مجددون معاصرون
حسن البنا
رد على اعتراض
اتصل بنا عدد من الأخوة الأفاضل وقالوا ماذا تقولون عن بعض هؤلاء
العلماء المعاصرين الذين نعتموهم بالتجديد؟ … ألا ترون أنهم من مدارس مختلفة
لا يجمعها جامع، ولا يربط بينها رابط؟ ... هل تريدون إرضاء الناس كلهم مع أن
إرضائهم غاية لا تدرك؟ ! غفر الله لهؤلاء الأخوة الكرام! المشكلة أنهم من طلاب
العلم، وطالب العلم يحترم آراء الآخرين، ولا يتسرع في إصدار الأحكام أو التهم.
وكما وعدنا القراء، سوف نمضي في الحديث عن كوكبة من العلماء
المعاصرين الذين نفع الله بهم، وسنذكر الجوانب التجديدية لكل علم من الأعلام،
وفى الحلقة الأخيرة نجيب على أسئلة الذين اتصلوا بنا والذين لم يتصلوا بنا،
ونوضح انسجام ما نكتبه مع المنهج الذي التزمنا به في بداية هذا البحث. ومن حقنا
على إخواننا أن يقرأوا ما نكتبه بإمعان وتجرد! ! فإن وافقونا فخير وبركة، وإن
خالفونا فالمسألة من المسائل التي يجوز فيها الخلاف، نسأل الله أن يرزقنا وإخواننا
الصبر والتجرد، إنه سميع مجيب.
حسن البنا
لن نتحدث حديثاً تقليدياً عن ولادة حسن البنا -رحمه الله- وسيرة حياته،
فالرجل ليس مجهولاً، وهناك عشرات الكتب التي كتبت عنه، ناهيكم عن كتبه
التي لا تكاد تخلو منها مكتبة، وسوف نقسم الموضوع إلى دروس، محاولين
الاختصار قدر الاستطاعة:
الدرس الأول:
ولد حسن البنا -رحمه الله- عام 1906، وأسس جماعة الإخوان المسلمين
عام 1928، وقتله أعداء الله عام 1949، وهكذا تكون سني عمره عندما أسس
حركة الإخوان 22 عاماً وعندما توفاه الله 43 عاماً. وكان خلال هذه الفترة حديث
الناس في مصر كلها، وفى البلدان العربية، بل وفي العالم كله. ولم يكن -رحمه
الله- متفرغاً للعمل الإسلامي، فلقد كان مدرساً معظم النهار، وكان رب أسرة ينفق
عليها، ويرعى شؤونها، وكان مؤسس جماعة إسلامية كبيرة تنتشر شُعبها
ومراكزها في جميع أرجاء مصر.
إذا نظرنا إلى سيرة البنا وهو طالب صغير في أوائل المرحلة الإعدادية نجد
أنفسنا أمام طالب يختلف عن غيره من طلبة عصره، بل ومن طلبة هذا العصر …
ها هو يتحدث عن نفسه فيقول بأنه يقسم وقته (بين الدرس نهاراً، وتعلم صناعة
الساعات التي أغرم بها بعد الانصراف من المدرسة إلي صلاة العشاء، ويستذكر
الدروس بعد ذلك إلى النوم، ويحفظ حصته من القرآن الكريم بعد صلاة الصبح
حتى يذهب إلى المدرسة) . [مذكرات الدعوة والداعية /12] .
ننتقل من الحديث عن البنا وهو طالب في الإعدادية إلى الحديث عنه وهو
قائد جماعة: يخطط لها يربى جمهور شبابها ... يحاضر هنا وهناك.. يؤسس
الصحف والمجلات ويديرها.. وهو إلى جانب هذا وذاك مدرس في مدارس الدولة، وفى العطلة الصيفية هل كان يستجم مع عائلته في قرية هادئة ليس فيها صخب
ولا ضوضاء؟ ! هل كان يغادر مصر للسياحة والمتعة المشروعة؟ !
إن حياة المجدد لا تعرف إيثار العافية والراحة، لاسيما وهو يشعر بأن لأهل
الأرياف والمناطق النائية حقاً عليه وعلى إخوانه، فرحلة من رحلاته بدأت في 11
ربيع الثاني وانتهت في 9 جمادى الأولى من عام 1352 زار خلالها: أبو صوير
شرقية، الإسماعيلية، السويس، بور سعيد، الدقهلية بفروعها، طنطا، شبراخيت، المحمودية [بحيرة] ، دمنهور [بحيرة] ، شلنج [قليوبية] . [المذكرات/1154] .
ويقول أحد مرافقيه:
(كان يقطع الوجه القبلي كله بلداً بلداً، وقرية قرية في عشرين يوماً، في بعض الأحيان يصبح في بنى سويف، ويتغدى في ببا، ويمسي في الواسطي، ويبيت في الفيوم ... وهكذا كان ينام ساعة أو بعض ساعة، وفي الوقت الذي يضع فيه رأسه على الوسادة ينام ونحن نتحدث من حوله) .
[الإخوان المسلمون والمجتمع المصري/14] .
أليس في حياة هذا الرجل درس للكسالى الذين يقتلهم الفراغ ومع ذلك يتحدثون
عن ضيق الوقت؟ !
أو ليس في حياة هذا الداعية المجدد عبرة للذين يتباكون على واقع المسلمين
اليوم، ولا يقدمون للعمل الإسلامي إلا فضلات أوقاتهم؟ فالوظائف تستهلك معظم
أوقاتهم، والزوجة تستهلك بقية الوقت وهى لا تفتأ تردد (خيركم خيركم لأهله)
والمسكين يخلط بين فهم خاطئ للحديث وبين طاعة امرأة لا يرضيها في كثير من
الحالات إلا أن تستحوذ عليه وتحول بينه وبين الناس الطيبين، وبينه وبين الدعوة
والجهاد في سبيل الله.
أرأيتم كيف يبارك الله بأوقات العلماء المخلصين، فأولاد حسن البنا فيما كتبوه
قالوا: لقد بذل جهداً في تربيتنا، وكان يجلس معنا ويداعبنا، وشقيق البنا قال فيما
كتبه: لقد كان أستاذي وأخي. ولم ينس فضله عليه في تربيته وإعداده، ومما
يجدر ذكره أن حسن البنا كان النجل الأكبر لأبيه الشيخ عبد الرحمن البنا الشهير
بالساعاتي.
الدرس الثاني:
اتصل حسن البنا -رحمه الله- بعلماء عصره وسمع منهم وناقشهم، وكان
يعترف بفضلهم فيما كتبه من مذكرات.
وعندما أعلن الطاغية أتاتورك عن هدم الخلافة الإسلامية عام 1924، كان
عمر البنا 18 سنة وكان في أوج عطائه، يتحدثون عن هذه المصيبة التي رزئ بها
الإسلام والمسلمون، ويتنادون لعقد مؤتمرات وندوات - كعادتهم - يطالبون فيها
بعودة الخلافة ... وكان رشيد رضا في مجلته - المنار - ينادي بالجماعة والعمل
الجماعي، وأنه لا سبيل إلى مواجهة أعداء الإسلام إلا بوجود جماعة ... ومع ذلك
بقيت أفكار رشيد رضا نظرية، ولم ينجح أو بالأحرى لم يسع إلى تأسيس هذه
الجماعة.
ومن جهة أخرى فقد رافق هدم الخلافة انتشار الفساد والنشاط الصليبي الهدام
في مصر ... أشار البنا -رحمه الله- في مواضع مختلفة في مذكراته إلى هذه
الآفات) انظر إلى ما كتبه تحت عنوان: موجة الإلحاد والإباحية في مصر، ص
49، وما كتبه عن التبشير، ص147 من مذكراته) .
فكان الشيخ حسن البنا -رحمه الله- كالليث الجريح لا يهداً ولا يستقر ...
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتصل بالعلماء ويكتب إلى المسؤولين ...
أنظر إلى لقائه مع الشيخ يوسف الدجوي [علم من أعلام الصوفية وخصم من كبار
خصوم الدعوة السلفية] ، تحدث -رحمه الله- عن هذا اللقاء بأدب ولكنه أوضح
مقصده، فصور لنا أن الشيخ كان يائساً:
(وانتهى ذلك كله إلى أنه لا فائدة من كل الجهود ... وأوصاني أن أعمل
بقدر الاستطاعة، وأدع النتائج لله، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) .
ويصور لنا مشهداً آخر في هذه المقابلة يوم أن قدم الشيخ محمد سعد حلويات
رمضان، وتعمد البنا أن يجلس إلى جانب الشيخ الدجوي، وأخذ الدجوي حلوى
وقدمها إلى البنا ليأكلها فرفض الأخير تناولها وقال. (لو كانت رغبتي بهذه النقل
وأمثاله لاستطعت أن أشتري بقرش وأظل في منزلي ولا أتكلف مشقة زيارتكم)
وانطلق يتحدث عن الفساد والإلحاد وواجب العلماء.
وإذا كان الشيخ الكبير الدجوي يائساً فالمجدد لا ييأس ولا يتراجع.. أنظر إليه
يقول: (لم يعجبني طبعا هذا القول) .... وأمام إصرار البنا أمر الدجوي برفع
الحلوى دون أن يتناولوا منها شيئا، واتفقوا على عقد اجتماع يضم نخبة من العلماء، وتم ذلك، وأسفرت هذه اللقاءات عن ظهور مجلة الفتح التي كان يرأس تحريرها
محب الدين الخطيب. [المذكرات/151] .
كانت أجواء ومجالس أمثال هذا الشيخ لا تسمح لشاب صغير أن يخاطب
الشيخ بهذا الأسلوب. قال البنا: (وكنت أتكلم في حماسة وتأثر وشدة، من قلب
محترق مكلوم، فانبرى بعض العلماء الجالسين يرد علي في قسوة كذلك، ويتهمني
بأنني أسأت إلى الشيخ وخاطبته بما لا يليق، وأسأت إلى العلماء والأزهر، وأسأت
بذلك إلى الإسلام القوي العزيز، والإسلام لا يضعف أبداً والله تكفل بنصره)
[المذكرات/52] .
وكان- رحمه الله -يعلم أن هذه الجهود ستبقى ضعيفة جزئية لأسباب لا تغيب
عن ذهن ألمعي مثله، وليس هذا الذي يتطلع إليه المجددون، إذن لابد من عمل
جماعي شامل ... وعرف البنا العمل الجماعي مذ كان طالبا في الإعدادية، فلقد كان
رئيس إدارة (جمعية الأخلاق الأدبية) وكان لهذه الجمعية نظام داخلي ... ثم أسس
بعد حين (جمعية منع المحرمات) وكان مع زملائه يرسلون رسائل للعصاة
والمقصرين يأمرونهم فيها بالمعروف وينهونهم عن المنكر، وكان عمره آنذاك ثلاثة
عشر عاماً.
وانتسب إلى الطريقة الحصافية، وكان عمره أربعة عشر عاما، وبايع شيخ
الطريقة وأسس مع أحمد السكري (جمعية الحصافية الخيرية) ، وكانت مهمتها نشر
الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات، ثم تخلى عن الطريقة والجمعية
عندما أدرك أن حاجة المسلمين أكبر من ذلك بكثير.
وفى القاهرة - وكان عمره ستة عشر عاما - انتسب إلى (جمعية مكارم
الأخلاق الإسلامية) ، وإلى (جمعية الشبان المسلمين) . قال -رحمه الله-: (وأذكر أنني كتبت تواً إلى عبد الحميد بك سعيد معلناً اشتراكي بالجمعية، وواظبت
على دفع الاشتراك ... ) .
وكان الدافع إلى انتسابه إلى هذه الجمعيات كلها رغبته في الإصلاح،
وشعوره بأهمية العمل في جماعة، ولعل هذه الجماعات كانت تتناسب مع وعيه في
تلك المرحلة غير أنه يكتشف بعد قليل أن دورها جزئي محدود، وإذن لابد من
جماعة تتسم بالشمولية، ولهذا أسس جماعة الإخوان المسلمين عام1928، وحدد
فقرات هذا المنهاج في النقاط التالية:
1-نريد أولاً الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي
عمله وفي تصرفه. فهذا هو تكويننا الفردي.
2- ونريد البيت المسلم ... ونحن لهذا نعنى بالمرأة، ونعنى بالطفولة.
3- ونريد بعد ذلك الشعب المسلم في ذلك كله.
4- ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة التي تقود هذا الشعب إلى المسجد ...
ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل
الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها، وسنعمل على إحياء نظام الحكم
الإسلامي بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام.
5- ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي.
6-ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خافقة عالية على تلك البقاع التي سعدت
بالإسلام حيناً من الدهر.
7-ونريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم ... وأن نعمم بها آفاق
الأرض، وأن نخضع لها كل جبار.
ثم يقول: بأن ناساً سيقولون هذا خيال وأوهام. وذلك هو الوهن الذي قذف
في قلوب هذه الأمة، فمكن لأعدائها فيها ... ثم قال: وإنما نعلن في وضوح
وصراحة أن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج ولا يعمل لتحقيقه لا حظ له في
الإسلام [1] فليبحث له عن فكرة أخرى يدين بها ويعمل لها.
وليس في الطريقة الحصافية في جمعية الشباب المسلمين أو في جمعية مكارم
الأخلاق مثل هذه الأهداف التي رسمها البنا -رحمه الله- لجماعته.
الدرس الثالث:
عندما قطع البنا مراحل مهمة في بناء جماعته، وعندما توسعت هذه الجماعة
وعظم شأنها في مصر، وكثر أتباعها، كان لابد أن يضع لها منهجاً علمياً تتربى
عليه، ولهذا فقد طلب من الشيخ (سيد سابق) - وكان من كبار العاملين في هذه
الجماعة - أن يقوم بتأليف كتاب في الفقه، واتفق معه على سمات هذا الكتاب،
فقام سيد سابق بتأليف كتاب (فقه السنة) ، وكتب الشيخ حسن البنا تقدمته، وأصبح
مقرراً في منهج الجماعة.
وكان الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - كما عودنا - منصفا عندما عدَّ
تأليف وتدريس هذا الكتاب مكرمة من مكارم البنا رحمه الله، لاسيما وقد جاء هذا
الحدث في وقت كانت تهيمن الصوفية والمذهبية على أجواء العلماء والمعاهد
والجماعات الإسلامية في مصر، ووجد هذا الكتاب والحمد لله رواجا واسعا وطبع
طبعات كثيرة، وفى هذا دليل على أن المستقبل للسنة وليس للتقليد، وللتعصب
المذهبي المذموم.
وأراد رحمه الله تربية أتباعه على التمسك بالكتاب والسنة، وحذرهم من
البدع والجمود والخرافات، ومن تقديس أقوال الرجال وتقديمها على الكتاب والسنة، قال رحمه الله:
(وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل
ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله
وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص - فيما اختلف فيه - بطعن
أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا) . [رسالة التعاليم] .
ولاشك أن كلاً يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم،
والبنا رحمه الله بلباقته وحسن تعبيره، يصور لنا بشكل آخر تجربته مع الطرق
وشيوخ الصوفية، ومن غير شك كان يحزن من شدة تقديس الأتباع والمريدين
لشيوخهم، انظر إليه وهو يحدثنا عن أتباع الشيخ الدجوي كيف ردوا عليه بقسوة
لأنه خاطب الشيخ بما لا يليق ... وبإساءته للشيخ أساء للعلماء والأزهر والإسلام ... والبنا أراد من الشيخ أن ينهض لمحاربة الفساد والإلحاد في مصر فكيف أساء
للإسلام؟ ! .
وهؤلاء تربوا على أن شيخهم لا يقول إلا الحق، وهو ظل الله في الأرض،
وأوامره ونواهيه دين لا يجوز مخالفتها أو الخروج عليها! ! والبنا لا يريد هذه
التربية المنحرفة.
لا يريد أن يكون بين أتباعه كما كان الدجوي بين أتباعه، ولهذا علمهم وأكد
في رسالة التعاليم بأنه ليس معصوماً، ويجب أن لا يقبلوا من كلامه إلا ما كان
موافقاً للكتاب والسنة، ومن خالف ذلك فقد أساء للبنا ودعوته.
الدرس الرابع:
واجهته كما واجهت غيره من المجددين صعوبات كثيرة، وتحديات جمة، فما
تراجع، ولا ضعف، ولا قبل الدنية في دينه ودعوته.
- حاربه المستعمرون الإنجليز بوسائلهم المعروفة.
- وحاربه فاروق وزبانيته، وهم الذين دبروا محاولة اغتياله.
- وحاربه حزب الوفد بإمكاناتهم الضخمة، وشنوا عليه حملة إعلامية كاذبة
ظالمة، وكانت صحفهم تخرج كل يوم وفيها تشهير هابط بحسن البنا وأهدافه
ونواياه، والناس يتأثرون بالإعلام، وكان قادة حزب الوفد مزيجا من العلمانيين
والأقباط.
- وحاربته بقية الأحزاب الأخرى بوسائل لا تختلف عن الوسائل التي
استخدمها حزب الوفد.
- وحاربه شيوخ السلطة لأن أسيادهم - فاروق والوفد - حاربوا البنا، ولأن
الناس التفوا حول البنا، وانفضوا من حولهم وتناقص عدد الذين يقبلون أيديهم.
- وحاربه ضعاف النفوس من رفاق دربه الذين لم يجدوا عنده ما كانوا
ينتظرون من أطماع، فتخلوا عنه، وانضموا إلى حزب الوفد، واستخدمهم الحزب
في حملته الإعلامية الفاجرة ضد حسن البنا.
وكان الرجل يتوقع مثل هذه المعوقات، وتنبأ بها منذ بداية الطريق، وكان قد
وضع لها الحلول الناجعة ... ومن هنا نخرج بفائدتين:
الأولى:
هذه الأحزاب الجاهلية كالوفد والبعث وغيرهما ليس فيها خير ولا أمانة،
وقادتهم يعلمون أن أهواءهم تتعارض مع تعاليم الإسلام وأهدافه، فقد يصدقون في
تحالفهم مع الشيوعية والصليبية والاستعمار الغربي والباطنية أما مع الإسلام
فيستحيل، والله سبحانه وتعالى حذرنا منهم بقوله: [ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ] [هود: 113]
وقال: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ
ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ…] [المجادلة: 22]
الثانية:
يظن بعض السذج أو المهزومين أنه من الممكن أن تقوم دعوة لها أهداف نبيلة، وأن تتسع هذه الدعوة وتحقق أهدافها دون أن تواجهها تحديات وافتراءات وأباطيل، أو قد يتحدثون عن الصعوبات، لكن حديثهم يبقى نظرياً، فإذا أصبحت التحديات
حقيقة، ضعفوا وارتبكوا واضطربوا، وفي حالة الاضطراب والضعف ينحون
باللائمة على أفراد منهم لأنهم سبب هذا البلاء ... ليت هؤلاء يدرسون في كتاب الله
وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- سنن الله في ابتلاء الدعاة والجماعات
الإسلامية… ليتهم يطيلون التأمل في قراءة وتدبر معاني قوله تعالى:
[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ
البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا
إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: 214] .
وقوله:
[الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ * ولَقَدْ فَتَنَّا
الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] [العنكبوت: 1-3] .
لقد اشترى الإنكليز وفاروق والأحزاب ذمم بعض كبار الأدباء والمفكرين،
وكتب أحدهم ذات مرة يقول بأن حسن البنا من أصول يهودية، ودليله على ذلك أنه
يعمل في تصليح الساعات وهذه الصناعة يحتكرها اليهود ... ولسنا في صدد الرد
على أقوال هذا المفتري، ولكن نشير إلى أن مثل هذا القول اتهم به الرافضة ومن
يدور في فلكهم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومن قبل اتهم
المشركون والمنافقون واليهود رسول الله وأهل بيته وأصحابه صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه وسلم بمختلف الاتهامات الشنيعة الباطلة.
وقصارى القول مضى خصوم البنا ... مضى فاروق وإذا ذُكِرْ تذكر انحرافاته
وفساده، وسوء حاشيته ... ومضى الإنكليز وأعوان الإنكليز غير مأسوف عليهم ... ومضى قادة الأحزاب الجاهلية بأوزارهم، وبقى ذكر حسن البنا الطيب العطر
ليس في مصر وحدها بل في العالم كله [فَأَمَّا الزَّبَدُ فيذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فيمْكُثُ] [الرعد/17] .