قضايا دعوية
(2/2)
د. حمدي عبد الحفيظ شعيب
في الحلقة الأولى وقف الكاتب مع قصة إبراهيم - عليه السلام - وأحداثها
سواءً مع ابنه وزوجه أو أبيه وقومه؛ يقتبس الدرس تلو الدرس، والعظة بعد
العظة مفصلاً الكلام مع كل وقفة. وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب باقي الوقفات.
-البيان-
الشرط الكمي ... الجماعية:
تنمية روح الجماعية: عندما جاء إبراهيم عليه السلام في المرة الثالثة يزور
ابنه، ويستطلع أحواله، وجده هذه المرة في الديار جالساً يبري نبله تحت تلك
الدوحة التي تركه تحتها صغيراً عندما جاء به أول مرة لتلك الديار، فقام إسماعيل
عليه السلام فصنعا ما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد من التسليم والمعانقة والتقبيل
ونحو ذلك، ثم قال إبراهيم عليه السلام: (يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر! ! قال:
فاصنع ما أمركَ ربُكَ. قال: وتعينني؟ قال: وأعينُكَ. قال: فإن الله أمرني أن
أبني بيتاً ها هنا وأشار إلى أكمةٍ [1] مرتفعةٍ على ما حولها فعند ذلك رفع القواعد
من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء،
جاءَ بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني أثناء البناء، وهو مقام إبراهيم
الآن وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ] . [البقرة: 127] [2] .
من هذه الحادثة، في تاريخ تشييد هذا البيت، نستشعر كيف أن الخليل عليه
السلام بعد أن عرّفه الحق سبحانه مكان البيت، ثم أوحى إليه سبحانه بأن يبنيه،
ذهب إلى المكان، ثم طلب معونة ابنه عليهما السلام والذي لم يتردد كالعهد به دائماً
مع والده، فبادر وشاركه في بناء هذا الصرح العظيم.
وهكذا انتقل هذا المشروع العظيم إلى مرحلة جديدة، وآن لحامل تلك المهمة
العظيمة أن ينتقل بها إلى أرض الواقع؛ إلى التطبيق. لقد انبعثت من قلب الخليل
عليه السلام، وبوحيٍ من الله سبحانه، لتترجم إلى عمل عظيم، وكان من
ضروريات الحركة في مجال التطبيق أن تقوم على عمل جماعي يشارك فيه كل من
يقدر عليه، وذلك بعد إعداده وإعداد أسرته لتحمل التبعات.
ومن هذه اللمحة الإبراهيمية التربوية، يستشعر الداعية أهمية (الشرط الكمي)
للمشروع الحضاري المنشود لإنقاذ الأمة، أي ضرورة العمل الجماعي، وأهمية
انتقاء الأفراد المشاركين؛ فالتنفيذ يستلزم جماعية، والجماعية لا يقوم عليها إلا من
أعد لها.
وهذا الملمح يرسم تحذيراً يربأ بالداعية عن خطر الفردية، ويذكره بمصير
الشاة القاصية، كما حذّر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشيطان
ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، وإياكم والشعاب، وعليكم
بالجماعة والعامة) [3] .
وهو أيضاً، يرسم ويخط أملاً عظيماً، وغاية منشودة: (من أراد بحبوحة
الجنة فليلزم الجماعة) [4] .
الشرط المكاني ... الأرض:
أهمية وجود نقطة تجميع وانطلاق: وهذا المرتكز الدعوي والمعلم المهم
نستشعره من قوله سبحانه وهو يقص على أجيال حملة المنهج الإلهي في كل عصر
وفي كل مكان تلك الخطوة المهمة في تاريخ هذا العمل العظيم، والمشروع الكبير:
[وَإذْ بَوَّاًنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ] [الحج: 26] ، [وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ
البَيْتِ] [البقرة: 127] .
هكذا أراد الحق سبحانه أن تكون الخطوة العظيمة في هذا العمل العظيم، أن
يُحدد المكان المختار، وأن تُحدد له الأرض التي سيقام عليها.
فلا بد من مركز تجميع وانطلاق، مركز يجتمع حوله المؤمنون بالفكرة،
ويثوبون إليه، ويحتمون به. وهو في الوقت نفسه مركز لانطلاق الفكرة؛ فراية
الخير تحتاج إلى مكان توضع عليه، ويُعرف بها.
وأي فكرة وإن كانت صحيحة وأصيلة لا بد لها من عوامل تجعلها فعالة، ولا
بد لها من شروط تجعلها قابلة للتنفيذ.
وأهم هذه الشروط هو وجود الأرض التي ستترجم عليها عملياً، ثم تنطلق
منها.
هكذا فهمها رائد الدعاة وسيد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم-؛
وكان مشروع الهجرة الكبير إلى المدينة، ليجعل منها وذلك بعد دراسة وتخطيط
مرتكزاً للانطلاق، ومركزاً للإشعاع الحضاري، وأرضاً صالحة ثابتة راسية
توضع على قمتها علامة التجميع ومنارة الهدى، وتثبت فوقها راية الخير.
وعلى المربين أن يركزوا على أهمية هذا المَعْلم الدعوي العظيم الذي يعتبر
من أخطر المنعطفات في سير الدعوة؛ لأهميته بالنسبة للفكرة ولحامليها.
ظاهرة التآكل الروحي:
تنمية الجانب الروحي: ورد عن الخليل عليه السلام في سياق قصة بناء
البيت الحرام عديد من المواقف التي كان يداوم فيها على التوجه إليه سبحانه
بالأدعية الطيبة التي شهدت لها الأحداث بعدها بالقبول والاستجابة، منها: [رَبَّنَا
إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]
[ابراهيم: 37] .
ومنها: [وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ
مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ
النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ] [البقرة: 126] .
ومنها: [وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ
أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
[البقرة: 127 - 129] .
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة
العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه
لورثة الأنبياء وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم. إنه طلب القبول؛ هذه هي الغاية؛ فهو عمل خالص لله، والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول؛ والرجاء
في قبوله متعلق بأن الله سميع الدعاء.
ثم تأتي الدعوة التي تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن؛ فإن أمر العقيدة هو
شغله الشاغل، وهو همه الأول، وهو الشعور بنعمة الإيمان الذي دفعهما عليهما
السلام إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا
الإنعام، وهو نعمة الإيمان، وأن يريهم جميعاً مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن
يتوب عليهم؛ لأنه هو التواب الرحيم، وألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة
بأن يبعث في أهل بيته رسولاً منهم، فاستجاب الله لهما، وأرسل من أهل البيت
محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة
بأمر الله، الوارثة لدينه. وكانت الاستجابة بعد قرون وقرون؛ إن الدعوة
المستجابة تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته؛ غير أن الناس يستعجلون [5] .
من هذا الملمح الطيب، يمكننا أن نتبين أهمية تلك الدعامة المهمة التي
ذكرناها تحت الركيزة الثامنة التي تدعو إلى وجوب (تنمية فن استمطار التوفيق
الإلهي) ، وذلك بالدعاء الخاشع، والثقة فيما عنده وحسن الظن به سبحانه ولذلك
فإننا نقول: إن دعائم طريق الداعية ثلاث: الفكرة الربانية، والعمل الدؤوب،
والدعاء الخاشع.
إنها أسرار مباركة للدعاء، لا يشعر بها إلا من مر بتجربة خاصة يستشعر
فيها كيف أن الحق سبحانه يمن على عباده المتقربين إليه، المتذللين له بأنواع
العبادة المختلفة، فيجدونها وقد استحالت من مجرد قوى معنوية، إلى قوى مادية
ربانية ذات آثار ملموسة ومعلومة. وبذلك يُفتح للعبد أبواب متعددة من أبواب
التربية الروحية.
ولقد كانت وصايا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء وآثاره القوية
العظيمة تفوق الحصر، منها: (لا يُغني حذرٌ من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما
لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة) [6] .
من هذه اللمحة التربوية، نستطيع أن نضع أيدينا على بعض الحلول التي
تفيدنا في علاج ظاهرة تربوية مرضية وهي (ظاهرة التآكل الروحي) عند الداعية،
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة وهي:
طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح؛ حيث يقل حظ الجانب الروحي في
أعمال العبد مثل التفريط في بعض الفرائض وغيرها من أعمال اليوم والليلة من
السنن، كالذكر والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن، وينشأ نوع من الانفصام
المركب: داخلياً يستشعر فيه العبد قسوةً وجفاءً مع نفسه، وخارجياً يستشعر فيه
قسوةً وجفاءً مع الوجود كله، فيتنكران له؛ فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي
يعرفهما. وخطورة هذه الظاهرة هو أن هذا التآكل يهدد الأساس الذي يبني الربانيين
الذين سيحملون القول الثقيل ليس إلى البشرية فقط، بل إلى الوجود كله، وتدبر
مغزى هذه التوجيهات الكريمة المبكرة في عمر الدعوة والداعية: [يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ
(?) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (?) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (?) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ
تَرْتِيلاً (?) إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (?) إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ
قِيلاً] [المزمل: 1 - 6] .
العلاقات الصحيحة:
أهمية بناء الثقة بين الأفراد: وفي تدبرنا لطبيعة العلاقات الداخلية بين أفراد
هذه الأسرة المباركة الطيبة؛ وذلك من خلال قراءتنا لمواقفهم في كل مراحل بناء
البيت الحرام، يمكننا ملاحظة الآتي:
1- علاقة الزوج والأب بالأفراد: وبتأملنا سيرة الخليل عليه السلام مع
أسرته، نجد العلامة الواضحة فيها هي بروز الدور التفقدي والراعي لهم جميعاً،
دون محاباة لأحد على حساب أحد، ولكن ما يهمنا هنا هو ثقة إبراهيم عليه السلام
في زوجته؛ بحيث يستأمنها على وليده ووحيده، وينطلق وكله ثقة في رعايتها له
في تلك الظروف الصعبة، ثم ثقته في ولده عليه السلام عندما طلب منه تغيير
زوجته، ثم مشاركته في بناء البيت الحرام.
2- علاقة الزوجة بزوجها: فتدبر تلك القناعة الرفيعة، وذلك الرضى السابغ
الذي ملأ قلب هاجر المؤمنة الصابرة حين تركها ووليدها وحيدين في الصحراء؛
وهذا لا ينشأ إلا في ذلك الجو الصحي الذي يظلل العلاقة بينها وبين زوجها؛ ذلك
الجو أو البيئة التي تقطر ثقة واحتراماً.
3- علاقة الابن بوالده: في المواقف المختلفة لإسماعيل مع والده عليهما
السلام أثناء زيارة الخليل عليه السلام الأولى إلى أسرته في مكة، وقصده المكان
الذي تركهما فيه.
فتدبر هذين الموقفين العظيمين من إسماعيل مع أبيه عليهما السلام وهو يطيع
توجيهاته كما تصله من زوجته، وما يوحيانه في النفس من إكبار وإجلال لتلك
العلاقة القدوة بين الابن وأبيه، والمبنية على الثقة والاحترام.
ثم في أثناء الزيارة الثالثة، عندما قصده والده عليهما السلام لإعانته على بناء
البيت.
وعندما نأتي إلى قمة المحنة؛ حيث تعرضت هذ العلاقة لاختبار عظيم،
عندما أمر الله عز وجل إبراهيم عألأيه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام:
[قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ] [الصافات: 102] .
فتدبر أيضاً هذه المبادرة إلى الطاعة بمجرد أن يأمر الوالد ولده، وذلك في كلا
الموقفين العصيبين، وما كانت هذه الطاعة لولد إلا في أجواء الثقة العميقة.
ونستزيد من سيرة القيادة العظيمة في مجال آخر، من مواقف الحبيب -صلى
الله عليه وسلم- والجنود من حوله، ونستشعر مدى الثقة العظيمة المتبادلة التي
كانت تظلل العلاقة بينهم، وما تؤدي إليه من حب للبذل، واستشرافٍ للعطاء،
وقوةٍ في البناء.
لأنه (على قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة،
وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من
عقبات وصعاب، [فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ] [محمد: 20، 21] ،
والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات) [7] .
ولنا أعظم مثال في ثقة الجندي في قيادته ما كان من موقف أبي بكر رضوان
الله عليه عندما سعى إليه رجال يسألونه عن حادث الإسراء والمعراج، فقال قولته
الخالدة: (إن كان قال ذلك فقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني
لأصدقه على أبعد من ذلك. فسُمي من ذلك اليوم صديقاً) [8] .
وتدبر ثقة القيادة المتبادلة، في جنودها وأنصارها، فيما رواه أبو هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بينا راعٍ في غنمه
عدا عليه الذئب أي هجم عليه فأخذ منه شاة، فطلبه الراعي أي أراد إنقاذ الشاة منه
حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع أي عند الفتن
حين يتركها الناس نهبة للسباع، يوم ليس لها راع غيري؟ !) فقال الناس:
سبحان الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فإني أومن بذلك أنا وأبو
بكر وعمر) [9] .
وظيفة عظيمة ... وأجرٌ أعظم!
أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود: لقد أمر الحق سبحانه الخليل اأن
يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم؛ ووعده بالإجابة: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] [الحج: 27] ، (أي: نادِ
في الناس بالحج داعياً لهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فُذكر أنه
قال: يا رب كيف أبلّغ الناسَ صوتي ولا ينفذهم. فقال: نادِ وعلينا البلاغ. فقام
على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال:
يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجّوه. فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ
الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء
سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم
لبيك) [10] .
من هذه اللمحة التاريخية، يمكننا أن نضع أيدينا على قاعدة ذهبية من قواعد
الدعوة إلى الله عز وجل وركيزة هامة من ركائز البناء.
ونحن نضيف بها مَعْلَماً جديداً، وهو أن حَمَلَة هذه الفكرة الربانية العظيمة،
ودعاة هذا المشروع الحضاري، قد كلفهم الحق سبحانه بوظيفة ووعدهم بالأجر
العظيم على حسن أداء تلك الوظيفة.
أما الوظيفة: فهي هداية الناس إلى هذا المنهج، وإرشادهم إلى الحق والهدى، وهو دور عظيم يقع بمجرد البلاغ: [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ]
[النحل: 35] ، ويتضح ذلك في أمره سبحانه لإبراهيم عليه السلام: [وَأَذِّن فِي
النَّاسِ بِالْحَجِ] .
وأما الأجر: فهو عظيم وشامل وسابغ، ويمتد من الدنيا إلى الآخرة، فيبدأ
من تضاعف الثواب: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) [11] ويرقى إلى
بلوغ مقام الخيرية والشهادة على الخلق؛ لأن خيرية هذه الأمة، إنما كانت
بخروجها إلى الناس، والاختلاط بهم، ودعوتهم إلى الخير، ونهيهم عن الشر،
وإيمانها بالله سبحانه: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] [آل عمران: 110] .
ثم يصل إلى الجزاء العظيم؛ وهو النجاة في الدنيا والآخرة: [وَلَمَّا جَاءَ
أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ]
[هود: 58] .
وهذا الأجر يقع بمجرد الدعوة، ولا يتوقف على الاستجابة: [فَإنْ أَعْرَضُوا
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ] [الشورى: 48] ؛ لأن أمر
الهداية بيده سبحانه: [إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ]
[القصص: 56] .
إذن فلا حرج على الداعية ولا تثريب ولا إحباط إذا لم يثمر بلاغه، ولم
يستجيبوا له: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً]
[الكهف: 6] ، وتدبر أمر الحق سبحانه للخليل عليه السلام: (نادِ وعلينا البلاغ) .
أي أدّ دورك بأمثل طريقة، ودع النتائج عليه سبحانه.
والداعية يخرج من هذا الملمح التربوي الفريد بسهام وافرة الغنائم حول فقه
هذه الوظيفة من حيث ماهيتها ومنهجية تنفيذها والأجر المترتب عليها، وكيفية تلقي
التكاليف وحسن تنفيذها، وحسن عرض البضاعة الربانية العظيمة، وضرورة
استشعار خطورة بلوغ درجة البلاغ المبين للفكرة، وفهم الدور المطلوب،
واستشعار عظم الأجر.
ثم وهذا هو الأهم استشعار هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر ودور
المدد الرباني في تنفيذ المشروع الحضاري المنشود. وهذه النقطة هي النبراس
الذي يعطي الأمل للعاملين، وهي العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من
أصحاب المشاريع المغايرة.
السنن الإلهية ... وحماقة الوعل [*] !
أهمية فقه سنة المرحلية والتدرج: هكذا كان منهج التكليف يسير بتدرج ليس
فيه تعسف، وبمرحلية ليس فيها تعجل، وبخطة تأخذ في الاعتبار سمو الهدف،
ومبلغ الإمكانيات، وكثرة المعوقات.
لقد أمر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام أن يُسْكن زوجه وولده في ذلك
الوادي المقفر، ثم تركهم وكرر زياراته لهذا المكان ليتفقد أحوال أسرته المباركة
المرشحة لهذا العمل والمشروع العظيم، وكانت تلك هي مرحلة الإعداد والتهيئة.
وبعد ذلك عرّفه الحق سبحانه مكان البيت، وسلمه له، وملكه أمره؛ فكانت
هذه مرحلة إعلان نقطة الانطلاق.
ثم أمره أن يقيم البيت على أساس قاعدة التوحيد؛ فيكون خالصاً له سبحانه
وحده، وأن يجهزه تجهيزاً خاصاً، وكانت هذه بمثابة مرحلة إعلان الفكرة العظيمة
للمشروع العظيم.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الانطلاق والدعوة للفكرة العظيمة؛ حيث أمره أن
ينادي في الناس بالحج، وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس
دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيدة، مشاةًَ على أرجلهم، وركوباً على كل بعير
مهزول من بُعْد الشقة. وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدة
من الناس تهوي إليه تلبية لدعوته عليه السلام منذ آلاف الأعوام؛ وذلك حتى يتحقق
المطلوب، وتتحقق غايات هذا اللقاء السنوي العظيم.
وهكذا الشأن في أمر الأعمال الكبرى، والمشاريع الحضارية العظيمة أن
تسير في مراحل، وكل مرحلة لها فقهها ولها ظروفها، وأن تتم هذه المرحلية في
تدرج ومنهجية حتى تبلغ الهدف المنشود؛ وذلك؛ لأن (التدرج سنة كونية، وسنة
شرعية أيضاً. ولهذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادراً أن
يقول: كوني فتكون؛ ولكنه خلقها في أيام ستة من أيام الله تعالى أي في ستة أطوار
أو أزمنة يعلمها الله. وفي هذا المعنى تقول عائشة رضي الله عنها واصفة تدرج
التشريع ونزول القرآن: (إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة
والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنوا لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنى أبداً [] 12 [] 13 [.
وقد يستعجل بعض الناس الخُطى، كما استعجل ذلك الفتى الصالح المتحمس
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليهما عندما دخل على والده
مستبطئاً ومستعجباً من سياسة والده التدرجية، فقال: (يا أبت! ما يمنعك أن
تمضي لما تريده من العدل؟ ! فوالله ما كنتُ أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني! إني إنما أروّض الناس رياضة الصعب أي الجمل الفحل العنيد إني
أريدُ أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا،
فينفروا من هذه، ويسكنوا لهذا) ] 14 [.
حتى إذا عاوده الاستغراب كرر محاولته ودخل على أبيه، فقال: يا أمير
المؤمنين! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعة فلم تُمِتها، أو سنة
فلم تُحْيِها؟ ! فقال أبوه: رحمك الله من ولد خير. يا بُني! إن قومك قد شدوا هذا
الأمر عقدةً عقدة، وعروةً عروة، ومتى أردتُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم
لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن
يُهراق في سببي محجمة من دم، أَوَما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام
الدنيا إلا وهو يُميتُ فيه بدعة ويُحيي فيه سنةً؟ !] 15 [.
لهذا كان على المربين من الدعاة ألا يغفلوا هذه الركيزة، وذلك المعلم الدعوي
المهم، والسنة الإلهية العظيمة، ولا يتعجلهم متعجل، ولا يستبطئهم مستبطئ.
ظاهرة بخس الناس أشياءهم:
بث روح التقدير والتشجيع: وعندما نستمر في قراءتنا لهذه الأوراق، فإنه
يستوقفنا على إحدى صفحات الملف هذا المعلم القرآني الفريد:] وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ
إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً [] مريم: 41 [، وهي دعوة قرآنية تدعو الحبيب -
صلى الله عليه وسلم- وكل من سار على دربه أن يستزيدوا من سيرة الخليل عليه
السلام بقراءة دعوته، والاستفادة من منهجيته. وتتجاوز هذه الدعوة عمقها التربوي
العظيم بهذا التقدير والتشريف الكريم؛ حيث وسمت ملف الخليل عليه السلام بختم
رباني وعلامة مميزة يُعرف بها، وهي:] إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً [أي كثير الصدق أو
كثير التصديق.
وفي موضع آخر أثناء الحديث عن الخليل عليه السلام، نعرف أحد أسباب
هذا التقدير والتشريف الموحى به عن خليل الرحمن:] وَإبْرَاهِيمَ الَذِي وَفَّى [
] النجم: 37 [، قال سعيد بن جبير والثوري: أي بلّغ جميع ما أُمر به. وقال ابن
عباس:] وَفَّى [لله البلاغ، وقال سعيد بن جبير:] وَفَّى [ما أمر به، وقال
قتادة:] وَفَّى [طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه. وهذا القول هو اختيار ابن
جرير وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله تعالى:] وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً [] البقرة: 124 [، فقام بجميع الأوامر، وترك
جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال؛ فاستحق بهذا أن يكون للناس
إماماً يُقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله) ] 16 [.
فتدبر هذا التكريم والتشريف والتقدير الإلهي للخليل عليه السلام الذي وفّى كل
ما أُمر به، وقدّم نموذجاً طيباً في البذل، وفي إنشاء مشروع حضاري متكامل.
وتأملْ كيف أن إبراهيم عليه السلام وهو من هو كان في حاجة للطيفة ربانية
تشعره بالتقدير لتاريخه الناصع، وكذلك بالامتنان على دوره الدعوي، وعلى
طاعته لربه جل وعلا فما بالك بمن هو دون تلك القمة، ويسكن السفح؟ ! ويكون
في مسيس الحاجة لكلمات تقديرية بسيطة.
من هذه اللطيفة الربانية الكريمة، نستشف مدى السمو والرقي الأخلاقي الذي
يتعلمه الناس من هذا القرآن؛ حيث ورد في غير موضع لمحات تربوية قرآنية كلها
تحث على وجوب بث روح التقدير وتنمية خلق التشجيع؛ وذلك لكل من شارك في
أي بذل، وفي أي مجال من شأنه أن يُسدي خيراً للناس.
وعلى هذا النهج التربوي، ومن هذا المعين الصافي نجد أن حَمَلَةَ مشعل
الدعوة على مر التاريخ البشري، ورواد مسيرة الحركة الدعوية قد خَطّوا معالم
خالدة في هذا الباب، ويقف في المقدمة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في وصيته
الرائعة: (أنزِلوا الناس منازلهم) ] 17 [.
ولو تدبرنا الجانب الأخلاقي في دعوة نبي الله شعيب عليه السلام لوجدناه
يتمثل في قوله - تعالى -:] وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [، وهي دعوة كريمة،
إلى عدم بخس أشياء الناس؛ ولو استشعرنا مغزاها التربوي البعيد لوجدناه يشمل
عدم بخس أي شيء من أي نوع مثل: تقدمهم في العمر، ومكانتهم، وسبقهم
الدعوي، ودورهم الريادي، وتقدير كل ما يقدمونه من خير، وكذلك تشجيعهم على
أي عمل أو بذل، بل أيضاً بمدح ما يسعدهم من صفاتهم!
وخطر تجاهل هذا المعلم تربوياً من شأنه أن يؤدي إلى ظاهرة دعوية مرضية
تسمى: (ظاهرة بخس أشياء الناس) والتي من أدنى مظاهرها تجاهل أعمال الآخر، ومن أعلاها التجريح لأعماله وصفاته، ومن أبسط آثارها على الآخر هو الإحباط، والتثبيط، ومن أخطرها الجروح النفسية التي قد تستعصي على العلاج! ومن
آثارها على صاحب هذا السلوك أنه من جهة: يصنف نفسه مع نوعية مذمومة
سلوكياً قال عنها سبحانه:] كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا [] الأعراف: 38 [، ومن
جهة أخرى: أنه يظلم نفسه، ويحرمها من أن يضمها ركب نوعية ممدوحة؛ حيث
ينسى أنه (لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل) .