إشراقات قرآنية
د. عبد الرحمن آل عثمان
هذه وقفات مع جملة من الآيات الواردة في سورة الأحزاب التي تتصل بتربية
القرآن أزواجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تربيةً رفيعة؛ ذلك أن البيوت الرفيعة
والنفوس الشريفة يليق بها نوع خاص من التربية التي تترفع بصاحبها عن سفاسف
الأمور ودنيء الخلال إلى أرقى مراتب الكمال البشري الممكن لأمثاله، فتسمو همته، وتزكو نفسه؛ وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء؛ والله ذو الفضل العظيم.
وهذه الآيات المشار إليها هي قول الله - تعالى: [يا نساء النبي لستن كأحد
من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا
معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين
الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا * واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا *
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين
والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين
والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله
كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما * وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا
قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد
ضل ضلالا مبينا] [الأحزاب: 32 - 36] .
الوقفة الأولى: مع قوله يا نساء النبي حيث خاطبهن بهذا النداء المقتضي
إصغاءَ المخاطَب وتهيُّؤَه لتلقي ما خوطب به.
الوقفة الثانية: أنه أضافهن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وفي هذا من
رفع أقدارهن وتشريفهن ما فيه، إضافة إلى ما يشعر به من سمو التعاليم التي
سيوجهها لهن نظراً لعلو مرتبتهن.
الوقفة الثالثة: مع قوله: لستن كأحد من النساء ذلك أن نفي المشابهة هنا
يقتضي نفي المساواة، فكنى به عن الأفضلية على غيرهن، وهذا بالقيد بعده وهو
في:
الوقفة الرابعة: مع قوله: إن اتقيتن، فهذا الشرط متعلق بما قبله على
الأرجح، وجوابه دل عليه ما قبله في قوله: لستن كأحد من النساء والمعنى - والله
أعلم -: إن اتقيتن فأنتن أفضل من غيركن. ومعلوم أن مجرد كونهن أزواج نبي
لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن؛ لأن القرآن دل على ذلك كما في آخر سورة
التحريم، وهو قوله تعالى: [ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط
كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل
ادخلا النار مع الداخلين] [التحريم: 10] فمن الغلط جعل صحبة الأشراف دافعة
للعقاب على الإسراف.
الوقفة الخامسة: وهو أن في قوله: إن اتقيتن دلالة على التحريض كما تشعر
به الصيغة، ومعلوم أن فعل الشرط - هنا - مستعمل في الدلالة على الدوام. أي:
إن دمتن على التقوى. ومعلوم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن متقيات قبل
نزول هذه الآية.
الوقفة السادسة: مع قوله: فلا تخضعن بالقول فهذا النهي عن الخضوع
بالقول جاء عقب الإشارة إلى شرفهن وفضلهن على غيرهن إن تحلين بالتقوى،
ومجيء هذا النهي بعدما سبق مع دخول الفاء المشعرة بالتعليل يدل على أن خضوع
المرأة بكلامها مع الرجال الأجانب أمر يتنافى مع الشرف والتقوى كما لا يخفى.
الوقفة السابعة: أصل معنى الخضوع هو التذلل، وأُطلق هنا على الرقة في
الكلام لمشابهتها التذلل، وعليه؛ فما حاجة المرأة المسلمة لذلك؟
الوقفة الثامنة: الباء في قوله: بالقول يجوز أن تكون للتعدية، أي: لا
تخضعن القول، أي: لا تجعلنه خاضعاً ذليلاً، أي: رقيقاً مفككاً، وقد أسند
الخضوع إليهن أنفسهن؛ لأن التفكك والتميع في القول يؤثر على تفكك القائل كما لا
يخفى.
الوقفة التاسعة: في قوله: فيطمع الذي في قلبه مرض فالفاء هنا مرتبة على
ما سبق من ترتب النتيجة على السبب؛ إذ إن تميع المرأة في كلامها مع الرجل
الأجنبي يؤدي إلى انصراف القلوب المريضة إليها وطمعهم بأمر هو من أغلى ما
تحافظ عليه المرأة وتتزين به، ألا وهو: عفتها وشرفها.
ومن المعلوم أن الطمع أكثر ما يستعمل في كلام العرب في الأمر الذي يقرب
حصوله، وقد يستعمل بمعنى الأمل؛ ولهذا يقولون لمن أمَّل أمراً بعيد الوقوع:
طمع في غير مطمع. وعليه فإن المرأة التي تخضع في كلامها مع الرجال الأجانب
إنما تحرك النفوس المريضة نحوها؛ حيث يأملون تحصيل مطلوباتهم الرخيصة
منها؛ فالمرأة بطبيعتها جَبَلَ الله نفوس الرجال على الميل إليها، فإذا صاحب هذه
الجِبِلَّة داعٍ آخر من الكلام الرقيق الرخو، أو التزين أمامهم أو غير ذلك؛ فإن ذلك
الميل الجِبِلِّيَّ يقوى ويزداد عند من لا يراقب الله - عز وجل -.
الوقفة العاشرة: أصل المرض: اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة، والمراد به هنا: اختلال الوازع الديني. والله المستعان.
الوقفة الحادية عشرة: أنه قال: فيطمع ... فحذف متعلق الفعل، ولم يقل
(فيطمع فيكن) مثلاً؛ ذلك لتنزههن وتعظيم شأنهن، وهذا له نظائر في القرآن ليس
هذا موضع ذكرها.
الوقفة الثانية عشرة: في قوله: وقلن قولا معروفا أَمَر بعد أن نهى؛ فهو من
باب التخلية قبل التحلية، وهو الأكمل؛ ذلك أن المقصود هو الفعل لا الترك،
والنفوس خلقت لتفعل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره كما قرر ذلك شيخ
الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله. والحاصل أنه لما أمرهن بالتقوى التي من
شأنها التواضع ولين الكلام نهاهن عن الخضوع بالقول، ثم أمرهن بعد ذلك بالقول
المعروف.
الوقفة الثالثة عشرة: في أن قوله: وقلن قولا معروفا احتراس لئلا يفهمن أن
المراد المبالغة في الخفض حتى يكون كحديث السرار، أو الخشونة في الرد
والمخاطبة بالغلظة والجفاء.
الوقفة الرابعة عشرة: القول المعروف يشمل هنا الألفاظ والأسلوب:
أما الألفاظ فيراعى فيها ثلاثة أمور:
أ - ألا تكون غليظة منكرة تؤذي السامع.
ب - ألا تكون رقيقة لا تصلح في مخاطبة الرجال الأجانب كقولها مثلاً:
(فديتك) ، أو (علشاني..) أو نحو ذلك كما يفعل بعض النساء مع الباعة ونحوهم.
ج - أن يكون الكلام قدر الحاجة دون زيادة، والأصل في هذا قول زوج
إبراهيم - عليه السلام - حينما بشرها الملائكة بالولد: [ ... عجوز عقيم]
[الذاريات: 29] فذكرت علتين يبعد معهما الولد وهما: كبر السن، والعقم.
فالواجب على المرأة المسلمة ألا تطيل في كلامها مع الرجال الأجانب؛ وإنما
تقلل الكلام ما أمكن.
وأما الأسلوب: فلا تتميع في كلامها، ولا ترقق العبارات، أو تتكلم بكلام
ناعم مع رجل أجنبي، وإنما تتكلم بكلام جزل مختصر لا ترخيم فيه؛ فلا تخاطب
الرجال الأجانب كما تخاطب زوجها.
الوقفة الخامسة عشرة: في قوله: وقرن في بيوتكن حيث قرأه نافع وعاصم:
وقرن من الاستقرار وأصله: (اقررن) والمراد: المكث والبقاء في البيت كما
يقال: قر الماء في الحوض، وقرأه الباقون (وّقٌرًنّ) ، فيحتمل أن يكون من الوقار، أو من القرار، وهاتان القراءتان متواترتان، ومعلوم أن القراءتين إن كان لكل واحدة منهما معنى يغاير المعنى في القراءة الأخرى فهما بمنزلة الآيتين، وتكون المعاني التي دلت عليها هذه القراءات كلها صحيحة معتبرة داخلة في تفسير الآية، لا سيما إذا كان بين هذه المعاني تلازم في المعنى، كما هنا؛ حيث إن المرأة مأمورة بالبقاء في البيت، والمكث فيه الوقار.
ولا يخفى أن هذه الأمور متلازمة؛ حيث إن وقار المرأة يتم لها إن بقيت في
بيتها، وكلما كثر خروجها كلما كان ذلك على حساب وقارها؛ فهو أمر يُذهب
حشمتها وماء وجهها في الغالب كما هو مُشاهَد.
وهذا أصل عظيم، ومطلب شرعي تربوي هام ينشأ من التزامه صيانة المرأة
المسلمة وحفظ حشمتها وكرامتها.
ومن نظر في النصوص الشرعية المتعلقة بهذا المعنى حصل له علم جازم بأن
الشارع قصد إبقاء المرأة في بيتها قدر الإمكان بعيداً عن أعين الرجال فضلاً عن
مخالطتهم.
ومن النصوص الدالة على ما ذكرت ما أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان
بإسناد حسن عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي - رضي الله عنهما - أنها جاءت
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك.
قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في
مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي) [1] .
قال: فأمرَتْ فبُني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه وكانت تصلي
فيه، حتى لقيت الله - عز وجل -.
هذا إذا كان سبب خروجها من بيتها الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم
وفي مسجده، فكيف إذا كان الخروج إلى الأسواق وأماكن الترفيه ونحوها؟ !
وأخرج أحمد والطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم عن أم
سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير مساجد
النساء قعر بيوتهن) [2] .
وأخرج عنها الطبراني في الأوسط بإسناد حسن أنها قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها،
وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها خير من
صلاتها في مسجد قومها) [3] .
وأخرج أبو داود بإسناد صحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً: (لا تمنعوا
نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن) [4] .
وأخرج عنه الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم: (المرأة عورة وإنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وإنها لا تكون أقرب
إلى الله منها في قعر بيتها) [5] ، وقد أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان من
حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.
وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عند ابن خزيمة والطبراني في
الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما صلت امرأة من صلاة أحب إلى الله من
أشد مكان في بيتها ظلمة) [6] ، وأخرج ابن خزيمة نحوه من حديث أبي هريرة -
رضي الله عنه -، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - (النساء عورة، وإن
المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس، فيستشرفها الشيطان [7] ، فيقول: إنك لا
تمرين بأحد إلا أعجبتِهِ! ! وإن المرأة لتلبس ثيابها فيقال: أين ترتدين؟ ! فتقول:
أعود مريضاً، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل
أن تعبده في بيتها) [8] .
وثبت عنه مرفوعاً - كما عند أبي داود وابن خزيمة - (صلاة المرأة في
بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها [9] أفضل من صلاتها
في بيتها) .
وأخرج ابن خزيمة والطبراني في الكبير عن أبي عمرو الشيباني أنه رأى
عبد الله - يعني ابن مسعود - يُخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ويقول: ... (اخرجن إلى بيوتكن خير لكن) [وإسناده حسن] [10] .
فهذه النصوص وغيرها مما يدخل في هذا الباب تدور حول معنى واحد ألا
وهو إبعاد المرأة عن الرجال ما أمكن، ولهذا نجد الشارع يحثها - إن هي صلت
مع الرجال - أن تصلي في آخر الصفوف كما أخرج مسلم وغيره من حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير صفوف
الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) [11] .
وإذا تقرر هذا المعنى فإننا نقول: أين عامة النساء من العمل على تحقيق ذلك
المقصد من مقاصد الشريعة؟ إذ إن واقع كثير منهن يخالف ذلك تماماً؛ حيث
يُكثرن الخروج، ويُزاحمن الرجال في الأسواق والمتنزهات، وعلى أبواب المسجد
الحرام لحضور الصلاة المفروضة وغير المفروضة. وكثير منهن قد جعلن الحجاب
لوناً من الفتنة فأشغلن قلوب الرجال في أطهر بقعة على وجه الأرض! ! .
وقد قيل لسودة - رضي الله عنها - لِمَ لا تحجين، ولا تعتمرين كما يفعل
أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقرَّ في بيتي؛ فوالله! لا
أخرج من بيتي حتى أموت. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى
أخرجت جنازتها.
وإذا كان الشارع يعتبر صلاة المرأة في أقصى مكان في دارها خير من
صلاتها خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، مع أن المساجد هي أحب
البقاع إلى الله؛ فكيف يقال بأبغض البقاع إلى الله وهي الأسواق؟ !
وفي النصوص السابقة نجد أن أفضل مكان تصلي به المرأة هو مخدعها،
وهو غرفة صغيرة داخل غرفة كبيرة، ويليه في الأفضلية صلاتها في بيتها - أي
غرفتها كما يعبرون عنها اليوم - ويلي ذلك صلاتها في حجرتها، أي صحن الدار
وهو ما تكون أبواب البيوت - أي الغرف - إليها، ويطلق اليوم على الصالة،
ويلي ذلك صلاتها في دارها وهو المنزل عموماً بناؤه وفناؤه.
الوقفة السادسة عشرة: مع قوله: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
أصل التبرج هنا هو البروز والظهور، ومنه (البُرج) ؛ لظهوره وبروزه
وانكشافه للعيون، وتبرج المرأة هو إظهارها زينتها وتصنُّعها بها، وذلك بأن تظهر
المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال.
الوقفة السابعة عشرة: تبرج الجاهلية هنا يدخل في معناه كل العبارات التي
ذكرها السلف؛ حيث يشمل خروج المرأة تمشي بين يدي الرجال، وتكسُّرَها في
مشيتها وتبخترها فيها، كما يشمل ترك التستر؛ حيث تظهر نحرها أو شعرها أو
غير ذلك مما هي مطالبة بستره عن أعين الرجال الأجانب.
الوقفة الثامنة عشرة: الجاهلية: مأخوذة من الجهل، والمراد المدة والحال
التي كان عليها العرب قبل الإسلام، وهي حالة نفسية شعورية وواقعية بعيدة عن
هدي الإسلام. والجاهلية الأولى هنا والله أعلم هي ما كان عليه الناس قبل مبعث
الرسول صلى الله عليه وسلم.
الوقفة التاسعة عشرة: دلت الآية الكريمة على أن التبرج عمل جاهلي،
وعليه فإن المرأة المتبرجة فيها خصلة من خصال الجاهلية بقدر تبرجها.
وبهذا - أيضاً - يتبين أن السفور والتبرج ومخالطة الرجال وتكسر المرأة في
مشيتها أمامهم، وغير ذلك مما يدخل في معنى التبرج ذلك كله ليس من التمدّن في
شيء، بل هو تخلف ورجوع إلى عادات العهود المظلمة التي جاء الإسلام فأبطلها
من أصلها.
الوقفة العشرون: مع قوله: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة حيث خص هاتين
العبادتين بالذكر؛ لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية.
وكثيراً ما يقرن الله بينهما؛ لأن سعادة العبد دائرة على أصلين:
الأول: إحسانه مع خالقه، والصلاة من أعظم ما يتحقق به ذلك.
الثاني: إحسانه إلى الخلق، والزكاةُ من أعظم ما يتحقق به ذلك، والله أعلم.
الوقفة الحادية والعشرون: لما أمرهن بالبقاء في البيوت أرشدهن إلى ما
يقضين به أوقاتهن وهو طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاشتغال
بذلك، لا أن تبقى في بيتها مع انشغالها بما لا فائدة فيه بَلْهَ المحرمات سواء كانت
مشاهدة أو مسموعة أو غير ذلك.
الوقفة الثانية والعشرون: مع قوله: وأطعن الله ورسوله حيث عطف العام
على الخاص، وهو يشمل فعل المأمورات وترك المنهيات ومن ذلك الأمر بالبقاء
في البيوت والنهي عن التبرج والخضوع بالقول.
الوقفة الثالثة والعشرون: مع قوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت الإرادة هنا شرعية، وقد شرع الأمور السابقة ليتحقق هذا المقصد.
ومعلوم أن الإرادة الشرعية الدينية مستلزمة للرضا والمحبة، فالله - تعالى -
يحب كل ما يؤدي إلى الحشمة والعفاف، ويكره ما يضاد ذلك.
الوقفة الرابعة والعشرون: الرجس في الأصل كل مستقذر تعافه النفوس،
ومن أقذر المستقذرات: معصية الله - تعالى - فهو يطلق على المستقذرات الحسية
والمعنوية: فالحسية مثل النجاسات، والمعنوية كالمعاصي والذنوب وما يترتب
عليها من الإثم والعذاب، فاستعار للذنوب: الرجس، وللتقوى: الطهر؛ لأن
عِرض المقترف للقبائح يتلوث بها ويتدنس، كما يتدنس بدنه بالأرجاس، أما
الحسنات فالعِرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر.
وقد أذهب الله ذلك كله عن أهل البيت - رضي الله عنهم أجمعين -.
وُيعلم مما سبق أن طهارة المرأة وشرفها وتنزهها عن كل دنس إنما يتم ذلك
بالعمل بما أرشد إليه القرآن في هذه الوصايا خاصة، وفي غيرها.
الوقفة الخامسة والعشرون: مع قوله: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات
الله والحكمة؛ حيث عبر بالتلاوة دون النزول ليعم جميع الآيات النازلة في بيوتهن
وفي غيرها، كما لم يعيِّن التالي؛ ليعم: تلاوة جبريل، والنبي صلى الله عليه
وسلم، وتلاوتهن، وتلاوة غيرهن.
الوقفة السادسة والعشرون: قوله: واذكرن يشمل التذكر والتفكر في القلب
والحفظ والتلاوة واللزوم ومجانبة الغفلة عما أمر الله به أو أمر به رسوله صلى الله
عليه وسلم.
الوقفة السابعة والعشرون: مع قوله: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات
والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين
فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما.
فهذه الآية يمكن أن تكون استئنافاً بيانياً؛ لأن قوله - تعالى -: ومن يقنت
منكن ... بعد قوله: لستن كأحد من النساء ... يثير تساؤلاً في نفوس المؤمنات وهو: هل هن مأجورات على أعمالهن؟ وهل هن مطالبات بما سبق؟ ويمكن أن يكون
استئنافاً ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثامنة والعشرون: في هذه الآية تدرج من الأدنى إلى الأعلى؛ حيث
ذكر الإسلام، ثم ذكر المرتبة التي فوقه وهي الإيمان، ثم ذكر القنوت وهو ناشئ
عنهما.
الوقفة التاسعة والعشرون: قوله: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات فالإسلام هنا هو إسلام الظاهر، وهو انقياد الجوارح وخضوع العبد لربه
- جل وعلا - بفعل ما أمر وترك ما نهى؛ لأنه جاء مقترناً بالإيمان الذي هو انقياد
الباطن وإقراره وتصديقه، ومن إسلام المرأة لربها خضوعها لهذه الأوامر واجتنابها
للنواهي.
وبهذا يُعلم أن تبرج المرأة ومخالطتها للرجال أمر يتنافى مع إسلامها لربها -
جل وعلا - فالإسلام التام هو أن يطيع العبد ربه طاعة مطلقة، ويخضع له
خضوعاً كاملاً.
الوقفة الثلاثون: قوله: والقانتين والقانتات والقنوت هو دوام الطاعة كما
حققه شيخ الإسلام في رسالة مستقلة؛ فالمرأة القانتة لله - عز وجل - هي المرأة
المطيعة الدائمة على الطاعة، فلا تطيع ربها في الأمر الذي يروق لها وتعصيه فيما
يخالف هواها، أو تطيعه بعض الوقت ثم تُعرِض بعد ذلك.
الوقفة الحادية والثلاثون: مع قوله: والصادقين والصادقات، وهذا يشمل
الصدق في الأقوال والأعمال والنيات كما قال تعالى في سورة البقرة: [ليس البر
أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر
والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا
عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك
هم المتقون] [البقرة: 177] ، قال ابن القيم - رحمه الله -: فالذي جاء بالصدق
هو مَنْ شأنه الصدق في: قوله، وعمله، وحاله:
فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.
والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس
على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص،
واستفراغ الوسع وبذل الطاقة، وبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصدق.
الوقفة الثانية والثلاثون: مع قوله: والصابرين والصابرات، والصبر نصف
الإيمان؛ لأن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. وهو من الإيمان
بمنزلة الرأس من الجسد.
وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصيته، وصبر على
أقداره المؤلمة، بحبس النفس عن الجزع والتسخط، واللسان عن الشكوى،
والجوارح عن كل ما لا يليق من لطم الخدود وشق الجيوب وغير ذلك مما في معناه.
ولا يخفى أن الصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته أكمل من الصبر
على ما لا يد للإنسان فيه كالأقدار المؤلمة؛ لأن الأول صبر اختيار ورضاً ومحاربة
للنفس، بخلاف ما ليس للعبد فيه حيلة غير الصبر.
ثم إن الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على ترك المعاصي؛ لأن
مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم
الطاعة أبغض إليه من مفسدة وجود المعصية كما قرر ذلك أبو العباس ابن تيمية -
رحمه الله - والصبر يكون بالله ولله ومع الله:
فالأول: الاستعانة به كما قال سبحانه: [واصبر وما صبرك إلا بالله]
[النحل: 127] ، أي: إن لم يُصبِّرْك لم تصبر.
والثاني: الصبر لله: وهو أن يكون الباعث له على الصبر إرادة وجه الله.
والثالث: الصبر مع الله: وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، وهذا
الأخير هو أشد أنواع الصبر كما فصله ابن القيم - رحمه الله -.
الوقفة الثالثة والثلاثون: مع قوله: والخاشعين والخاشعات. وأصل الخشوع: الانخفاض والذل والسكون. فهو تذلل القلوب لله - عز وجل - مع السكون
والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع بدافع الخوف من الله - تعالى -، وجماعه
التذلل للأمر، والاستسلام للحكم، والتواضع لنظر الحق.
فالتذلل للأمر: هو تلقِّيه بذلة القبول والانقياد، ومواطأة الظاهر والباطن.
والاستسلام للحكم الشرعي: ألا يعارضه بهوى النفس.
الاتِّضاع للحق: هو انكسار القلب والجوارح لنظر الرب إليها [12] .
الوقفة الرابعة والثلاثون: مع قوله: والمتصدقين والمتصدقات.
قال ابن فارس (الصاد والدال والقاف أصل يدل على قوة الشيء قولاً وغيره، ومن ذلك الصدق خلاف الكذب، سُمِّيَ لقوته في نفسه؛ ولأن الكذب لا قوة له فهو
باطل) كما سمي صَداق المرأة بذلك لقوته وأنه حق يلزم، والصداقة صدق الاعتقاد
في المودة مشتقة من الصدق في الود والنصح.
ولعل الصدقة سميت بذلك لدلالتها على ثبوت إيمان صاحبها وصدق دعواه،
كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (الصدقة برهان) [13] .
وهي تشمل ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، سواءً كان واجباً أو
تطوعاً.
ويدخل في معناها ما أسقطه الإنسان من حقه، سواءً كان مالياً أو غيره كما
قال - تعالى -: [والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له] [المائدة: 45]
أي: لم يقتص وإنما عفا، وقال - تعالى -: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة
وأن تصدقوا خير لكم [البقرة: 280] ، أي بإسقاط الدّيْن عن المعسر، أو إسقاط
جزء منه، وقال - تعالى -: [ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا]
[النساء: 92] ، أي بإسقاط الدية والتنازل عنها، وهكذا.
الوقفة الخامسة والثلاثون: مع قوله: والصائمين والصائمات وهو من أجلِّ
القُربات كما في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) [14] ، وهو
داخل في معنى الصبر، والله يقول: [إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير
حساب] [الزمر: 10] .
الوقفة السادسة والثلاثون: مع قوله: والحافظين فروجهم والحافظات؛ حيث
ذكر ذلك بعد الصوم؛ ذلك أن الصوم من أعظم الأمور المعينة على حفظ الفرج كما
في الحديث: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [15] ، فهذا الترتيب
في الآية في غاية التناسب، ومثله ما ورد في سورة النور: [قل للمؤمنين
يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ... ] [النور: 30] ؛ حيث إن غض
البصر سبب لحفظ الفرج.
الوقفة السابعة والثلاثون: حفظ الفرج يشمل حفظه عن مقارفة كل لون من
ألوان الاستمتاع عدا الاستمتاع بالزوجة، ومِلْك اليمين، كما قال تعالى: [والذين
هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين.
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون] [المؤمنون: 5-7] ، كما يشمل حفظه
بالستر فلا يراه أحد عدا من استُثني في الآية، والستر هنا بترك التكشف، أو لبس
ما يَحْجِمُ العورة لضيقه.
الوقفة الثامنة والثلاثون: مع قوله: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، وهذا
يشمل ذكر القلب واللسان وترك الغفلة، فهو عبودية القلب واللسان، وهي عبادة
يسيرة على العبد غير مؤقتة بوقت مع ثقلها في الميزان؛ ولهذا جاء تقييدها بالكثرة
من بين سائر العبادات كما قال - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا
كثيرا] [الأحزاب: 41] ، وقال: [واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون]
[الأنفال: 45] .
والذكر له أنواع ومراتب متعددة لا مجال لذكرها هنا فلتراجع في مظانِّها.
الوقفة التاسعة والثلاثون: مع قوله - تعالى -: أعد الله لهم مغفرة وأجرا
عظيما، حيث نكَّر المغفرة هنا؛ وهذا يدل على التعظيم أي: مغفرة عظيمة.
والأجر: هو الجزاء والثواب، ووصفه بالعِظَم كما وصف المغفرة بذلك.
الوقفة الأربعون: أن قوله: أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما يدل على أن من
عمل الصالحات واتقى الله - عز وجل - فإن الله يجمع له بين غفران الذنوب
ومضاعفة الأجور.
وغفران الذنوب: يكون بأمرين:
الأول: الستر بين العباد فلا يفضحه بها.
الثاني: أن يقيه شؤمها، فلا يعذبه عليها.
وهذا أصل معنى الغفر، ومنه سُمِّيَ المِغْفَر؛ لأنه يستر رأس لابسه، ويقيه
الضربات الموجهة له، وهذا المعنى، مقابلة المحسن بالمغفرة والثواب، دل عليه
كثير من الآيات والأحاديث كما قال تعالى: [وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من
الليل إن الحسنات يذهبن السيئات] [هود: 114] ، وغير ذلك مما يدخل في هذا
المعنى.
الوقفة الحادية والأربعون: مع قوله: [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم] فهذا لفظه النفي ومعناه الحظر والمنع،
ومثل هذا الاستعمال يدل على المنع والحظر، وأن ذلك الشيء لا يكون: إما عقلاً
نحو: [ما كان لكم أن تنبتوا شجرها] [النمل: 60] .
أو ما علم امتناعه شرعاً نحو: [وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من
وراء حجاب] [الشورى: 51] .
أو ما كان محرماً شرعاً نحو: [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
ورسوله أمرا] [الأحزاب: 36] الآية.
الوقفة الثانية والأربعون: مع قوله: أمرا وهو يشمل الأمر الطلبي والأمر
الخبري؛ فالطلبي كالأمر بالحجاب والبقاء في البيوت وعدم مخالطة الرجال،
والخبري كجعل الطلاق بيد الرجل، والحكم بأن للمرأة نصف ميراث الرجل،
ونحو ذلك.
الوقفة الثالثة والأربعون: قوله: لمؤمن ولا مؤمنة، نكرتان في سياق النفي
وهذا من صيغ العموم، أي: كل مؤمن ومؤمنة. ومعلوم أن إيمان العبد يقتضي
الانقياد والتسليم والإذعان، فلا يكون للمؤمن اختيار مع اختيار الله تعالى وإلا كان
ذلك نقصاً في إيمان العبد، وهذا أحد المعاني الداخلة تحت قوله تعالى: [النبي
أولى بالمؤمنين من أنفسهم] [الأحزاب: 6] إذ من معاني هذه الأولوية هنا أن
النفس إذا أمرت بأمر وأمر الرسول بأمر كان المقدَّم أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
الوقفة الرابعة والأربعون: مع قوله: ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا
مبينا، وهذا يدل على أن من كان له اختيار مع اختيار الله - تعالى - واختيار
رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون عاصياً؛ لتقديمه محبوبات النفس على
مطلوب الحق.
الوقفة الخامسة والأربعون: هذه الآية وإن كانت متعلقة في الأصل بما بعدها
من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ابنةَ عمته زينب بنت جحش لمولاه زيد بن
حارثة، إلا أن عموم معناها مُعْتَبَرٌ في كل ما أمر به الشارع أو نهى عنه؛ فإذا
قضى الشارع على المرأة أن تلازم بيتها ولا تكثر من الخروج، ولا تخالط الرجال
الأجانب، ولا تتبرج أو تذهب إلى أماكن الفتنة فإن الواجب عليها التسليم لأمر الله، والانقياد لشرعه، ولا يجوز لها بأي حال من الأحوال أن تقدم هوى النفس على
أمر الرب - جل وعلا - والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم.