وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من الأدواء الفكرية المنتشرة عند كثير من الناس: ضيق الأفق، والنظر إلى
المسائل المختلفة بسطحية مفرطة؛ فكم ينقبض صدر المرء حينما يرى من بعض
الناس أن القضايا المصيرية العظيمة في مسيرة الأمة تؤخذ بعين الغفلة والسذاجة
وقلة الفهم والبصيرة!
ومن أبرز أسباب ضيق الأفق:
1 - الجهل وقلَّة البضاعة؛ فكم جرَّ الجهل على أصحابه من المهالك والمفاسد! والجهل دركات بعضها أسوأ من بعض، وكلما ازداد المرء جهلاً ازداد تهالكاً
وانحرافاً، وهل رأيت جاهلاً يقوى على إدراك حقائق الأشياء ومقاصدها، أو يقدر
على قراءة الواقع واستشراف المستقبل؟ ! !
2 - قلة الفهم والوعي؛ وهما أمران زائدان على مجرَّد الجهل، فرب
صاحب علْمٍ لا يفيده علمه كبيرَ فائدةٍ بسبب ضعف فهمه وعسر إدراكه؛ لأنَّه وقف
عند حروف الألفاظ، ولم ينفذ إلى معانيها ومراميها. والفهم بضاعة نادرة لا يؤتاها
إلا أصحاب العقل الراسخ والبصر النافذ. وصاحب الفهم يفتح الله عليه من إدراك
النصوص والوقائع ما لا يخطر على بال غيره. قال ابن القيم - رحمه الله -: ...
(ربّ شخص يفهم من النص حكماً أو حكميْن، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين) [1] .
3 - الرتابة في التفكير ورؤية المسائل، والاعتماد على المألوف المعتاد فقط، وهذا بالتأكيد يجعل الإنسان أسيراً في بيت مغلق، كما يجعله في عزلة فكرية
يحبس فيها عقله، فلا يقوى على النظر والإبداع والتجديد.
4 - التقليد الأعمى الذي يسد منافذ التفكير، ويجعل المرء مجرد تابع لغيره،
فلا يستطيع أن يبني رأيه وفكره بناءً صحياً متجرداً؛ ولهذا تجد أنَّ المقلد لشيخ أو
لمذهب أو لطائفة من أكثر الناس ضيقاً في الأفق؛ وذلك لأنه لم ينظر إلا من نافذة
واحدة، ولم يفكر إلا من زاوية محدودة، وتراه يتنقل بين سراديب ضيقة تنتهي به
أخيراً إلى بلادة ذهنية تعصف بتفكيره وتجعله أحياناً يقتنع بالشيء ونقيضه في آن
واحد..!
5 - الاكتفاء بالنظر إلى ظواهر الأمور المجردة، والتعلق بقشورها القريبة،
دون النفاذ إلى أعماقها، أو النظر إلى أبعادها ومقاصدها، ويؤدي ذلك إلى الاغترار
بالشكل والبهرج على حساب الحقائق والمضامين، مما يحجب الرؤية بغمامة معتمة
تطغى على البصيرة، وكم من الأشياء من حولنا نراها في مظهرها الخارجي رؤية
معينة؛ ولكننا إذا تجاوزنا ذلك إلى دواخلها، وأزلنا القشرة الرقيقة التي تحيط بها
تبينت لنا صورة أخرى مختلفة وبعيدة كل البعد عن الصورة الأولى.
وانظر إلى صفة المنافقين في القرآن: [وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن
يقولوا تسمع لقولهم ... ] [المنافقون: 4] ، فهل تكفي هذه الصفة الظاهرية
لأجسامهم وأقوالهم في إعطاء تصور صحيح متكامل عن هؤلاء القوم؟ ! بالتأكيد لا
تكفي؛ فالقرآن يوضح حقيقة هذا المظهر: [ ... هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى
يؤفكون] [المنافقون: 4] .
ونظير ذلك أيضاً: الاغترار بالكم على حساب الكيف، وانظر مثلاً إلى قول
الله تعالى: [ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا] [التوبة: 25] ،
ثم قارن ذلك بقوله تعالى: [إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين]
[الأنفال: 65] ، ويتضح من ذلك أن معاني الأمور ومقاصدها الصحيحة تتجلى
في حقائقها ومعادنها الأصيلة.
وليس المقصود هنا أن الشكل الظاهري أو الكم مرفوضان كلية؛ ولكن
المقصود التحذير من الاكتفاء بهما، أو الوقوف عند حدودهما فحسب.
6 - النظرة الجزئية الضيقة التي تختزل المسائل الكبيرة إلى إطار محدود
صغير، مما يؤدي - بالتأكيد - إلى تكوُّن تصور هزيل مبتور لا يمثل إلا جزءاً
يسيراً من الحقيقة؛ بل قد يؤدي هذا التصور إلى تشويه الحقيقة بسبب نقصها
وافتقارها للنظرة الشمولية المتكاملة.
7 - الخلط في تقدير المصالح والمفاسد، والجهل في ترتيب الأولويات، مما
قد يؤدي إلى التعلق بالمصلحة القريبة العاجلة، وإن ترتب عليها مفاسد كبيرة في
العاجل أو الآجل، أو يؤدي إلى تقديم المصالح المفضولة على حساب المصالح
الفاضلة.