مجله البيان (صفحة 3158)

البيان الأدبي

وظيفة الشعر

عبد العزيز بن صالح العسكر

ما الذي يستحق التسمية بالشعر: الشكل (الوزن والقافية) فقط، أم المعنى فقط أم ما اجتمع فيه الأمران؟ سؤال يدور في ذهن كل أديب، بل كل دارس للأدب، كما يرد في أذهان غيرهم من الناس.

وباستقراء بعض ما قاله شعراء العربية قديما وحديثاً نجد الإجابات المختلفة

على هذا السؤال، ونشير إلى عدد منها لعل فيها ما يضيف جديدا إلى ثقافتنا الأدبية، ...

أو يصحح فهما خاطئاً لدى بعض الدارسين ...

ويأتي في مقدمة تلك الإجابات هذان البيتان:

وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسا وإن حمقا

وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا [1]

هذا ما قاله حسان بن ثابت - رضي الله عنه -، وحسان هنا يرى أن الشعر

هو عقل صاحبه! يعرضه على الناس، وليس هو الألفاظ، والقوالب الشعرية فقط؟

فالشعر - في نظره - مقياس لعقل صاحبه، فإما أن يكون كبير العقل سليم الفكر، وإما أن يكون أحمق، مضطرب العقل والفكر، وللناس أن يقولوا كلمة الفصل؟ فإن أعجبهم الشعر وهزهم لفظا ومعنى قالوا: لقد صدق، وإلا.. فلا!

وحسان هو شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرن الأول من

المسلمين.

وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا عمر بهاء الدين الأميري [2] يرى أن

الشعر شيء آخر سوى الأوزان والقوافي والألفاظ.. إنه يرى أن الشعر: مشاعر

وأخلاق وتاريخ، وهو عنده باختصار: حياة كاملة الجوانب مستوفية لمطالب:

الروح، والعقل، والجسد. وفي اثنين وعشرين بيتا من الشعر يصف شاعرنا

شعره، ويكشف النقاب عن ماهيته وحقيقته. واقرأ من ذلك قوله:

أيها القارئون رفقا بشعري ... إن شعري مشاعر منظومة

إنه أنة من الصدر حرى ... وأسى من حشاشة مكلومة

إنه فطرة إلى المجد ترنو ... والى العلم والحجا منهومة

إنه ثورة على كل بغي ... وانتصار لأمة مظلومة

إنه آية المروءة أذكتها ... بنفسي أبوة وأمومة

إنه وقدة الغريزة في جسمي ... وفيض من نزوة مكتومة

ثم يقول بعد ذلك:

أيها القارئون! شعري مرايا ... لسجايا صغيرة وكبيرة

هو رفق، وشدة، وصلاة ... وذنوب، وخشية وعزيمة

هو حلمي ويقظتي، هو لحن ... صادق، من رؤى المنى الموهومة

هو روحي، أو بعض إشراق روحي ... هو نفسي مجهولة معلومة

من يشأ نقده فلا ضير؛ لكن ... هو قلبي، فمن يرى تحطيمه؟ ! [3]

ويعيب صديق له شعره بأنه سهل مرقرق فيجيبه شاعرنا بقوله:

ليس شعري لفظا وسبكا وجرسا ... بل شعورا فيه التعابير تغرق

خفقة من حشاشة القلب حرى ... كيف يا صاحبي الوجيب يزوق؟ !

زفرات ولوعة ونشيج ... كيف يا صاحبي النحيب ينمَّق [4] ؟ !

أما الدكتور يوسف القرضاوي [5] فيرى أن الشعر: هو الدمع حين الأسى،

والعود حين العزف؛ وليس العزف للغناء، بل التعبير الصادق في موقف الجرأة

والشجاعة، وهو مع ذلك فيض خواطر الشاعر تحركها أقدار الحياة من نعماء

وبأساء ورخاء وشدة:

ثار القريض بخاطري فدعوني ... أفضي لكم بفجائعي وشجوني

فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى ... والشعر عودي يوم عزف لحوني [6]

وحينما يغفل أقوام عن معرفة رسالة الشعر، ويخطئ تصورهم لها، يصبح

الشعر بضاعة تباع وتشترى، أو نقودا تدفع للحصول على مكسب أو غنيمة بغض

النظر عن الصدق في القول أو عدمه!

يقول القرضاوي:

فكم سافح قد لقبوه بفاتح وكم مسرف سموه ذا الكرم الرحب

وكم فاجر باغ مشوا في ركابه وسموه ليثاً وهو أدنأ من كلب

إذا كان هذا ديدن الشعر في الورى فما هو إلا السم في المشرب العذب

وثلة سوء ظنت الشعر معدنا يصاغ بجهد كالنحاس وكالصلب

فجاؤوا به وزنا أجف من الصفا وأثقل من هجر على مهجة الصب

وشرذمة أخرى سبى اليأس قلبهم ولليأس جند كم يميت وكم يسبي!

إذا عرضوا للشعب قال: قنوطهم عليل قد استعصى على نطس الطب

نسوا ما به من مكرمات كوامن كمون اللظى في الفحم والتبر في الترب

وأيا كان الغرض من أغراض الشعر فيجب أن لا ينسى الشاعر أن له رسالة، وللشعر مهمة، فلا ينشغل بالعرض عن الجوهر، فالغزل من أغراض الشعر

العربي؛ ولكنه في نظر الشاعر مرتبط تماما بدين المرء وعقله، فلا يقول الغزل

لذاته فقط:

وطائفة أخرى أطاعوا هواهم ... فجازوا إلى اللذات دربا إلى درب

يقولون: ليس المرء إلا فؤاده ... وكيف يعيش المرء جسما بلا قلب؟

فغاصوا به في الغيد والحب والهوى كأن لم يكن في القلب معنى سوى الحب إذا لم يكن في القلب دين وهمة ... وبغض لطغيان فما هو بالقلب

وقفتك يا شعري على الحق وحده ... فإن لم أنل إلاه قلت لهم: حسبي [7]

ويرى الشيخ عبد الله بن إدريس [8] أن الشعر هو: فيض العواطف،

ونبض المشاعر، وهمس الخواطر، وهو كذلك دمعة البائس، وأنة الموجع، وآهة

العاثر.. وما دام الشعر كذلك فهو من العقول وإلى العقول.. ولا يحسن بالعاقل أن

يجعل شعره مطية لشهواته وهواه:

الشعر تبعثه العواطف، والعواطف لن تغل

الشعر نبض مشاعر خلجاتها.. تحكي الشغل

الشعر همس خواطر تغزو المسامع والمقل

والشعر دمعة بائس ضاقت به كل السبل

والشعر أنة موجع قعدت به سود العلل

والشعر آهة عاثر غمر التعاسة بالأمل

الشعر للعقل الحصيف إذا استنار إذا اعتدل

فاصدح برأيك يا بطل فوق الوهاد أو القلل

واربأ بنفسك أن تذل وإذا اعتدلت فلا تسل [9]

ويؤكد الشيخ عبد الله بن خميس [10] أن الشعر سلاح من أسلحة الأمة - كما

كانت تعده كذلك العرب في جاهليتها وإسلامها - وما دام كذلك فلا يحسن بشعراء

الأمة أن يشغلوا بالغزل والهيام بالغيد، وأعداؤهم يحتلون البلاد ويقتلون العباد؟

استمع إليه يقول:

فليحرم الشعر من وجد ومن غزل ... وفي (فلسطين) شذاذ الصعاليك

سلي القوافي بنت القدس في حرد ... لا تسألي غيرها عمن أضاعوك

واستصرخي مهرجان الشعر يبعثها ... شعواء من طغمة الأوباش تعديك [11]

وحينما نادى قوم بأن الشعر فن و (الفن للفن) ؛ فهو في نظرهم مناجاة نفسية

تقتصر على تصوير خواطر الشاعر وأحاسيسه، يحلق بها في الخيال ويسبح في

بحور بعيدة العمق ولا ينزل من برجه العاجي ليشارك المجتمع آلامه وآماله.. رد

عليهم شاعرنا بقوله:

قد رأى الشعر نفسه في انطواء ... ومع الدهر لا محالة ذاهب

من ينادي في عصرنا الفن للفن ... غرورا، فمدعي الشعر كاذب

خلق الفن للحياة ولولا ... ذاك ما عز من (شكسبير) جانب

ولما اهتزت الأكف لشوقي ... حين يبدو مهنئا أو معاتب

وقديما (أعشى حنيفة) يحبى ... حمر النعم من قريش الغوالب

فلماذا نرى الميوعة في الشعر ... وفي الحب منه ضربة لازب

وهو في سنة الحياة ذلول ... قابل نسجه لشتى المذاهب

فهو في الحرب جحفل صيغ منه ... للمعادي قنابل في قوالب

وهو في السلم للحياة طبيب ... عبقري يجس نبض الضوارب [12]

وحينما لطم الشاعر عبد الرحيم نصار قصيدته (سنوات حزن فلسطينية) التي

نشرت في عام 1391 هـ وهي من الشعر الحر رد عليه ابن خميس بقصيدة منها:

ما أنصفتك قوافي الشعر يا دار ... وفيك للملهم المنطيق أسرار

ضنوا عليك بأوزان وتقفية ... يشتارها مثل أري النحل مشتار

وأركبوا الشعر إما قصروا شططا ... وبعضهم عن ثمين الشعر قمتار

دعوه حرا ويا للناس من زمن ... قال المخفون وزنا نحن أحرار

حرية ظلموها واسمها لغة ... فوضى وسيان شاؤوا الحق أم جاروا

لأنها بدعة التقليد نافقة ... قالوا فقلنا وسرنا حيثما ساروا [13]

وفي هذه الأبيات يبين الشاعر أن (الشعر الحر) لا يعد شعرا ولكن الشعر في

نظره ماله وزن وقافية صحيحان.. وهذا ما يتفق عليه أئمة اللغة العربية في القديم

والحديث.

ومما سبق يتبين لنا أن الشعر هو حديث الشعور، يقول ابن رشيق: (وإنما

سمي الشاعر شاعراً، لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره) [14] . ولا شك أن للشعر

العربي الأصيل مهمة ووظيفة في الحياة، كما أن لفنون الأدب، وفنون القول بعامة

وظائف يؤديها كل فن في حياة الناس.

ومهمة الشعر التي يراها عدد من الأدباء والنقاد هي: تهذيب السلوك، وإمتاع

المشاعر ونشر السرور في نفوس الناس من قراء وسامعين؛ وصدق من قال:

إذا الشعر لم يهززك عند سماعه ... فليس خليقا أن يقال له شعر

وإلى جانب ذلك هناك وظائف أخرى للشعر منها: نقد بعض المظاهر في

المجتمع، والإشادة بالفضائل، والتحذير من الرذائل، ومنها كذلك: تقويم اللسان

وتربية الملكات والمواهب لدى الناشئين من الشباب، وقد بسط ذلك علماء اللغة

والأدب في كتبهم ومؤلفاتهم. وتبعا لالتزام الشاعر بتحديد مهمة لشعره، واقتناعه

بها، ترتفع منزلته ومكانته أو تنخفض، ولذا قسم علماء العربية الشعراء إلى أقسام

وحصرها بعضهم في أربعة: (شاعر خنذيذ، وشاعر مفلق، وشاعر فقط،

وشعرور) . فالخنذيذ: هو الذي يجمع مع جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره،

والمفلق: هو الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالخنذيذ في شعره، أما الشاعر فقط:

فهو فوق الرديء بدرجة، والشعرور: لا شيء [15] .

أيها القارئ الكريم! ما عدد الشعراء (الخناذيذ) و (المفلقين) من بين شعراء

زماننا؟ وكم عدد الشعراء من الصنفين الآخرين؟ ! الإجابة متروكة لك فأنت فرد

من الجمهور الذي هو مرآة يستطيع الشاعر أن يرى فيها نفسه، ويعرف مستوى

شعره، جودة وقوة وجمالاً ودقة في الوصف، وفوق ذ لك له صدق أو عكس ذلك،

والإجابة المطلوبة هي التي يصدرها العقل، ويمليها العدل، فتأتي حاملة معها النقد

والتوجيه ريحا طيبة، وليست بحال من الأحوال كالعواصف التي ترسلها العواطف! ...

ولم يغب عن أذهان علمائنا أن يبينوا (حد الشعر) وهو الضابط الذي به يفرق

بينه وبين النثر، فقد ذ كروا ذلك وروي عنهم. يقول الإمام ابن رشيق ني كتابه

(العمدة) : (الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل

على القافية وجالب لها ضرورة، ألا أن تختلف القوافي فيكون ذلك عيبا في التقفية

لا في الوزن) [16] .

وقال أيضا: (القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يسمى

شعراً حتى يكون له وزن وقافية) [17] .

ومما يلحق بهذا ما ذكره من أن الناقد لا يلزم أن يكون شاعرا، يقول في ذلك: وقد يميز الشعر من لا يقوله، كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه، والصيرفي

يخبر من الدنانير ما لم يسبكه ولا ضربه، حتى إنه ليعرف مقدار ما فيه من الغش

وغيره فينقص قيمته. وقيل للمفضل الضبي: لِمَ لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس

به؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله. وأنشد:

وقد يقرض الشعر البكي لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو لبيب [18]

وقد أوردنا فيما سبق قول ابن خميس:

دعوه حراً ويا للناس من زمن ... قال المخفون وزنا نحن أحرار

حرية ظلموها واسمها لغة ... (فوضى) وسيان شاؤوا الحق أم جاروا

لأنها بدعة التقليد نافقة ... قالوا فقلنا وسرنا حيثما ساروا

لقد ركب سفينة الشعر غير ربانها، وامتطى صهوة الخيول غير فرسانها،

فخرجوا على الناس بكلام يسمونه شعراً، وما هو بالشعر! ولربما كان أكثرهم

عاجزين عن القول الجميل النافع الممتع شعراً كان أو نثراً، وكل ما في الأمر أننا

نستجيب - علمنا أم لم نعلم - لغزو أعدائنا، ونفتح الباب على مصراعيه للغزاة

الجدد يغيرون على مثلنا وقيمنا وتراثنا فيمسخون صورها مسخا تاما، ويبدلون

حقائقها، ويمحون جمالها، ويطمسون المعالم والحدود، ثم نصحو بعد فترة من

الزمن لنجد الواقع المر: أن الأمة العربية المسلمة تبدو صورة من المجتمع الشرقي

أو الغربي المنحل الذي لا يقيم وزنا لفضيلة، ولا هدف له من كل علومه وفنونه

ومواهبه إلا المتعة والشهوة فقط؛ فهما مطلب الفرد والجماعة، وكل طريق توصل

إليهما فهي الحق والصواب! ! .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015