مجله البيان (صفحة 3154)

دراسة تربوية

القناعة

مفهومها.. منافعها.. الطريق إليها

(1-2)

إبراهيم بن محمد الحقيل

يزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رُزقوا إذا قلّت فيهم القناعة،

وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا

مساكن تكنهم؛ حيث يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم

شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تُبصر من هم تحتهم، فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد؛ فهم كشارب ماء البحر لا

يرتوي أبداً.

ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبداً؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح

أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كملت له

أشياء قصرت عنه أشياء، وإن علا بأمور سفلت به أمور، ويأبى الله - تعالى -

الكمال المطلق لأحد من خلقه كائناً من كان؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم

العظيمة والمنح الجليلة التي يُغبط عليها صاحبها.

ولأهمية هذا الأمر - ولا سيما مع تكالب كثير من الناس على الماديات،

وانغماسهم في كثير من الشهوات - أحببت أن أذكر نفسي وإخواني؛ والذكرى تنفع

المؤمنين.

مفهوم القناعة:

توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرَّف بعض أهل

اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي [1] .

قال ابن فارس: (قنع قناعة: إذا رضي، وسميت قناعة؛ لأنه يُقبل على

الشيء الذي له راضياً) [2] .

وأما الزهد فهو ضد الرغبة والحرص على الدنيا. والزهادة في الأشياء ضد

الرغبة [3] ، وذكر ابن فارس أن مادة (زهد) أصل يدل على قلة الشيء قال:

والزهيد: الشيء القليل [4] .

وعرَّف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الزهد بقوله: ترك الرغبة فيما

لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله -

عز وجل -[5] .

ونحا فريق من أهل الاصطلاح إلى تقسيم القناعة، وجعل أعلى مراتبها الزهد

كما هو صنيع الماوردي؛ حيث قال: (والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن يقتنع بالبُلغة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناعة، ثم ذكر قول مالك بن دينار: أزهد الناس من لا

تتجاوز رغبته من الدنيا بُلغته.

الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة،

وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم: من رضي بالمقدور قنع

بالميسور.

الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سُنح، فلا يكره ما

أتاه وإن كان كثيراً، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيراً، وهذه الحال أدنى منازل

أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة

على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة: فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا

تعذرت) [6] ا. هـ.

وبناءً على تقسيم الماوردي فإن المنزلة الأولى هي أعلى منازل القناعة وهي

الزهد أيضاً، والمنزلة الثالثة هي التي عليها أكثر الذين عرّفوا القناعة وهي مقصود

مقالتنا تلك.

وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن

يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب، وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر

في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن

يُنافَق المسؤول من أجل منصبه وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميّع مبدأه رغبة

في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير الله -

تعالى - لحصول مرغوب.

وليس القانع ذاك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما

ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رتب الدنيا؛ لأن الخير له قد

يكون عكس ما تمنى.

وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن

يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين، ولكن القناعة تأبى أن تلج هذه

الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه، حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض من أجلها، ويرتكب المحرمات من رباً ورشوة وكسب خبيث

حفاظاً عليها أو تنمية لها.

وكم من صاحب مال وفير وخير عظيم رزق القناعة! فلا غَشَّ في تجارته،

ولا منع أُجراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛

بل أدى حق الله فيه فرضاً وندباً، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتنابٍ للمحرمات. إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.

وكم من مستور يجد كفافاً ملأ الطمع قلبه حتى لم يُرضه ما قسم له! فجزع

من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم

حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهماً ولا فلساً.

فوائد القناعة:

إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة

في الدنيا والآخرة ومن تلك الفوائد:

1 - امتلاء القلب بالإيمان بالله - سبحانه وتعالى - والثقة به، والرضى بما

قدر وقسم، وقوة اليقين بما عنده - سبحانه وتعالى - ذلك أن من قنع برزقه فإنما

هو مؤمن ومتيقن بأن الله - تعالى - قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو

كان ذلك القانع لا يملك شيئاً.

يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا:

ليس في البيت دقيق. وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أسرُّ أيامي إليَّ يوم

أُصبح وليس عندي شيء. وقال الفضيل ابن عياض - رحمه الله تعالى -: أصل

الزهد الرضى من الله - عز وجل -. وقال أيضاً: القُنوع هو الزهد وهو الغنى،

وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق

منك بما في يد الله - عز وجل -[7] .

2 - الحياة الطيبة: قال - تعالى -: [من عمل صالحا من ذكر أو أنثى

وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون]

[النحل: 97] ، فَسَّر الحياةَ الطيبة عليٌّ وابن عباس والحسن - رضي الله عنهم - فقالوا: الحياة الطيبة هي القناعة [8] ، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه [9] .

3 - تحقيق شكر المنعم - سبحانه وتعالى -: ذلك أن من قنع برزقه شكر

الله - تعالى - عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط - والعياذ

بالله - ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعا

تكن أشكر الناس) [10] .

4 - الفلاح والبُشْرى لمن قنع: فعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أنه

سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان

عيشه كفافاً، وقنع) [11] ، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما

آتاه) [12] .

5 - الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات: كالحسد،

والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك

أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالباً ما يكون استجلاب دنيا أو دفع

نقصها، فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على

ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.

قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله،

ولا تحسد أحداً على رزق الله، ولا تَلُمْ أحداً على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا

يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله - تبارك وتعالى - بقسطه

وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في

الشك والسخط [13] .

وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً

القنوع [14] .

6 - حقيقة الغنى في القناعة: ولذا رزقها الله - تعالى - نبيه محمداً صلى

الله عليه وسلم وامتن عليه بها فقال - تعالى -: [ووجدك عائلا فأغنى]

[الضحى: 8] ، نزّلها بعض العلماء على غنى النفس؛ لأن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُفتح عليه خيبر وغيرها من قلة

المال [15] .

وذهب بعض المفسرين إلى أن الله - تعالى - جمع له الغنائيْن: غنى القلب،

وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة.

وقد بيّن - عليه الصلاة والسلام - أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال - عليه

الصلاة والسلام -: (ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس) [16] .

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (فترى قلة المال هو الفقر؟) قلت: نعم! يا رسول الله. قال: (إنما الغنى غنى

القلب، والفقر فقر القلب) الحديث [17] .

وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولو

عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير

يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غده! فالعلة في القلوب: رضيً وجزعاً،

واتساعاً وضيقاً، وليست في الفقر والغنى.

ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

خطيباً في الناس على المنبر يقول: (إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن

الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه) [18] ، وسئل أبو حازم فقيل له: ما

مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي

الناس [19] ، وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما

يكفيك [20] .

7 - العز في القناعة، والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس

فلا يزال عزيزاً بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في ... حديث سهل بن سعد مرفوعاً: (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) [21] .

وكان محمد بن واسع - رحمه الله تعالى - يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويأكله

ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد [22] .

وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: لا تزال كريماً على الناس، ولا يزال

الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم؛ فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك وكرهوا

حديثك وأبغضوك [23] .

وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: وقد تكاثرت الأحاديث عن

النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس، والاستغناء عنهم؛

فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم،

فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك [24] .

والإمامة في الدين والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن

الناس، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ. قال أعرابي لأهل البصرة:

من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج الناس

إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم [25] .

صور من قناعة النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً ويقيناً، وأقواهم ثقة

بالله - تعالى - وأصلحهم قلباً، وأكثرهم قناعة ورضيً بالقليل، وأنداهم يداً

وأسخاهم نفساً، حتى كان - عليه الصلاة والسلام - يفرِّق المال العظيم: الوادي

والواديين من الإبل والغنم ثم يبيت طاوياً، وكان الرجل يُسْلم من أجل عطائه صلى

الله عليه وسلم ثم يحسن إسلامه. قال أنس - رضي الله عنه -: إن كان الرجل

ليسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما

عليها [26] .

وقال صفوان بن أمية - رضي الله عنه -: لقد أعطاني رسول الله صلى الله

عليه وسلم ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليَّ؛ فما برح يعطيني حتى إنه

لأحب الناس إليَّ. قال الزهري: أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم

مائة [27] ، وقال الواقدي: أعطاه يومئذ وادياً مملوءاً إبلاً ونعماً حتى قال

صفوان - رضي الله عنه -: أشهد: ما طابت بهذا إلا نفس نبي [28] .

وقال أنس - رضي الله عنه -: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على

الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال:

(يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة) [29] .

أما تلك الصورة الرائعة من بذله - عليه الصلاة والسلام - التي جعلت أقواماً

وسادة وعتاة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق، فأمامها صور

عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته - عليه الصلاة والسلام - ورضاه بالقليل

وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا، ومن

ذلكم:

أولاً: قناعته صلى الله عليه وسلم في أكله:

أ - روت عائشة رضي الله عنها - تخاطب عروة بن الزبير - رضي الله

عنهما - فقالت: (ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما

أُوقِدَت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟

قالت: الأسودان: التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم

جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم

من أبياتهم فيسقيناه) [30] .

ب - وعنها - رضي الله عنها - قالت: (لقد مات رسول الله صلى الله عليه

وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين) [31] .

ج - وعن قتادة - رضي الله عنه - قال: (كنا نأتي أنس بن مالك، وخبّازه قائم وقال: كلوا؛ فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مُرقَّقاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط) [32] .

ثانياً: قناعته صلى الله عليه وسلم في فراشه:

أ - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان فراش رسول الله صلى الله

عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف) .

ب - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (نام رسول الله صلى الله

عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك

وطاءً؛ فقال: ما لي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم

راح وتركها) [33] .

ج - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان لرسول الله صلى الله

عليه وسلم سرير مشبك بالبردي عليه كساء أسود قد حشوناه بالبردي، فدخل أبو

بكر وعمر عليه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم نائم عليه، فلما رآهما استوى جالساً

فنظر، فإذا أثر السرير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر

وعمر - وبكيا -: يا رسول الله! ما يؤذيك خشونة ما نرى من سريرك وفراشك،

وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج؟ فقال: لا تقولا هذا؛ فإن فراش

كسرى وقيصر في النار، وإن فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنة) [34] .

ثالثاً: تربيته صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة:

لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه

البقاء معه والصبر على القلة والزهد في الدنيا حينما خبرهن بين الإمساك على ذلك

أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى [يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن

تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا. وإن كنتن تردن

الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما]

[الأحزاب: 28، 29] .

فاخترن - رضي الله عنهن - الآخرة، وصبرن على لأواء الدنيا، وضعف

الحال، وقلة المال طمعاً في الأجر الجزيل من الله - تعالى - ومن صور تلك القلة

والزهد إضافة إلى ما سبق:

أ- ما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: (ما أكل آل محمد صلى الله

عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر) [35] .

ب - وعنها - رضي الله عنها - قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه

وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه

وسلم) [36] .

ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده

رباهم على القناعة فقد أتاه سبي مرة، فشكت إليه فاطمة - رضي الله عنها - ما

تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين

بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال: (لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى

بطونهم من الجوع) [37] .

ولم يكن هذا المسلك من القناعة إلا اختيارا منه صلى الله عليه وسلم وزهداً

في الدنيا، وإيثاراً للآخرة.

نعم إنه رفض الدنيا بعد أن عرضت عليه، وأباها بعد أن منحها، وما أعطاه

الله من المال سلطه على هلكته في الحق، وعصب على بطنه الحجارة من الجوع

صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام: (عرض علي ربي ليجعل لي

بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب؛ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت

تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك) [38] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015