مجله البيان (صفحة 3129)

وقفات

سعة الأفق

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

من نعمة الله - تعالى - على العبد أن يرزقه سعة في الأفق، وعمقاً في

النظر، فيتسع فكره، وينطلق في آفاق رحبة واسعة، ويؤتيه الله بصيرة نافذة

تجعله ينفذ إلى أعماق الحقائق وأبعادها، فيقدرها بقدرها، ويضعها في مواضعها.

ومما يعين الإنسان على سعة الأفق:

1- حرصه على طلب العلم والجدّ فيه، وأخذه من أهله الأثبات الراسخين،

والصبر على تتبع مسائله في مظانها المختلفة، وحرصه في بداية الطلب على أن

يأخذ من كل فن أصوله وقواعده لكي تتكامل معارفه وتتآلف علومه. والعلم هو

الركيزة الأساس التي تبني عقل الإنسان وتجعله يستقيم على الجادة؛ ألم ترَ أن

الجاهل يعيش في ظلمة فلا يبصر طريقه، فإذا عرض له عارض صار يتخبط

ويضطرب؟ بينما ترى صاحب العلم والفهم حاذقاً فطناً يفتح الله عليه من أبواب

العلوم ما يجعله قادراً على رؤية أبعاد واسعة لا يراها من هو دونه.

2- تنوع ثقافاته، وتعدد قراءاته في مختلف أنواع المعرفة العلمية؛

فالمتخصص في الدراسات الشرعية - مثلاً -، لا ينحصر في هذا التخصص؛ بل

تمتد عنايته واطلاعه إلى الدراسات الأدبية والفكرية والإنسانية الأخرى؛ فهو يتنقل

في حقول العلم والفكر، ويمتص رحيق الأزهار بألوانها وأشكالها المتنوعة، وهكذا

بقية المتخصصين في فروع أخرى من العلم.

3- كثرة محاورته ومجالسته لأهل العلم والرأي؛ فبالحوار العلمي الجاد تتسع

مدارك الإنسان، ويقف على أشياء قد لا تخطر بباله على الإطلاق. وقديماً قال

عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: (إني وجدتُ لقاء الرجال تلقيحاً لألبابهم) [1] . وقال الزهري: (العلم خزائن ومفاتيحها السؤال) [2] . وقال أيوب السختياني:

(إنّك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره) [3] .

ولهذا كان السلف يحثّون طالب العلم على الرحلة والسفر لملاقاة العلماء

واكتساب مختلف أنواع العلوم والمعارف، وفي هذا يقول ابن خلدون: (على كثرة

الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها) [4] .

4- حرصه على التأمل والنظر والتفكر، وشحذ الذهن وتنشيطه في دراسة

المباحث والمسائل. والفكر الحي المعطاء هو الفكر المتقد الذي ينبض بحيوية

ونشاط، فلا يكسل ولا يعجز ولا تصيبه السآمة والملل. وكثرة التفكر تنمي المَلَكة، ف (كثرة المزاولات تعطي الملكات، فتبقى للنفس هيئة راسخة وملكة ثابتة) [5] . كما أنّ الفكر المنظم المدروس هو الذي يبني العقل ويجعله يستقيم على الطريق،

وأما العشوائية والارتجالية في التفكير فإنها تشتت الذهن وتفرّق الهم.

أما الإنسان الذي لا يفكر، أو يفكر بطريقة رتيبة أو عشوائية، فإنه

بالضرورة إنسان عاجز لا يقوى على إعطاء التصور الصحيح للمسائل، بل قد

يقوده تفكيره أحياناً إلى التخبط والاضطراب.

5- اطلاعه على التجارب والخبرات البشرية في القديم والحديث محاولاً قدر

الطاقة اختزانها في عقله لكي يستطيع توظيفها التوظيف الأمثل إذا دعت الحاجة إلى

ذلك. والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

6- تحرره من التقليد الأعمى بكل صوره وأشكاله؛ فهو يستفيد من أشياخه

وأصحابه وغيرهم، ثم ينطلق بفكره الحرّ، يتلمّس مختلف السبل بعقلية ناضجة

مستقلة؛ وليس كل الناس يقوى على ذلك؛ فأصحاب الفكر هم المعادن الكريمة

النادرة، وهم القادرون على ريادة الأمة، وأما عامة الناس فهم همج رعاع أتباع كل

ناعق، وبين هؤلاء وأولئك فئام من الناس أخذوا من كل فريق بطرف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015