الكنائس الشرقية ساندت الصليبيين
في غزو المشرق الإسلامي
فرست مرعي إسماعيل
بدأت بعض الدراسات والبحوث في قسم من الجامعات ومراكز البحوث
العربية تضفي نوعاً من الشفافية والمصداقية على أهل الذمة من النصارى
(النصارى الوطنيين حسب المصطلح التنويري الجديد!) الذين عاشوا في كنف
الدولة الإسلامية أيام الحروب الصليبية وقبلها، وكيف أن النصارى بشتى طوائفهم
من أرثوذكس وسريان ونساطرة وموارنة وأرمن تعرضوا مثلما تعرض المسلمون
إلى ويلات الغزو الصليبي الغربي، وأنهم لم يساعدوا إخوانهم في العقيدة النصرانية
الصليبيين الغربيين أتباع الكنيسة الكاثوليكية - بقدر ما وقفوا ضدهم خلال محاولتهم
السيطرة على المشرق الإسلامي واسترجاع ما يعتقدون أنه القبر المقدس للمسيح -
عليه السلام - من أيدي البرابرة المسلمين - حسب زعمهم - على أساس وجود
خلافات عقائدية وتاريخية وقومية بين الجانبين، وأنهم - أي النصارى - تمتعوا
في ظل الدولة الإسلامية بالحرية والعدالة أكثر مما تمتعوا بها خلال حكم إخوانهم في
العقيدة الإمبراطورية البيزنطية التي أذاقتهم الويل والثبور لخروجهم على تعليمات
الكنيسة الجامعة وأنهم أصبحوا مهرطقين [1] .
هذه الدراسات والبحوث في حقيقة الأمر كانت واقعة تحت التأثير التغريبي
للدراسات التنصيرية الاستشراقية من جهة، وتحت الضغط السياسي والإعلامي للمد
القومي العلماني الذي ساد الساحة العربية بعد منتصف القرن العشرين بقليل من جهة
أخرى؛ مع مراعاة اعتبار أن أغلب رواد الفكر القومي العلماني والاشتراكي كانوا
من النصارى:
(ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث) ، (أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي
السوري) ، (جورج حبش أحد مؤسسي حركة القوميين العرب) ، (نايف حواتمة
زعيم الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين!) ، (قسطنطين زريق أستاذ
العلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية ببيروت) وغيرهم كثير.
وبعد أن تبوَّأ بعض هؤلاء وتلامذتهم كراسي الأستاذية في كثير من الجامعات
العربية بدؤوا عملية تغيير منظمة ومبرمجة في العلوم الاجتماعية عامة والتاريخية
خاصةً، إضافة إلى أن وزارات الثقافة العربية والتعليم العالي في الدول ذات
الأنظمة الاشتراكية الراديكالية قامت بالعملية نفسها ولكن على نطاق واسع لكي
تواكب تغييراتُها المرحلةَ العربية الثورية! مرحلة الإنجازات القومية الاشتراكية
التي أهدتها للجماهير العربية المغلوبة على أمرها والتي طالما صفقت لها كثيراً،
مثل نكسة الانفصال بين مصر وسوريا عام 1961م، ونكسة حزيران عام 1967م، وغيرها كثير!
واستناداً إلى هذه المتغيرات تم إحلال مصطلحات بديلة لكي يتربى عليها
النشء الجديد ابتداءًا من رياض الأطفال وانتهاءً بالدراسات العليا في الجامعات
ومراكز الدراسات؛ حيث تم إلغاء مصطلحات: الجهاد، الحروب الصليبية، الفتح
الإسلامي، الشريعة الإسلامية، أهل الذمة، الجزية..، وحلت محلها
مصطلحات: الصراع العربي الفرنجي، تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب،
تحرير الأرض العربية، نشر قيم السماء، النصارى الوطنيين، الضرائب [2] .
وعلى أي حال فإن الجامعات الأمريكية ومراكز الدراسات الأوروبية لا زالت
تستعمل مصطلحات الحروب الصليبية والجهاد المقدس! ومما يؤسف له أن هذه
المصطلحات التنويرية العصرانية! لا زالت تستعمل في كثير من أروقة الجامعات
الأوروبية حتى اليوم بالرغم من اعتراف دهاقنة الفكر القومي والماركسي بإخفاق
مشروعهم الثوري الاشتراكي على جميع الأصعدة: السياسية والعسكرية
والاجتماعية والثقافية والتربوية.
فالصراع في واقع الأمر لم يكن بين العرب والفرنجة بقدر ما كان صراعاً بين
القوى النصرانية بشقيها: الغربي، والشرقي من جرمان ولاتين ونورمان وإغريق
وسلاف، إضافة إلى مساعدة النصارى من أهل الذمة لهم بشتى فرقهم، وبين القوى
الإسلامية: من تركمان، وسلاجقة، وكرد، وعرب، وفرس.
واستناداً إلى مجريات الصراع الإسلامي النصراني في زمن الحروب
الصليبية التي استغرقت قرنين من الزمان يستطيع الباحث أن يؤكد أن أغلب قادة
حركة الجهاد الإسلامي ضد الحملات الصليبية كانوا من المسلمين غير العرب أمثال: عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود (تركمان) ، صلاح الدين الأيوبي (كردي) ، ... بيبرس البندقداري، الناصر قلاوون، الأشرف خليل (مماليك) . ...
وكانت مجلة البيان قد نشرت في عددها 138 في يونيو (حزيران) 1999م
مقالاً تحت عنوان: (صراع بين كنيستين.. الخلفية الدينية لضرب الصرب) ،
وبالرغم من أهمية المقال في هذه الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية وشعب
كوسوفا يتعرض إلى أكبر عملية إبادة دينية وعرقية تحت سمع وبصر العالم
الأوروبي المتحضر! إلا أنه لا يخلو من معلومات جانبت الصواب في عدة مواضع:
أولاً: في الصفحة 77 جاء ما يلي: (وخلال الفتح الإسلامي كانت القرى
الأرثوذكسية تنضم إلى الجيوش الإسلامية نكاية بالكاثوليك الذين أذاقوا الأرثوذكس
ويلات العذاب ... ) [3] والصحيح أنه أثناء عمليات الفتح الإسلامي لبلاد الشام
كانت القوى السريانية (اليعقوبية) المنوفستيين تُبدي فرحها بهزيمة الدولة البيزنطية
صاحبة المذهب الملكاني (مذهب الملك) أو مذهب الطبقيين، ولم يكن مصطلح
الأرثوذكسية - الذي يعني الطريق المستقيم - قد شاع آنذاك وإنما ظهر إلى الوجود
في أعقاب الانفصال الكبير بين الكنيستين: الغربية التي سميت بالكاثوليكية - أي
الأغلبية - والشرقية التي سميت بالكنيسة اليونانية أو كنيسة الروم الأرثوذكس؛ لذا
كان أنصار الكنيسة السريانية والقبطية يُعتَبرون هراطقة من وجهة نظر الكنيسة
الرومانية التي أطلق عليها العرب المسلمون تسمية الكنيسة الملَكية نسبةً إلى ملك
القسطنطينية.
ثانياً: جاء في الصفحة نفسها: (بينما تم فتح مصر بسلاسة عجيبة؛ لأن
أقباط مصر كانوا واقعين تحت ظلم الكاثوليك حتى أعلنت كنيسة مصر انفصالها عن
كنيسة روما) [4] والصحيح أن المصريين أو الأقباط كانوا واقعين تحت ظلم الدولة
البيزنطية وليس الكاثوليك، والكنيسة المصرية أعلنت انفصالها عن كنيسة
القسطنطينية وكنيسة روما في آنٍ واحدٍ؛ حيث جاء في كتاب تاريخ الأمة القبطية
ما نصه: (ولما طرق مسامع المصريين ما لحق ببطرِيَرْكِهم) ديسقورس (من
الحرمان والعزل هاجوا وغضبوا، واتفقوا على عدم الاعتراف بقرار المجمع الذي
أصدر هذا الحكم، وأعلنوا رضاهم ببقاء بطريركهم رئيساً عليهم، ولو أنه محروم
مشجوب، وأن إيمانه ومعتقده هو عين إيمانهم ومعتقدهم، ولو خالفه فيها جميع
حكام القسطنطينية وبطاركة رومية) [5] .
ثالثاً: جاء في الصفحة نفسها: (ولما جمعت أوروبا الغربية (ذات الجمهور
الكاثوليكي) قواها لغزو الأرض الإسلامية فيما يعرف بالحروب الصليبية لم تساندها
الكنيسة الشرقية، وتكرر الغزو دون أثر للأرثوذكس؛ لأن الكنيستين كل واحدة
منهما تكفِّر الأخرى) [6] ، والصحيح أن الكنيسة الشرقية كانت مشرفة على
الكنائس التي تضمها الإمبراطورية البيزنطية التي عاصمتها القسطنطينية، وكان
للدولة البيزنطية القِدْح المعلَّى في دعم الصليبيين مادياً ومعنوياً؛ بل يستطيع الباحث
القول دون موارية: إن استنجاد البيزنطيين بالعالم الأوروبي - خوفاً من الخطر
السلجوقي بعد معركة (ملاذ كرد) الفاصلة التي خسروها وأسر امبراطورهم
رومانوس الرابع - كان السبب الحقيقي للدعوة التي قام بها البابا أدريان الثاني عام
1095م للقيام بحرب صليبية لإنقاذ الأماكن المقدسة النصرانية - كما زعموا - من
أيدي البرابرة المسلمين! [7] .
وتأكيداً على التعاون الذي جرى بين الإمبراطورية البيزنطية - التي تعتبر
الرأس الأعلى للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية - وبين ملوك وزعماء الغرب الأوروبي
ندرج أدناه نص رسالة وجهها الإمبراطور البيزنطي القسيس كومنين الأول إلى
روبرت الأول إمبراطور الأراضي الواطئة (هولندة الحالية) حوالي سنة 1088م:
(من إمبراطور القسطنطينية إلى السيد الأجلِّ اللورد روبرت أمير الأراضي
الواطئة، وإلى جميع كبار رجال المملكة المؤمنين بالعقيدة المسيحية، وإلى رجال
الدين والدنيا: تحية وسلاماً.. أيها السيد العظيم حامي العقيدة المسيحية: أود أن
احيطك علماً بما وصل إليه تهديد البجاناكية والأتراك للإمبراطورية الإغريقية
المسيحية المقدسة؛ فهم يعملون فيها السلب والتخريب كل يوم، ويتوغلون في
أراضيها دون انقطاع، وكم من مذابح وتقتيل وجرائم تفوق حد الوصف يقترفونها
ضد المسيحيين الإغريق؛ فضلاً عن السخرية والتحقير! فإنهم يذبحون الأطفال
والشباب داخل أماكن التعميد؛ حيث يريقون دماء القتلى محتقرين بذلك
المسيح.
لقد استولى أولئك القوم على كل البلاد الواقعة بين بيت المقدس وبلاد الإغريق؛ إذ امتُلكت بلاد اليونان كلها، بما في ذلك أجزاؤها العليا ... لذا: أستحلفك بمحبة
الله وباسم جميع المسيحيين الإغريق أن تمد لنا وللمسيحيين الإغريق يد العون
والمساعدة، وذلك بتقديم جميع الجنود المسيحيين من كبير وصغير، فضلاً عن
العامة ممن يتسنى جمعهم من بلادك.
وبناءً على ذلك يجب أن تحاربوا بكل ما أوتيتم من قوة وشجاعة قبل سقوط
القسطنطينية، وستُسعدون ويكون لكم في السماء أجراً عظيماً (كذا) ومن الأفضل أن
تكون القسطنطينية في حوزتكم وليست في قبضة الأتراك ... ) [8] .
ومن الجدير ذكره أنه كان للنصارى المستقرين داخل حدود الدولة الإسلامية
دور خياني كبير في فتح أبواب الوطن الإسلامي أمام جحافل الصليبيين بالرغم من
المعاملة الحسنة التي لاقوها من المسلمين أمراءَ وشعوباً؛ فقد ساعد الأرمنُ
النصارى الذين كانوا يتركزون في شرق آسيا الصغرى وشمال الجزيرة الفراتية -
ساعدوا الصليبيين في احتلال عدة مدن وإنشاء أول إمارة صليبية على يد الأمير
البولوني بلدوين؛ حيث فتح الملك الأرمني طوروس بن هيثوم أبواب الرها ورحب
به؛ ودخل بلدوين المدينة واستقبل استقبال الفاتحين وسط ترحيب أهلها وحاكمها
ورجال الدين الأرمن فيها واغتباطهم البالغ بذلك [9] .
وعندما حاصر الصليبيون مدينة انطاكية استنجد أميرها باغي سيان بالقوى
الإسلامية القريبة والبعيدة للعمل على إنقاذ أنطاكية والوقوف كتلة واحدة أمام الخطر
الصليبي الذي يهدد الجميع، فاجتمعت له قوات إسلامية كثيرة عند بلدة حارم إلى
الشرق من أنطاكية، وكانت خطة المجاهدين المسلمين في هذه المرحلة أن يهاجموا
هذه الجيوش الصليبية المحيطة بأنطاكية فجأة، وفي الوقت نفسه يخرج الجيش
الذي يقوده أمير انطاكية باغي سيان من أنطاكية، مما يجعل الصليبيين بين فكي
كماشة، غير أن النصارى في حلب وحارم - خاصة السريان والأرمن - أبلغوا
الصليبيين بهذه الخطة، فلما اشتبك الفريقان حلت الهزيمة بالمسلمين قبل أن ينفذوا
خطتهم، واستولى الصليبيون على حارم بمساعدة أهلها السريان والأرمن [10] .
ولما طال حصار انطاكية من قِبَلِ الصليبيين، وضاقت بهم الحال استقر رأي
قادتهم على أن يقوم أحدهم بالاستيلاء بالقوة على أحد حصونها الواقع على ناحية
نهر العاصي، وتقرر أن يحاصر كل قائد منهم هذا الحصن مدة أسبوع بالتتابع؛
وكان على الحصن أحد القادة من قِبَل الأمير باغي سيان، يُدعى فيروز، وكان
فيروز هذا قد اعتنق الإسلام ونال ثقة باغي سيان، فعهد إليه باغي سيان بحراسة
أحد أبواب المدينة في الجبهة الجنوبية، ولم يلبث هذا الأرمني - النصراني الأصل- أن غلبت عليه روح الخيانة، فاتصل ببعض الأرمن الذين كانوا متعاونين مع
الصليبيين وتوسطهم لمراسلة القائد الصليبي بوهيمند، وأنه مستعد لتسليم انطاكية
إن أمَّنوه وأعطوه ما أراد، فراسله الصليبيون وتوثقت عرى الصداقة بينه وبين
القائد بوهيمند بعد أن أغراه بالأموال والحظوة إذا اعتنق النصرانية مرة ثانية،
فوثق فيروز بقوله، واتفق معه على أن يفتح له أحد الأبراج التي يتولى حراستها،
ومنحه مالاً كثيراً، واحتفظ بوهيمند لنفسه بسر هذه المؤامرة عن أصحابه، فلما
كانت نوبته في محاصرة البرج المذكور فتح له فيروز شباكه ليلاً، فدخل
الصليبيون منه وهدموا جزءاً من السور ودخلوا البلد ودوَّت الصيحة في أحياء
المدينة ورفع بوهيمند رايته على نقطة مواجهة لقلعة انطاكية، وقتل الصليبيون في
اليوم التالي من صادفوه بالمدينة من المسلمين وسبوا من النساء والأطفال عدداً لا
يُحصى [11] .
وبناءً على ما تقدم يستطيع القارئ الحصيف أن يخرج بنتيجة وهي أن جميع
الفرق والكنائس النصرانية: من كاثوليكية، وأرثوذكسية، وبروتسانتية، وكنائس
المشرق من سريان ومارون ونساطرة يتوحدون عندما يجابهون عثرة في وجه
أطماعهم كالإسلام، أو عندما يقومون بغزو ديار الإسلام وهذا لا ينفي وجود
خلافات عميقة فيما بينهم حتى إنَّ مذاهبهم أصبح يُطلق عليها اصطلاح الدين:
كالدين الكاثوليكي، والدين البروتستانتي [12] .