سامي تيسير سلمان
مصطلح يعبر عن سلوك ومدرسة إدارية في آن واحد. يرجع تاريخ هذا
المصطلح إلى الإغريق؛ حيث استُقي من كلمة (Kratia) التي تعني القوة، ثم
تحولت إلى الفرنسية واستقت منها مصطلح (رضي الله عنهureaucracy) المتداول حالياً
والذي يتكون من جزأين: الأول (رضي الله عنهureau) يعني المكتب (أي المنضدة) والثاني
(Carcy) ويقصد به الحكم. وعليه فيمكن فهم أصل كلمة البيروقراطية على أنها
حكم المكتب، أو الحكم عن طريق المكتب [1] .
لقد كان الفرنسيون أول من استخدم كلمة بيروقراطية وكان ذلك في القرن
الثامن عشر الميلادي، ثم تداولها الألمان، وعرفت هناك بـ (رضي الله عنهurokratie) .
وفي منتصف القرن الثامن عشر وصلت إلى الساحة الأكاديمية عبر علماء الاجتماع
الذي منه ولد علم الإدارة آنذاك، وأصبحت مدرسة إدارية منظِّرة لها سماتها
وأهميتها، واعتبرت أول نموذج متكامل للمنظمات، والأساس الأول لنظرية
التنظيم العالمي، وسمي عالم الاجتماع الألماني الذي شارك في هذه الصياغة ماكس
فيبر بأبي البيروقراطية.
لقد كان للفترة التي عاشها ماكس فيبر (1864 1920م) الأثر الأكبر في
التأثير على صياغة هذه المدرسة؛ فقد تزامنت مع نهاية عصر الإقطاع والتحلل من
النظم التي سخرت العبيد للعمل في المزارع إلى نظام الأجور وظهور المصنع
والآلة وبداية العلاقة الحقيقية بين الرئيس والمرؤوس والحاجة إلى التخصص في
أنماط العمل وغيرها من متطلبات عصر الآلة ولم تكن هذه الملابسات في المصنع
فقط؛ بل شملت الاستقلال السياسي وظهور الدول الحديثة وتشكُّل أجهزة الحكومات
التي أُنيط بها عبء التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واعتُبر آنذاك أن
الاعتماد على دور الحكومات والحاجة إلى السلطة والمركزية في اتخاذ القرار
ضرورة للقيام بهذا الدور؛ إذ إن القطاع الخاص لم يكن قد قدَّم تجربة تذكر في
مجال التغيير والتنمية.
لقد ساهمت هذه الملامح وغيرها في صياغة المدرسة الإدارية الأولى التي
نادت بما يلي:
1 - التحديد الدقيق والتعريف الجديد للسلطة الرأسية الهرمية.
2 - تقييم العمل على أساس مبدأ التخصص وتحديد المسؤوليات.
3 - وجود نظام واضح للقوانين والأنظمة الخاصة بحقوق وواجبات
الموظفين.
4 - وجود نظام إجرائي دقيق لمعالجة الحالات الإدارية.
5 - العلاقة بين العاملين علاقة عملية موضوعية، ولا دور للعلاقات
الشخصية.
6 - اختيار المتقدمين للعمل وترقية الموظفين ومكافأتهم على أساس الكفاءة
والمعرفة فقط.
كان لهذه المدرسة مؤسسون تجدر الإشارة إليهم:
ريتشارد هول R. Hall، فريدريك Fredrik، بارسون Parsons،
برجر رضي الله عنهerger. وغيرهم.
وكان من وصف هذه المدرسة بخصائص ثلاث، وعرفت بذلك حتى يومنا:
(هيدي Heedy 1984م:
1 - الهرم الوظيفي (السلطة الإدارية والهيكل الهرمي) .
2 - التخصص (تقسيم العمل) .
3 - التأهيل أو الكفاية، (اختيار الأشخاص المؤهلين) [2] .
لقد تربعت هذه المدرسة حقبة طويلة من الزمان وكانت الدول النامية تستقي
التجربة من الدول المتقدمة الغربية التي تأسست فيها البيروقراطية ابتداءًا، وكان
لها بعض المزايا التي نتجت من تطبيقاتها وهي: تحديد المسؤوليات، ووجود
أنظمة سير العمل والمعاملات، وتحديد الصلاحيات بيد الطبقات العليا من التنظيم
وعدم السماح بالتسيب والمرونة في اتخاذ القرار حرصاً على ضبط الأمور،
وسيطرة القانون لا البشر العاملين، وغيرها من ملامح الإدارة البيروقراطية. كل
هذا وغيره من الملامح والسمات جعل هذه المدرسة تُعرَف عبر السنوات بما يسمى: (نظام المركزية في الأعمال الرسمية) إشارة إلى انتشارها في الدوائر الحكومية.
وليس من الغريب أن تجد في معجم ومصطلحات الاقتصاد والمال وإدارة الأعمال
هذا التعريف لمصطلح البيروقراطية رضي الله عنهureqacrcy: «نظام يعتمد المركزية في
الأعمال الحكومية الرسمية، ويقر التدرُّج الطويل في السلطة والمسؤولية وتعدد
الأقسام في الدائرة الواحدة وارتباطها برئيس واحد» [3] .
وبعد هذه المقدمة؛ هل يمكن أن نصل إلى خلاصة لهذا المصطلح؟ أحسب
أن هذا المصطلح يصف بالعموم مدرسة إدارية استطاعت أن تطبع المنظمة أو
الجهاز بالآتي: (تنظيم رسمي يرتكز على التنظيم الهرمي للسلطة، وعلى قوانين
وقواعد دقيقة لإجراءات العمل وعلاقات الأفراد العاملين) .
لقد كان لهذه المدرسة عيوب عدة يراها أصحاب المدرسة الإدارية الحديثة؛
فما هي هذه العيوب؟ وبماذا ينادي أصحابها؟ وهذا - حقيقةً هو ما يعنينا من طرح
هذا المصطلح.
عيوب البيروقراطية:
1 - عدم الاهتمام بتنمية الفرد وتطوير الشخصية الإنسانية الناضجة.
2 - عدم إعطاء أي اعتبار للتنظيم غير الرسمي، وعدم القدرة على معالجة
المشاكل الطارئة وغير المتوقعة.
3 - عدم استثمار الطاقات البشرية التي تعمل في الجهاز البيروقراطي
استثماراً جيداً بسبب انتفاء الثقة والاعتماد على القوانين والعلاقات غير الإنسانية،
والخوف من الوقوع في الخطأ والانتقام ... إلخ.
4 - لا يتضمن النموذج البيروقراطي وسائل كفيلة بحل الخلافات والنزاعات
بين المراتب المختلفة أو بين المجموعات الوظيفية المتباينة.
5 - عدم قدرة التنظيم البيروقراطي على استيعاب التكنولوجيا الحديثة
والفنيين والعلماء.
6 - قِدَمُ نظم الرقابة والسلطة التي نص عليها التنظيم، وكونها نظماً مُستهلَكَة.
7 - عدم توفير العملية القضائية الكافية.
8 - عدم توفر قنوات سليمة للاتصال داخل المنظمة نظراً للتنظيم الهرمي
(الهيراركي) .
9 - المساهمة في تطور نمط موحد علماً بأن البيروقراطية ذات توجه جماعي.
10 - تدعو إلى الآلية في العمل والكسل والخمول بسبب سيطرة القوانين
والنظم وعدم توفر الأجواء المناسبة للابتكار والإبداع [4] .
وقبل شروعنا في الحديث عن الوجه الآخر للبيروقراطية وبما ينادي به
أصحابها لا بد من الإشارة إلى أن مدرسة البيروقراطية لم تبق على الساحة الإدارية
بمفردها، ولم تكن وحدها في الستينيات والسبعينيات؛ بل قدَّم اليابانيون مدرسة
التنظيم المصفوف، وقدَّم الأمريكيون الشبكات الإدارية.
وليس المجال هنا للحديث عن المدارس الإدارية والحقبة الزمنية التي مرت
بها وحتى تاريخه؛ إلا أن من المهم الإشارة إلى شعارات الإدارة الحديثة التي نادت
بثورة إدارية تدعو إلى التحرر من شبح البيروقراطية، ونادت بإدارة متحررة بعيدة
عن الهرم الإداري.
يحضرني في هذا المجال كتابان جيدان كلاهما بعيد عن الرغبة الشديدة إلى
تأكيد الحاجة للتحرر من قيود البيروقراطية، وكلاهما يصف الدوافع بعد أن ظهرت
آثار العيوب التي لخصناها سابقاً جلية على مدى العشرين عاماً السابقة.
وليس هذا فحسب؛ بل إن مستجدات اليوم من التغيرات جذرية سريعة
ومتتابعة على جميع الأصعدة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ بما في ذلك
ثورة المعلومات والتقدم التكنولوجي الهائل في عالم الاتصالات وما يسمى اليوم بـ
(العولمة) كلها شكلت عوامل رئيسة في إعادة صياغة النظم الإدارية لتصبح أكثر
مرونة وتحرراً، وبعيدة عن ملامح البيروقراطية التي يعبر عنها اليوم بالإدارة
البائدة [5] .
إذاً: ماذا لدى أصحاب الإدارة الحديثة؟ أختصر ذلك بالعناوين الآتية:
1 - البساطة تكسب:
شعار جديد ينادي بالأخذ بالبساطة؛ فالبعد عن تعقيدات ومتاهات الإدارة
البروقراطية أظهرت الدراسات أنه يمكن أن يعاد تبسيط بناء الإدارات ومهامها
والإجراءات المطلوبة لإنجاز العمل مما يؤدي إلى تخفيض في التكاليف وسرعة في
الإنجاز وجودة في الخدمة. لقد نجحت أجهزة حكومية وشركات كبيرة في إعادة
دراسة عملياتها، وأثبتت الإجراءات المرنة واللامركزية أن البساطة تكسب.
2 - الإدارة المتحررة نهاية الهرم الإداري في التسعين:
يقول مؤلف كتاب هذا عنوانه [6] : (كلما زادت الصناديق والنظم
والإجراءات الإدارية وعلت الهياكل التنظيمية في الشركة، كلما مالت ثقافتها إلى
التقليد وقيادتها إلى السيطرة وأداؤها إلى التباطؤ.
إن ما تدعو إليه الإدارة المتحررة هو البعد عن المستويات الإدارية المتعددة
واستبدالها بفِرَق عملٍ متجانسة تدرك هاجس السرعة وتدعو إلى الإبدع والتجديد) .
إن المسؤولية هنا مرتبطة بالصلاحية؛ ولكنها بِيَدِ فريق لا فرد واحد أو أفراد؛ كلٌ في دائرته بعيداً عن الآخرين. لقد نادت الإدارة الحديثة بوضع مزيد من
السلطة أسفل الهرم الإداري حرصاً على تمكين الأفراد الذين يقدمون الخدمة
ويباشرون العمل اليوم بمزيد من القدرة على اتخاذ القرار وقد كان لذلك الأثر الناجح؛ حيث قام مثل هذا الدور بتحفيز العاملين على العمل وحب الابتكار وسرعة الأداء
وهو ما يتطلبه واقع اليوم.