر،
والحرير، والحلي للرجال، وكل ذلك لئلا يجر الاتخاذ إلى الاستعمال.
- وعلى القاعدة الثانية: حرم أخذ الربا، والرشوة، وأجرة النائحة،
والمطرب، ومهر البغي (الفاجرة) ، وحلوان الكاهن (المنجِّم، ومدعي علم الغيب)
... والصدقة للقوي المكتسب، والعقل يدل على أن الأخذ لا يكون إلا من معطٍ؛
فتحريم الأخذ تحريم للإعطاء.
- وعلى القاعدة الثالثة: يحرم طلب شرب الخمر، والزنا، والقتل وكل ما حرم الله فعله.
وللقاعدة استثناءات [12] :
- منها: جواز إعطاء الرشوة، لمن لا يستطيع أخذ حقه إلا بها، والإثم على
الآخذ.
- منها: جواز الاستقراض بالربا في حالة الاضطرار مع حرمة أخذه على
الآخذ [13] . ...
قاعدة: (الإيثار في القُرَبِ مكروه، وفي غيرها محبوب) :
الإيثار نوعان: إيثار في الحظوظ الدنيوية، كالإيثار بطعام أو شراب أو
لباس أو مركب، فهذا مطلوب محمود، قال - عز وجل -: [ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة] [الحشر: 9] ، وقد يصل إلى الإيثار بالنفس
والحياة، وهو داخل تحت قاعدة: الأمور بمقاصدها.
والنوع الثاني: إيثار في الطاعات والقُرْبَاتِ، وهذا يختلف حكمه باختلاف
حكم الأمر المؤْثَر فيه، فقد يكون حراماً، أو مكروهاً، أو خلاف الأوْلى.
فيكون حراماً إذا أدى إلى ترك واجب، مثل ما إذا آثر غيره بماء الطهارة؛
حيث لا يوجد غيره، أو ساتر العورة، أو آثره بمكان في جماعة، ويترتب عليه
تأخيره للصلاة، أو آثره بمكان يسمع فيه خطبة الجمعة، بحيث تفوته هو.
ويكون مكروهاً إذا أدى إلى ترك سنة، أو فعل مكروه.
ومثال ما أدى إلى ترك سنة: إيثاره لغيره بالصف الأول، أو الأذان، أو
القراءة على الشيخ، أو إيثاره بقلم أو ورق يكتب فيه درساً يفوت، أو مكان يسمع
فيه خطبة العيد، بحيث لا يسمعها هو.
ومثال ما أدى إلى فعل مكروه: أن يؤثره بإناء الشرب؛ بحيث لا يمكنه أن
يشرب هو إلا قائماً - من صنبور الماء مثلاً -.
ويكون خلاف الأَوْلى إذا أدى إلى ارتكاب خلاف الأَوْلى، كمن آثر غيره
بمكانه - الأقرب للإمام - في نفس الصف، أو قدمه على نفسه في القراءة على
الشيخ، وقد يقال في هذه المرتبة والتي قبلها بمشروعية الإيثار أو استحبابه بحسب
ما يترتب عليه من دفع مفسدة، أو تحقيق مصلحة أرجح.
سبب كون الإيثار بالطاعات مكروهاً:
قد تشتبه هذه المسألة بمسألة: (إهداء ثواب الطاعات للأموات) ، وهي محل
خلاف؛ فالحنفية والشافعية قالوا بجواز إهداء ثواب جميع الطاعات قياساً على ما
ورد فيه النص، وجعلوا ما ورد في النص مثالاً يصلح القياس عليه، أما المالكية
والحنابلة فقصروا الأمر على ورود النص من الحج والعمرة والأضحية والصدقة
بخلاف بقية الطاعات - ولعله الراجح والله أعلم -.
والمقصود: أنه إذا كان الإيثار بالثواب - الذي هو غاية العمل - جائزاً،
فلماذا يمنع الإيثار بالقُرَبِ - وهي سبب الثواب -؟ ولماذا لا يمنع الإيثار بالثواب؟
وقد أجاب ابن القيم على هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة هي في الحقيقة أوجه
الفرق بين الصورتين، ويتضح من خلالها سبب كراهة الإيثار بالقُرَب والطاعات،
فقال:
(أحدها: أنَّ حال الحياة حال لا يوثق فيها بسلامة العاقبة؛ لجواز أن يرتد
الحي فيكون قد آثر بالقربة غير أهلها وهذا قد أمن بالموت.
فإن قيل: والمهدَى إليه أيضاً قد لا يكون مات على الإسلام باطناً فلا ينتفع بما
يُهدَى إليه! وهذا سؤال في غاية البطلان؛ فإنَّ الإهداء له من جنس الصلاة عليه،
والاستغفار له والدعاء له، فإن كان أهلاً انتفع به، وإلا انتفع به الدَّاعي وحده.
الجواب الثاني: أن الإيثار بالقرب يدل على قلة الرغبة فيها والتأخر عن
فعلها، ولو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد والتكاسل والتأخر، بخلاف إهداء
ثوابها؛ فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به، أو ينفع به أخاه المسلم،
فبينهما فرق ظاهر.
الجواب الثالث: أن الله - سبحانه وتعالى - يُحبُّ المبادرة والمسارعة إلى
خدمته والتنافس فيها؛ فإنَّ ذلك أبلغ في العبودية؛ فإن الملوك تحب المسارعة
والمنافسة في طاعتها وخدمتها؛ فالإيثار بذلك منافٍ لمقصود العبودية؛ فإنَّ الله -
سبحانه - أمر عبده بهذه القربة إما إيجاباً وإما استجاباً، فإذا آثر بها ترك ما أمره
وولاه غيره، بخلاف ما إذا فعل ما أمره به طاعة وقربة، ثم أرسل ثوابه إلى أخيه
المسلم.
وقد قال - تعالي -: [سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض
السماء والأرض] [الحديد: 21] ، وقال: [فاستبقوا الخيرات] [البقرة: 148] ، ومعلوم أن الإيثار بها ينافي الاستباق والمسارعة.
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يسابق بعضهم بعضاً بالقرب، ولا
يُؤْثِرُ الرجل منهم غيره بها. قال عمر - رضي الله عنه -: والله ما سابقني أبو
بكر - رضي الله عنه - إلى خير إلا سبقني إليه، حتى قال: والله لا أسابقك إلى
خير أبداً.
وقد قال - تعالى -: [وفي ذلك فليتنافس المتنافسون] [المطففين: 26]
يقال: نافست في الشيء إذا رغبتُ فيه على وجه المباراة، ومن هذا قولهم: شيء
نفيس، أي هو أهل أن يُتنافس فيه ويُرغب فيه، وهذا كله ضد الإيثار والرغبة
عنه) [14] .
وقد نقل عن بعض العلماء قوله: لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء
الطهارة، ولا بستر العورة، ولا بالصف الأول؛ لأن الغرض بالعبادات التعظيم
والإجلال لله - سبحانه وتعالى - فمن آثر به غيره فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه،
فيصير بمثابة من أمره سيده بأمر فتركه، وقال لغيره: قم به؛ فإن هذا يُستقبح عند
الناس بتباعده من إجلال الآمر وقربه [15] .
قاعدة: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) :
ومعنى هذا أنه: إذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم،
كالسفر أو المرض علة لجواز الفطر فإذا حصل السفر أو المرض جاز الفطر، وإذا
لم يحصل لم يجز.
وحتى تتم الاستفادة من القاعدة على الوجه الصحيح فإنه لا بد من بيان لمعنى
العلة، وشروطها، والطُرُق التي يتوصل بها إلى معرفتها.
هناك فرق بين العلة والحكمة: فإن الحكمة هي المصلحة التي قصد الشرع
تحقيقها بتشريعه الحكم من جلب مصلحة للخلق أو دفع مفسدة عنهم، كما تقول مثلاً: الحكمة من تشريع القصاص: حفظ الحياة، ومن حِكَم تشريع الحج: شهود
المنافع ... وهكذا.
وأما العلة فيعرفها الأصوليون بأنها: الوصف الظاهر المنضبط الذي بُني
عليه الحكم، ورُبط به وجوداً وعدماً؛ لأنه مظنة تحقيق المصلحة المقصودة من
تشريع الحكم، والغالب هو تحققها، وإن تخلفت فعلى وجه الندرة، والعبرة بالغالب
لا بالنادر.
ثم إن ربط الأحكام بالعلل يؤدي إلى استقامة التكليف وضبط الأحكام واطرادها، واستقرار أوامر التشريع العامة ووضوحها، وهذه فوائد عظام لا يؤثر فيها فوات
الحكمة في بعض الجزئيات والوقائع في بعض الأحيان؛ ذلك لأن الحكمة تكون
أحياناً وصفاً غير منضبط، أي يختلف باختلاف الناس وتقديرهم، ولا يمكن بناء
الحكم عليه؛ لأنه يؤدي إلى الاضطراب والفوضى في الأحكام، وتكثر الادعاءات
للتحلل من الأحكام.
ومثال ذلك: مسألة الفطر في رمضان، ربطها الشارع بالسفر أو المرض؛
لأنه مظنة المشقة، ولم يربطه بالمشقة؛ لأنه أمر يختلف باختلاف الناس وتقديرهم، والغالب في المشقة الحاصلة من غير السفر والمرض أنها محتملة؛ فاتضح أن
ربط الحكمة بالعلة يحقق الحكمة غالباً.
ولهذه العلة شروط عدة:
1 - أن تكون العلة وصفاً ظاهراً، كعلة الإسكار في الخمر؛ فهي أمر ظاهر
مُدْرَكٌ.
2 - أن تكون وصفاً منضبطاً لا تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال كالسفر
والمرض، بخلاف المشقة.
3 - أن تكون وصفاً مناسباً للحكم؛ بحيث يكون ربط الحكم به مظنة تحقق
حكمة الحكم؛ فالسفر في رمضان وصف مناسب للحكْم بإباحة الإفطار؛ لأنه بهذا
الربط يغلب تحقق حكمة الحكْم، أي دفع المشقة.
ومعرفة علة الحكم تكون بالنص الدال عليها، أو بالإجماع، أو بنظر المجتهد
بالسبر والتقسيم، أو بتنقيح المناط.
وتطبيقات هذه القاعدة كثيرة جداً:
فمن أمثلتها: أن التكليف علة لوجوب العبادات - على المكلف - وصحة
العقود في المعاملات، ووجوب الحدود والعقوبات كلها؛ فهذه كلها معلقة بالتكليف
تثبت بوجوده، وتنتفي بعدمه.
ومنها: أن إسكار الخمر علة لتحريمها ونجاستها - عند الجمهور - فإذا زال
إسكارها بتحولها خلاً زال تحريمها.
ومنها: أن حصول الضرورة علة لإباحة المحظور: يباح بتحققها، ويحرم
بانتفائها.
ومنها: أن الإغماء والنوم والجنون أسباب لزوال التكليف وعدم نفوذ
التصرف، فإذا زالت حصل التكليف ونفذ التصرف، وكلما عادت هي أو بعضها
زال التكليف بزوال علته، وهي العقل الذي يزول بهذه الأمور.
وجميع شروط الأحكام داخلة تحت هذا الأصل، فإذا تحققت الشروط - وهي
علة ثبوت الحكم - ثبت الحكم، فإذا زالت أو بعضها زال الحكم [16] .
قاعدة: (إعمال الكلام أوْلى من إهماله) :
تظهر أهمية هذه القاعدة بمعرفة مرتبتها؛ فهي:
أولاً: محل اتفاق بين العلماء.
وثانياً: تتعلق ببعض المسائل الأصولية المتعلقة بالخطابات الشرعية، من
كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وثالثاً: أنها تتعلق بالكلام الصادر عن المكلِّف من حيث كونه يجب صونه
عن الإهمال والإلغاء؛ فهي إذن تتعلق بتصرفات المكلَّف القولية كلها وتصحيحها.
معنى القاعدة:
إعمال الكلام: أي إعطاؤه حكماً مفيداً حسب مقتضاه اللغوي.
وإهماله يعني: عدم ترتب ثمرة عملية عليه بإلغاء مقتضاه ومضمونه، فلا
يترتب عليه حكم.
أصل القاعدة:
يدل لها دليل عقلي صحيح وهو: أن إهمال الكلام يؤدي إلى أن يكون الكلام
لغواً، وكلام الإنسان العاقل يصان عن اللغو ما أمكن ذلك؛ إذ الأصل فيه أن يكون
له معنى يقتضيه اللفظ.
من فروع القاعدة:
- إن أوقف داراً على أولاده، وليس له إلا أولاد أولاد فإنه ينصرف إليهم؛
لئلا يهمل كلامه.
- من حلف ألا يأكل من هذه النخلة شيئاً، ثم أكل من ثمرها أو نحوه مما
يخرج منها، فإنه يحنث؛ لأن النخلة لا يمكن أكل عينها، فحُمل كلامه على ما
يخرج منها.
- وإذا حلف لا يأكل من القدر شيئاً، حمل على ما يطبخ فيه؛ حيث لا يمكن
حمله على عين القدر.
ويتفرع على هذه القاعدة عدة قواعد ترسم كيفية إعمال الكلام الذي أوجبته
القاعدة، وتبين الطرق الراجحة المعقولة فيه.
الأولى: الأصل في الكلام الحقيقة:
المراد بالقاعدة: أن الراجح عند السامع أن يحمل كلام المتكلم على معناه
الحقيقي.
والحقيقة في الاصطلاح هي: اللفظ المستعمل في المعنى الذي وضع له في
أصل اللغة. كلفظ السماء لكل ما علا وارتفع، ولفظ الجنة للبستان كثيف الأشجار،
ولفظ النور للنور المعروف.
والمجاز معناه: اللفظ المستعمل في غير المعنى الأصلي الذي وضع له في
أصل اللغة لقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. كاستعمال لفظ النور للعلم أو
الإسلام، وكاستعمال لفظ الأسد للقوي الشجاع. ويشترط فيه: وجود علاقة بين
المعنى الأصلي، والمعنى المنقول إليه، كما يشترط وجود قرينة تدل على إرادة
المتكلم للمعنى المجازي دون الحقيقي.
فمعنى القاعدة إذن: أن إعمال كلام المتكلم (الشارع، أو المكلف العاقل) إنما
يكون بحمل ألفاظه على معانيها الحقيقية، عند الخلو من القرائن التي ترجح إرادة
المجاز.
ومن أمثلة القاعدة:
- ما لو أوقف شيئاً على أولاده، دخل فيهم الذكور والإناث؛ لأن لفظ الولد
يشملهم حقيقة. وإذا قال شخص لآخر: وهبتك هذا الشيء، لم يحق له المطالبة
بالثمن زعماً أنه أراد البيع؛ لأن الهبة تمليك بلا عوض،
وإرادة البيع بها مجاز.
الثانية: إذا تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز:
فيشترط في الحمل على المعنى المجازي وجود قرينة تمنع من إرادة المعنى
الحقيقي، كاستحالة الحقيقة، أو تعذرها، أو يكون المعنى الحقيقي مهجوراً شرعاً
أو عرفاً. - كما سبق في بعض الأمثلة على القاعدة الأصلية -.
الثالثة: إذا تعذر إعمال الكلام يهمل:
ومن أسباب إهمال الكلام وإلغائه:
1 - تعذر إرادة كل من المعنيين الحقيقي والمجازي جميعاً.
2 - أن يكون اللفظ مشتركاً بين معنيين، ولا يوجد مرجِّح لأحدهما على
الآخر.
3 - تعذر صحة الكلام شرعاً.
4 - أن يكذبه الظاهر، كمن ادعى على رجل أنه قتل شخصاً، فإذا هو حي.
5 - أن يكون فيه مصادمة للشرع، كمن أقر بأن أخته ترث ضعفي حصته
من تركة أبيه.
الرابعة: ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله:
لأنه إذا لم يعتبر كله، أهمل الكلام وصار لاغياً؛ حيث إنه لا يقبل التجزئة.
ومن أمثلتها: إذا طهرت المرأة من حيضها، أو نفاسها ولم يبق من وقت
الصلاة إلا مقدار ما يمكنها من الاغتسال والتحريمة للصلاة فإنه يلزمها صلاة ذلك
الوقت؛ لأن الواجب لا يتبعَّض. وكذلك الكافر إذا أسلم آخر الوقت.
ومنها: إن تنازل الشريك عن جزء من حق الشفعة سقط كله.
ومنها: أن يوجب على نفسه ركعة، فإنه يصلي ركعتين؛ لأن ذلك لا
يتبعض.
ومنها: لو عفا عن جزء من القصاص، سقط كله وانتقل إلى الدية، ولذا فإن
الورثة إذا عفا أحدهم عن حقه من القصاص، انتقل منه إلى الدية، وليس لبقية
الورثة القصاص من القاتل.
الخامسة: المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة:
من فروعها:
- إذا وكَّل شخصاً بشراء سيارة - ولم يقيدها بوصف أو لون - فاشتراها له
حمراء أو زرقاء، فقال: أردت بيضاء، فإنه يلزم بما اشتراه الوكيل؛ لأن كلامه
مطلق، فيجري على إطلاقه.
- إذا أجّر شخصاً، أو أعاره شيئاً، فإنه يسوغ للمستأجر أو المستعير جميع
وجوه الانتفاع، بالحدود المعتادة، فلا يتقيد الانتفاع بها بوقت أو مكان أو استعمال
مما ليس عليه دليل.
وتقييد الكلام يكون بأحد أمرين:
1 - النص: وهو اللفظ الدال على القيد، كأن يقول: بِع بمائة؛ فلا يسوغ
له البيع بأقل مما حدد له.
أو يقول: خذ السيارة - عارية - لتركبها، لكن لا تحمل فيها متاعاً، فينتفع
كما حدد له.
2 - الدلالة: وهي نوعان:
أ - حالية: كما لو وكَّل طالب علم شرعي شخصاً آخر لشراء كتب، فإنه
ينصرف إلى شراء كتب العلم الشرعي، لا الطب ولا الكيمياء كما تنبئ حاله عنه.
ب - عرفية: ومثالها: لو أعاره كتاباً، كان له القراءة فيه والنسخ منه،
وتصويره ما لم يتضرر الكتاب بخلاف الكتابة فيه وعلى هوامشة ... ، كما هو العرف السائد.
السادسة: التأسيس أوْلى من التأكيد:
التأسيس: إفادة معنى جديد. والتأكيد: تقوية معنى سابق.
فإذا احتمل كلامٌ معنيين: أحدهما تأكيد لسابق، والآخر تأسيس لمعنى جديد
كان حمله على التأسيس أوْلى من حمله على التوكيد؛ لأن التأسيس يضيف معنى
جديداً.
ومن أمثلة ذلك:
- من حلف يمينين: ألاَّ يأكل من بيت فلان، فإن نوى بالثاني التأكيد للأول،
فعليه كفارة واحدة، وأما إن نوى يميناً آخر، أو نوى التشديد على نفسه فعليه
كفارتان، وكذا إذا لم ينوِ شيئاً فعليه كفارة يمينين؛ لأن التأسيس أوْلى من التأكيد.
- وكذلك الحكم في الطلاق إذا كرره.
السابعة: الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر:
- هذه القاعدة تجري في سائر عقود المبادلة كالبيع والإجارة والنكاح؛ حيث
يشترط لصحتها معرفة البدلين، وانتفاء الجهالة، وذلك يكون بتمييز الشيء عن
غيره بجنسه ونوعه وصفته، ... فإذا كان هذا الشيء حاضراً فالعبرة لتعريفه
بالإشارة؛ لأن التعريف بها أقوى من التعريف بالوصف، وأما إذا كان هذا الشيء
غائباً، فإن العبرة بذكر أوصافه؛ إذ لا تمكن الإشارة إليه.
من فروعها:
- إذا قال: بعتك هذه السيارة البيضاء - وأشار إلى سيارة سوداء - وقَبِلَ
المشتري، تم البيع؛ لأن وصفها بالبياض لغو، لأجل أنها حاضرة أمامه يراها،
بخلاف ما لو باعه سيارة بيضاء وهي غائبة؛ فإن للمشتري خيار الفسخ.
- إذا قال: زوجتك ابنتي هذه الطويلة، والزوج يعرف أنها قصيرة، وقَبِلَ،
تم النكاح ولا فسخ له، بخلاف ما لو لم يكن يعرف أنها قصيرة.
- إذا قال: أجَّرتك هذه الدار الجديدة بحديقتها - مع أنها لا حديقة لها -
والمشتري يراها ويعرف ذلك، تم التأجير، ولا خيار للمستأجر، بخلاف ما لو
وصف له داراً جديدة وذكر له أن فيها حديقة فإن للمستأجر فسخ العقد إذا تخلف
الوصف.
الثامنة: السؤال معاد في الجواب، أو كالمعاد في الجواب:
فمن سئل: هل لفلان عليك دين؟ فقال: نعم، أو سئل: ألم تسرق كذا؟
فقال: بلى ... فإنه يكون إقراراً منه، كأنه قال: نعم لفلان عليَّ دين، وبلى
سرقت كذا ...
وقد يكون المراد بالسؤال أعم من الاستخبار والاستفهام، فيشمل الإخبار
والإنشاء، كمن قيل له: باع فلان دارك، فقال: رضيت، صح البيع، واعتبر
قوله إذناً، وكما في سائر العقود من الإيجاب والقبول، كما لو قال لآخر: بعتك هذا، فقال قبلت، أو نعم، تم البيع أو قال الولي: زوجتك فلانة، فقال: قبلت، تم
العقد [17] .