مجله البيان (صفحة 3213)

إشراقات قرآنية

وقفات مع قوله - تعالى -: (ألهاكم التكاثر)

د. عبد الرحمن آل عثمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،

وبعد:

الوقفة الأولى [1] :

الإلهاء: الصرف إلى اللهو، من (لها) إذا غفل.

وكل شيء شغلك عن شيء فقد ألهاك.

يُقال: لها بالشيء: أي: اشتغل به، ولها عنه: إذا انصرف عنه.

وهو: صرف الهمِّ بما لا يحسن أن يُصرف به من الإعراض عن الحق،

والاشتغال بالمتع العاجلة عن الدار الباقية، والميل عن الجد إلى الهزل.

وبالجملة: فكل باطل شغل عن الخير وعما يعني فهو لهو.

وبهذا تعلم أن كل ما أشغل المرء عما يعنيه ويهمه فهو لهوٌ؛ وعليه فهو ملازم

للغفلة - وقد فسره بعضهم بها - وإن كان شائعاً في كل شاغل.

وقيده بعضهم بالشاغل الذي يسر المرء، وهو قريب من اللعب.

الوقفة الثانية:

قرن الله بين اللهو واللعب في آيات من كتابه كقوله: [وما الحياة الدنيا إلا

لعب ولهو] [الأنعام: 32] .

وقوله: [وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب] [العنكبوت: 64] .

وقوله: [إنما الحياة الدنيا لعب ولهو] [محمد: 36] .

وقوله: [اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة] [الحديد: 20] .

وقوله: [وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا] [الأنعام: 70] .

وقوله: [الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا]

[الأعراف: 51] .

والعطف يقتضي المغايرة، وقد تعرَّض العلماء لبيان الفرق بين اللهو

واللعب [2] .

فقال بعضهم: اللهو: صرف الهم بما لا يحسن أن يُصرف به.

واللعب: طلب الفرح بما لا يحسن أن يُطلب به.

وقيل: اللهو: الاستمتاع بلذات الدنيا.

واللعب: العبث.

وقيل: اللهو: الميل عن الجد إلى الهزل.

واللعب: ترك ما ينفع بما لا ينفع.

وقيل: اللهو: الإعراض عن الحق.

واللعب: الإقبال على الباطل.

وقال العسكري: (الفرق بين اللهو واللعب: أنه لا لهو إلا لعب، وقد يكون

لعب ليس بلهو؛ لأن اللعب يكون للتأديب ... ولا يقال لذلك لهو، وإنما اللهو لعب

لا يعقب نفعاً، وسُمي لهواً؛ لأنه يشغل عما يعني، من قولهم: ألهاني الشيء، أي: شغلني، ومنه قوله - تعالى -: [ألهاكم التكاثر] [التكاثر: 1] ) اهـ[3] .

ومن تأمل هذه الأقوال تبين له مدى التقارب بين معنى اللهو واللعب، ولعل

من أحسن الفروقات بينهما ما ذكره الحافظ شمس الدين ابن القيم - رحمه الله - من

أن اللهو للقلب، واللعب للجوارح، قال: (ولهذا يجمع بينهما) اهـ[4] .

الوقفة الثالثة [5] :

قوله: ألهاكم أبلغ في الذم مما لو قال: (شغلكم) لعدم التلازم بين اللهو

والاشتغال؛ ذلك أن الإنسان قد يشتغل بالشيء بجوارحه وقلبه غير لاه به. بينما

اللهو ذهول وإعراض.

الوقفة الرابعة [6] :

اللهو عن الشيء: إن كان بقصد فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد -

كقوله صلى الله عليه وسلم في الخميصة: (إنها ألهتني عن صلاتي) [7]- كان

صاحبه معذوراً، وهو نوع من النسيان.

الوقفة الخامسة [8] :

التكاثر: التباهي بالكثرة من المال والجاه والولد وغير ذلك مما سيأتي. فهو

تفاعل من الكثرة.

والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة:

الأول: أن يكون بين اثنين فأكثر، فيكون من باب المُفَاعَلَة.

الثاني: أن يكون من فاعل واحد لكن على سبيل التَكَلُّف، تقول: تحاملت

على كذا، وتباعدت عن كذا، وتعاميت عن الأمر وتغافلت عنه.

الثالث: أن يُراد به مطلق الفعل، كما تقول: تباعدت عن الأمر أي بعدت

عنه.

والتكاثر هنا يحتمل الوجهين الأولين: فيحتمل أن يكون التكاثر بمعنى

المفاعلة؛ لأنه تم من اثنين يقول كل واحد منها لصاحبه: [أنا أكثر منك مالا

وأعز نفرا] [الكهف: 34] ، ويحتمل تكلُّفَ الكثرة وتطلُّبَها؛ فإن الحريص - مثلاً- يتكلف جميع عمره تكثير ماله.

الوقفة السادسة [9] :

لم يعين - سبحانه وتعالى - المُكَاثَر به، بل ترك ذكره؛ إما لأن المذموم هو

نفس التكاثر بالشيء لا المتكاثَر به، كما يقال: شغلك اللعب واللهو. ولم يذكر ما

يلعب ويلهو به.

وإما لإرادة العموم؛ لأن حذف المقتضي يدل عليه كما تقرر في عِلْمَيِ

الأصول والبيان [10] .

ولا يخفى أن العموم والإطلاق أبلغ في الذم؛ لأنه يذهب فيه الوهم كل مذهب؛ فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام مما يتكاثر به المتكاثرون ويفتخر به المفتخرون

من الأموال والأولاد والخدم والجاه والأعوان وغير ذلك مما يُقصد بالمكاثرة، وليس

المقصود منه وجه الله كما سنبين في:

الوقفة السابعة:

يدخل تحت العموم المشار إليه كل ما يتكثَّر به العبد أو يكاثر به غيره سوى

طاعة الله، قال ابن القيم - رحمه الله -: (التكاثر في كل شيء؛ فكل من شغله

وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة فهو داخل في حكم هذه الآية؛

فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال أو بالجاه، ومنهم من يلهيه التكاثر بالعلم، فيجمع

العلم تكاثراً أو تفاخراً، وهذا أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه؛ فإنه

جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر

بأسبابها) [11] .

ومعلوم أن التكاثر والتفاخر إنما يكون بالأمور التي يُتوسل بها إلى تحقيق

السعادة مطلقاً، سواء كانت عاجلة أم آجلة، وسنقصر الحديث في هذه الوقفة على

السعادة العاجلة، لأنها المقصودة في التكاثر المذموم. أما المطلوبات التي يتهافت

عليها المتهافتون توسلاً إلى السعادة القريبة الفانية فهي نوعان:

الأول: مطلوبات مادية من الأموال والمراكب والأثاث والرياش والدور

والبساتين والغراس والخدم والأولاد وألوان الملبوسات والمطعومات، وكذا التكاثر

في الكتب والتصانيف على حساب التحقيق فيها. وغير ذلك مما لا يُقصد به وجه

الله؛ فالتكاثر به مذموم، وهذا النوع ذمه ظاهر لا يخفى.

الثاني: مطلوبات معنوية، وذلك يشمل العلم الذي لا يُبتغى به وجه الله، كما

يشمل ما يلحق بالعلم مما لا ينبني عليه اعتقاد ولا عمل كالمسائل الفرضية، وتكثير

الأقوال من غير حاجة، وقطع الأوقات في الوقوف عند الأمثلة والتعريفات أو ما

يُعرف بالخلاف الصوري، وكذا التكثُّر بالمسائل وتفريعها وتوليدها، وكمن يترك

المهم من التفسير ويشتغل بالأقوال الشاذة، أو يترك المهم من الفقه ويشتغل بنوادر

الفروع وعلل النحو وغيرها. أو يتكثر بالتخريجات أو الطرق للحديث الصحيح

الذي لا يحتاج إلى هذه الطرق الزائدة أو الشواهد، ومثل هذا يُقال في كثرة العزو

إلى الكتب المصنفة مع كون الحديث مخرجاً في الصحيحين أو أحدهما.

ومن لطيف ما ورد في هذا المعنى ما أخرجه ابن عبد البر - رحمه الله - في

جامعه (2-1034) عن حمزة الكناني - رحمه الله - قال: (خَرَّجت حديثاً واحداً

عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق - شك

الراوي - قال: فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك، قال:

فرأيت ليلة من الليالي يحيى بن معين في المنام فقلت له: يا أبا زكريا! خَرَّجتُ

حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق، قال: فسكت عني

ساعة ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت ألهاكم التكاثر.

وقد ساق الشاطبي - رحمه الله - هذه الحكاية في الموافقات [12] وعقبها

بقوله: (وهو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسيرة كافٍ في

المقصود منه، فصار الزائد على ذلك فضلاً) .

وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن قوماً أكثروا جمع الحديث ولم يكن

مقصدهم صحيحاً ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق؛ وإنما كان

مرادهم العوالي والغرائب، فطافوا البلدان ليقول أحدهم: لقيت فلاناً، ولي من

الأسانيد ما ليس لغيري، وعندي أحاديث ليست عند غيري ... وهذا كله من

الإخلاص بمعزل؛ وإنما مقصدهم الرئاسة والمباهاة، ولذلك يتبعون شاذ الحديث

وغريبه) اهـ[13] .

ومما يدخل في هذا اللون من التكاثر المذموم: التكاثر بالجاه والشهرة

والرئاسات وثناء الخلق! !

قال الإمام الزهري - رحمه الله -: (ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في

الرياسة، نرى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال فإذا نُوزِعَ الرياسة حامى

عليها وعادى) [14] ! !

فكما أن المال: ملك الأعيان المنتفع بها فإن الجاه ملك القلوب المطلوب

تعظيمها وطاعتها والتصرف فيها من تحصيل المنزلة في قلوب الخلق، وهو اعتقاد

القلوب نعتاً من نعوت الكمال في هذا الشخص، إما من علم أو عبادة أو نسب أو

قوة أو إعانة أو حسن صورة أو غير ذلك مما يعتقده الناس كمالاً؛ فبقدر ما يعتقدون

له من ذلك تذعن قلوبهم لطاعته ومدحه وخدمته وتوقيره [15] .

والحقيقة أن هذا اللون من المكاثرة أشد فتكاً وأعظم خطراً من المكاثرة

بالأموال والأولاد مما يدخل تحت النوع الأول؛ ذلك (أن أكثر الناس إنما هلكوا

لخوف مذمة الناس وحب مدحهم؛ فصارت حركاتهم كلها على ما يوافق رضى

الناس رجاء المدح وخوفاً من الذم؛ وذلك من المهلكات) [16] .

ولا يخفى أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة

الخلق مشغوفاً بالتردد إليهم والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما

يعظِّم منزلته عندهم ويقتنص به قلوبهم! ! وهذا جذر النفاق وأصل الفساد [17] ؛

لأنه يحمل صاحبه على تقديم رضا الخلق على رضا الرب مما يؤدي إلى رقة الدين

والعياذ بالله، فتجده إن أفتى الناس مال مع أهوائهم، وإن صلى إماماً لهم تلاعب

بالصلاة مجاراة لأذواقهم من إخلال بالمواقيت، أو في الصفة؛ لا سيما في التراويح

والقيام؛ حيث ترى أعاجيب متنوعة: من مقتصر على آية واحدة بعد الفاتحة في

كل ركعة، ومن محوِّل الدعاء في القنوت إلى موعظة، ومن متكلف للبكاء [18] ،

ومن مصلٍّ بهم في كل يوم بعدد مغاير في الركعات لليوم الذي قبله (حسب الطلب) ، ومن متكلف في الدعاء موافقة تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى [19] ...

وغير ذلك مما قد يُبتلى به العبد مكاثرة في المأمومين أو غير ذلك مما يدخل في

عموم قوله: ألهاكم التكاثر وإنما لكل امرئ ما نوى.

قال ابن الجوزي - رحمه الله -: (ومنهم - أي العلماء وطلاب العلم - من

يفرح بكثرة الأتباع، ويلبِّس عليه إبليس أن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم، وإنما

مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر، وينكشف هذا بأنه لو انقطع بعضهم

إلى غيره ممن هو أعلم منه ثقل ذلك عليه! ! وما هذه صفة المخلص في

التعليم) اهـ[20] .

وقد كان السلف الصالح يَتَوَقَّوْن هذه المزالق أشد التوقي، ويتحاشَوْن الوقوع

فيها؛ فعن سليمان ابن حنظلة قال: أتينا أُبي بن كعب - رضي الله عنه - لنتحدث

إليه، فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفه، فرهقنا عمر، فتبعه فضربه بالدرة! ! قال:

فاتقاه بذراعيه. فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع؟ ! قال: أوَ ما ترى؟ ! فتنة

للتابع مذلة للمتبوع [21] .

ولما مشوا خلف علي - رضي الله عنه - قال: (عني خَفْقَ نعالكم؛ فإنها

مفسدة لقلوب نوْكَى الرجال) [22] .

وخرج ابن مسعود - رضي الله عنه - من منزله فتبعه جماعة فالتفت إليهم

وقال: علامَ تتبعوني؟ فواللهِ لو تعلمون ما أُغلق عليه بابي ما تبعني منكم رجلان.

وفي بعض الروايات: ارجعوا؛ فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.

وكان أبو العالية - رحمه الله - إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام! !

وكان خالد بن معدان - رحمه الله - إذا عظمت حلقته قام وانصرف كراهة

الشهرة.

وقال شعبة: ربما ذهبت مع أيوب السختياني لحاجة فلا يدعني أمشي معه،

ويخرج من ها هنا وها هنا لكي لا يُفطن له [23] . وكان الإمام أحمد - رحمه الله

- إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد، وكان يقول: أشتهي مكاناً لا يكون فيه

أحد من الناس [24] .

وكان يقول: (طوبى لمن أخمل الله ذكره) [25] .

وعن الحسن - رحمه الله -: (لا تغرنك كثرة من ترى حولك؛ فإنك تموت

وحدك، وتُبعث وحدك وتحاسب وحدك) .

وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: (لو رأيت رجلاً اجتمع الناس

حوله لقلت: هذا مجنون! ! من الذي اجتمع الناس حوله لا يحب أن يُجوِّد كلامه

لهم؟) [26] .

وقال الأعمش: (جهدنا بإبراهيم حتى نجلسه إلى سارية فأبى) [27] . وكان

الحارث بن قيس الجعفي يجلس إليه الرجل والرجلان فيحدثهما فإذا كثروا قام

وتركهم [28] .

وكان محمد بن سيرين إذا مشى معه الرجل قام فقال: ألك حاجة؟ فإن كانت

له حاجة قضاها، وإن عاد يمشي معه قام فقال: ألك حاجة؟ ! [29] وقال إبراهيم

النخعي: إياكم أن تُوطَأ أعقابُكم [30] .

وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: قلنا لعلقمة: لو صليت في المسجد وجلسنا

معك فتُسأل؟ ! قال: أكره أن يُقال: هذا علقمة [31] .

وقال حماد بن زيد: كنت أمشي مع أيوب السختياني فيأخذ في طرق إني

لأعجب له كيف يهتدي لها فراراً من الناس أن يُقال: هذا أيوب [32] . وأخبار

السلف في هذا كثيرة لا يسع المقام الاستطراد فيها بأكثر من هذا، وإنما أختم لك

بهذا الخبر: قال عبد الرحمن بن مهدي: كنت أجلس يوم الجمعة، فإذا كثر الناس

فرحت، وإذا قلوا حزنت. فسألت بشر بن منصور، فقال: هذا مجلس سوء فلا

تعدْ إليه، فما عدت إليه! ! [33] .

الوقفة الثامنة [34] :

علق الله - تعالى - الذم في الآية على التكاثر الملهي عن التزود للآخرة،

لكن لو حصلت الكثرة من غير تكاثر لم تضر، وقد كان بعض الصحابة أهل كثرة

في المال أو الولد، ولم تضرهم لكونها حاصلة من غير تكاثر كما لا يخفى.

الوقفة التاسعة:

بما مضى تبين أن الذم في الآية واقع على التكاثر في متاع الدنيا الزائل

ولذَّاتها الفانية. أما التكاثر بأسباب السعادة الأخروية فهو مطلوب شرعاً [35] :

[وفي ذلك فليتنافس المتنافسون] [المطففين: 26] وعليه فالتكاثر من حيث تعلُّق الذم

والحمد قسمان: محمود، ومذموم.

(فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه،

وتكمل به وتزكو، وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكاثرها غيرها في ذلك، وينافسها

في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها. فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد.

وضده: تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم؛ فهذا تكاثر مُلْهٍ عن الله وعن الدار

الآخرة، وهو جارٌّ إلى غاية القلة، فعاقبة هذا التكاثر: قلٌّ وفقر وحرمان.

والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يُذكِّر بالله وبنعمه، وعاقبته

الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى، وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى

غيره أفضل منه قولاً، وأحسن منه عملاً، وأغزر منه علماً، وإذا رأى غيره أكثر

منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحوقه فيها كاثره بخصلة أخرى، وهو

قادر على المكاثرة بها، وليس هذا التكاثر مذموماً، ولا قادحاً في إخلاص العبد،

بل هو حقيقة المنافسة، واستباق الخيرات.

وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج - رضي الله عنهم - في تصاولهم بين

يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته

ونصرته.

وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر - رضي الله عنهما - فلما تبين لعمر

مدى سبق أبي بكر له قال: والله لا أسابقك إلى شيء أبداً) [36] .

فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه في تقديم الأهم وهو ما يقربه من ربه -

عز وجل -. أما التكاثر بما يفنى فهو تكاثر بأخس المراتب، والاشتغال به يمنع

الإنسان من الاشتغال بتحصيل السعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد، ويصرفه

عن الجد في العمل، ويطفئ نور الاستعداد في نفسه وصفاء الفطرة والعقل

والكمالات المعنوية الباقية [37] .

الوقفة العاشرة [38] :

قوله: ألهاكم التكاثر خبر يتضمن تقريعاً وتوبيخاً وتحسراً.

الوقفة الحادية عشرة:

(ألهاكم التكاثر خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف، وهم في الإلهاء

والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله.

فإن قيل: فالمؤمنون لم يلههم التكاثر، ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور

لمن ألهاه.

وجواب هذا: أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان، على طريقة القرآن

في تناول الذم له من حيث هو إنسان، كقوله: [وكان الإنسان عجولا]

[الإسراء: 11] ، [وكان الإنسان كفورا] [الإسراء: 67] ، [إن الإنسان لربه لكنود] [العاديات: 6] ، [وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا] [الأحزاب: 72] ، ... [إن الإنسان لكفور] [الحج: 66] ، ونظائره كثيرة.

فالإنسان - أيُّ إنسانٍ - هو عارٍ عن كل خير من العلم النافع، والعمل

الصالح، وإنما الله - سبحانه - هو الذي يكمله بذلك، ويعطيه إياه، وليس له ذلك

من نفسه، بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل،

وكل علم وعدل وخير فيه فمِنْ ربه، لا من نفسه. فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته

التي هي له من نفسه، ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له، وجعله مريداً

للآخرة مؤثراً لها على التكاثر بالدنيا، فإن أعطاه ذلك وإلا فهو مُلْتَهٍ بالتكاثر في

الدنيا ولا بد) [39] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015