أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
ليس من العقلانية ولا من الأمانة نسيان المشكلات الكبرى لدى الغرب في
خضم الدعوة للاقتداء به والسير على منواله
الانفراط العظيم: اسم كتاب جديد لعالم الاجتماع والمفكر الأمريكي فرانسيس
فوكوياما [1] الذي كان قد ذاع صيته بعد أن أصدر كتابه: (نهاية التاريخ) الذي كان
قد زعم فيه أن النظام الغربي: الليبرالي في السياسة، والرأسمالي في الاقتصاد هما
وحدهما النظامان اللذان يتناسبان مع الفطرة الإنسانية؛ لأنهما اللذان يحققان ما في
تلك الفطرة من نشْدَانٍ للكرامة؛ فهما يمثلان لذلك نهاية التاريخ في هذا المجال،
أعني مجال النظم السياسية والاقتصادية، وأن هذا هو الذي يفسر سير العالم كله
نحوهما [2] . لكن فوكوياما كتب في هذا العام - بعد عشر سنوات من صدور كتابه
ذاك - مقالاً تراجع فيه عن تلك الفكرة، وعزا تراجعه إلى أن فكرة الكتاب كانت
قائمة على افتراض الثبات في الفطرة الإنسانية، وأن تتبعه للتطورات التي حدثت
في علم الأحياء في هذه السنوات العشر، ولا سيما في مجال هندسة الجينات،
أقنعته بأن العلم الطبيعي يمكن أن يغير الطبيعة البشرية! وإذا كانت الطبيعة
البشرية متغيرة فإن النظم السياسية والاقتصادية المناسبة لها ستكون أيضاً متغيرة.
ولا يدري المرء: أيعجب أكثر من فكرة الكتاب الأولى، أم من السبب الذي دعاه
للتراجع عنها؟
أما في هذا الكتاب الجديد فإن الكاتب يناقش قضية من أخطر القضايا التي لا
تقتصر أهميتها على المجتمعات الغربية التي هي موضوع الكتاب؛ بل تهم أو
ينبغي أن تهم كل المعنيين بقضايا القيم الخلقية، وصلتها بالفطرة، وبما يحدث في
المجتمع من تغيرات تقنية. إن دعاة التغريب في بلادنا ينظرون إلى الغرب نظرة
مثالية تغض الطرف عن كل ما يحدث فيه من مشكلات؛ لأنهم يخشون أن تكون
معرفة تلك المشكلات صادة للناس عن السير في طريقه الذي هو مبتغاهم. وهذا -
كما ترى - ليس من العقلانية، بل ولا من الأمانة في شيء. إن غاية المواطن
الأمين ينبغي أن تكون السعي لمصلحة بلده. والسعي للمصلحة يدخل فيه التحذير
من الطرق التي تؤدي إلى الضرر؛ لكن إذا كان المستغربون عندنا يحاولون إخفاء
هذه الحقائق، فما هكذا يفعل عقلاء المفكرين الغربيين الحريصين على مصالح
مجتمعاتهم وأقوامهم.
إننا في العالم الإسلامي - كما هو الحال في بقية العالم - نسير في طريق
الغرب في كثير من نواحي حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء بضغط
من الغرب نفسه، أو بتشجيع من أولئك المستغربين المبهورين به، أو لأسباب
أخرى. فالاهتمام بما يحدث في الغرب من مشكلات هو إذن اهتمام بمستقبلنا؛
لأن مشكلات الغرب الآنية هي مشكلاتنا المستقبلية إذا ظللنا نسير في طريقه غير
معتبرين بمزالقه.
وإذا أردنا الاعتبار فإن مما يساعدنا عليه كثيراً هو الحقائق التي ينشرها
علماء الغرب ومفكروه أنفسهم. لكن استفادتنا من الحقائق لا تعني بالضرورة قبولنا
لتفسيراتهم لها، ولا للحلول التي يقترحونها. نعم! قد نستفيد من تفسيراتهم ومن
حلولهم؛ لكن يجب أن نفكر لأنفسنا فنجتهد في التفسير والحل مسترشدين بديننا
ومعتبرين بما حدث لنا ولغيرنا في تاريخهم وتاريخنا، والكتاب الذي بين أيدينا من
الكتب النافعة في هذا المجال.
يبدأ الكتاب بإعطائنا ملخصاً للحقائق الإحصائية لما أسماه بالانفراط العظيم في
مجال القيم الخلقية فيقول:
ازدياد في الجريمة وفي تفكك النظام الاجتماعي جعل أواسط المدن في أغنى
البلاد على وجه الأرض أماكن لا تكاد سكن. التدهور في علاقات القربى
باعتبارها مؤسسة اجتماعية ظلت قائمة منذ أكثر من مئتي عام [3] ازداد زيادة
كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين في كل البلدان الغربية الصناعية.
انحط معدل الإنجاب في معظم الدول الأوروبية وفي اليابان إلى درجة من الدنو
يجعلها عرضة لتناقص عدد سكانها في القرن القادم إذا لم تكن هنالك هجرة إليها،
قلَّ الزواج وقلَّ الإنجاب، وتفاقمت معدلات الطلاق، بلغت نسبة الأولاد غير
الشرعيين الثلث في الولايات المتحدة والنصف في الدول الاسكندنافية. وأخيراً فإن
الثقة في المؤسسات ظلت تتناقص تناقصاً كبيراً لمدة أربعين عاماً. في الخمسينات
عبَّر أغلبية الناس في الولايات المتحدة وفي أوروبا عن ثقتهم في حكوماتهم وفي
زملائهم؛ لكن أقلية ضئيلة هي التي عبَّرت عن مثل هذه الثقة في التسعينات.
تغيرت اهتمامات الناس بشؤون بعضهم بعضاً، ومع أنه لا يوجد دليل على تناقص
في الصلات بين الناس؛ إلا أن العلاقات بينهم صارت أقل دوماً، وأقل جاذبية،
ومع عدد أقل من الناس [4] .
يقول الكاتب: إن هذا التدهور في العلاقات الاجتماعية في هذه البلدان الغربية
الصناعية في الفترة ما بين أواسط الستينات إلى أوائل التسعينات كان مواكباً لانتقالٍ
في هذه البلاد من العصر الصناعي إلى العصر الذي سمي بما بعد الصناعي تارة،
وبعصر المعلومات أخرى.
فهل هناك من علاقة سببية بين ذلك التدهور وهذا التطور؟
يجيب بأنه يفترض هذا، ويقول: إن تدهوراً كهذا أعقب الثورة الصناعية في
الغرب.
ما الحل إذن؟ يجيب بأنه ليس في الدين كما يظن المحافظون.
فِيمَ إذن؟ هنا يعود الكاتب إلى فكرة الفطرة البشرية، فيقول: إن البشر هم
بطبعهم مخلوقات اجتماعية تهديهم أعظم نوازعهم وغرائزهم أصالة إلى أن يُنشِئوا
قواعد خلقية تربط بينهم فتحيلهم إلى مجتمعات. وهم كذلك عقلاء، وعقلانيتهم
تجعلهم يُحْدِثون طرقاً للتعاون التلقائي بينهم.
سنكتفي الآن بهذا التلخيص لفكرة الكتاب، ثم نعود لمناقشته في حلقات قادمة
بإذن الله.
لكن يحسن أن نبدأ قبل ذلك ببيان السبب الذي يدعو أمثال هؤلاء الكتاب
الاجتماعيين إلى العناية بقضايا القيم الخلقية الآن. لقد كان الرأي الشائع عند أمثال
هؤلاء العلماء، والذي ما زال كذلك عند عامة المثقفين الغربيين، أن القيم أمور
نسبية، وأنها تختلف لذلك من ثقافة إلى أخرى، ومن زمان إلى زمان. وأن كلاً
منها مقبول في إطار الثقافة التي توجد فيها، والزمان أو المكان الذي توجد فيه؛ فلا
مجال إذن للحكم عليها بالخيرية أو الشرية، ولا خوف إذن من تغيرها وتبدلها. ثم
إنه تبين لبعض علماء الاجتماع والاقتصاد أن الصورة ليست كما يرسمها هذا الرأي
الشائع؛ بل إن هنالك قيماً لا بد منها لكل مجتمع بشري. لماذا؟ لأن الناس إذا
اجتمعوا فإنما يجتمعون ليتعاونوا على تحقيق مصالحهم؛ لكن هذا التعاون لا يتأتى
إلا بالتزام المجتمع ببعض القيم الخلقية: قيم الصدق في القول، والوفاء بالعهد،
وحسن تبادل المنافع، وتوفر الثقة التي يقول فوكوياما عنها: إنها بمثابة الشحم
الذي يجعل عجلة التجمعات والمنظمات البشرية تجري بطريقة أكثر كفاءة؛ فالقيم
هذه ليست - إذن - أموراً نسبية ولا (مجرد قيود تحكمية على الاختيارات الفردية؛ بل هي شرط سابق لأي عمل تحكمي)
إنه لا بد لكل مجتمع من نظام سياسي ونظام اقتصادي، لكن النظم السياسية
والاقتصادية لا تعمل ولا تنجح إلا في مجتمع متماسك. ولكي يتماسك المجتمع فإنه
بحاجة إلى تلك القيم التي صار الاقتصاديون وعلماء الاجتماع يطلقون عليها اسم:
الرأسمال الاجتماعي.