مجله البيان (صفحة 3110)

قضايا ثقافية

بين العقل والنقل....

كلام في موضوع قديم يتجدد

عبد العزيز بن محمد التميمي

مشكلة تعارض العقل والنقل مشكلة قديمة، ظهرت أوّل ما ظهرت بشكل جادّ

في الفكر الإسلامي عند ترجمة الفلسفة اليونانيّة، ذلك أنّ تلك الفلسفة كانت مبنية

على ما يسمى بالمنطق الصوري، الذي يعطي التأمل العقلي المحض إمكانات أكبر

بكثير مما يستحقه.

كان اليونان يعتقدون أن العقل وحده مصدر المعرفة اليقينية، ولا يرون حدوداً

لإمكانياته، وكان من أخطائهم الكثيرة في هذا المجال استخفافهم بكل مصدر آخر

للمعرفة غير العقل حتى المصدر الحسي، والتأمل في الكون، والسير فيه لجمع

المعلومات والاستقراء العلمي.

حصل هؤلاء الفلاسفة بهذه المناهج على معارف بعضها صحيح، والكثير

منها زائف لا قيمة له. وعندما ترجمت هذه المناهج والمعارف بهرت كثيراً من

أبناء المسلمين الذين لم تكن لديهم الكفاية في المعرفة بالعلم المادي ولا العلم الشرعي

... ومن هنا جاءت المشكلة: إذا تعارض العقل والنقل فأيهما نقدم؟ ! ويقصدون

بالعقل: مناهج البحث اليونانية ومجموعة المعارف الحاصلة منها. هنا تفاوتت

أجوبة هؤلاء الدارسين للتراث اليوناني بين معجب غاية الإعجاب بهذا التراث،

ومستخفٍّ غاية الاستخفاف بكل شيء يخالفه أو يختلف معه.. وعُرف هؤلاء

بفلاسفة الإسلام ك (الفارابي، وابن سينا) حتى لقد جرؤ بعضهم على التصريح بأن

الوحي إنما هو لعامة الناس الذين تقصر ملكاتهم العقلية عن الوصول إلى المعارف

اليقينية عن غير طريق الوحي، أما الفلاسفة الذين يملكون هذا الاستعداد فهم في

غنى عن هذا الوحي ... [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] [الكهف: 5] ! وقد

اتفق علماء الإسلام على أنّ من قال بمثل هذا القول أو اعتقد مثل هذه العقيدة فقد

خلع ربقة الإسلام من عنقه.

وكان لفريق آخر رأي مختلف؛ حيث رأى المتكلمون (كالغزالي والرازي) أن

الوحي مصدر للمعرفة، كما أن العقل مصدر للمعرفة، فإذا تعارضا فإنه يقدم العقل

باعتباره أصلاً للنقل، لأن الإنسان آمن بعقله أولاً، ثم تابع الوحي بعد ذلك.

وطائفة من الفقهاء والعلماء رأت أن فلسفة اليونان وكل ما صدر عنها من اعتقاد

فلسفي أو نتاج علمي إنما هو زبالة أذهان البشر، لا يستحق الدرس والعناية به،

ولا خير فيه على الإطلاق، ومن يدرسه أو يتعلمه فلا ثقة في دينه فضلاً عن أن

يعارض به وحي رب العالمين - سبحانه وتعالى -.

لم تكن هذه كل الآراء في المسألة، فقد كانت هنالك طائفة رابعة أبرز من

مثَّلها وتكلَّم بلسانها وفصلّ رأيها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث لم

يرفض كل النتاج اليوناني، لكنه في الوقت ذاته لم يقلل مطلقاً من قيمة النصّ

الشرعي، وانما عمد إلى مراجعة السؤال القديم من منظور جديد نفصله كما يلي:

إذا تعارض العقل والنقل فهنالك عدة احتمالات: أن يكونا قطعيَّيْن، أو يكونا

ظنِّيَّيْن، أو يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.

في الحالة الأولى يستحيل أن يتعارض قطعي العقل من قطعي النقل؛ وذلك

لأن خالق العقل والكون هو منزِّل النص والوحي [أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ]

[الأعراف: 54] ، [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك: 14] وهذه

كانت أبرز وأخطر إضافات الشيخ - رحمه الله - بهذه القضية الجدلية القديمة.

أما في الحالة الثانية، فإذا تعارض القطعي مع الظني قُدّم القطعي سواء كان

عقلياً أو نقلياً. ولنضرب أمثلة على هذه الحالة لأهميتها [1] :

كان من المسائل العقلية الظنية فيما سبق الاعتقاد بأن الشمس ثابتة والأرض

تدور حولها، وكان هذا الظن مخالفاً لقطعي النصّ الذي يقول: [والشَّمْسُ تَجْرِي

لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا] [يس: 38] ومن ثم يجب رفض هذا الظن العلمي الذي ثبت بطلانه

بعد التقدم العلمي.

أما عن ظني النصّ الذي يتعارض مع قطعي العلم فهو ما فهمه بعض الناس

من قول الله -تبارك وتعالى-: [واللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً] [نوح: 19] أن

الأرض منبسطة مستوية بينما قطعيات الحسّ والعلم تفيد بأن الأرض كرويّة، ومن

هنا قُدِّم هذا القطعي على الظني علماً بأن هنالك نصوصاً ظنية الدلالة تفيد بأن

الأرض كروية، مثل قوله - تعالى -: [يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ويُكَوِّرُ النَّهَارَ

عَلَى اللَّيْلِ] [الزمر: 5] وقوله -سبحانه-: [والأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا]

[النازعات: 30] .

هذا عن الحالتين الأوليين، أما عن الحالة الثالثة، فإن الشيخ يقول: إذا كان

العقل والنقل ظنيين قُدِّم أكثرهما رجحاناً وقرائن، عقلياً كان أو نقلياً ... هكذا بيسر

وسهولة حل الشيخ المعضلة القديمة حلاً يريح القلب ويرضي العقل ... دون أن

يقلل من هيبة النص ولا يضعف من مقدرة العقل؛ فرحمه الله رحمة واسعه.

انطلق الشيخ بعد ذلك يفنّد تفنيداً مفصلاً أقوال الطائفتين: الفلاسفة،

والمتكلمين ويبين تهافتها في مجال العقل والنقل؛ وكيف تناقض هؤلاء وتشككوا ولم

يصلوا إلى يقين البتة؛ سواء كان هذا فيما يسمونه بالسمعيات أي الغيبيات أو ما

وراء المادة مثل صفات الله - تعالى - وملائكته واليوم الآخر والجنة والنار.. إلخ

أو كان هذا في الطبيعيات والنظر الكوني والرياضي والمنطقي. وكان في مناقشاته

ومعالجاته أميناً عادلاً، ينقل قول الخصم بالنص ومن كتابه، ثم يطيل النفس في

بيان تهافته وضعفه، وقد دفعه هذا إلى كثير من التكرار بسبب تشابه حججهم وأخذ

بعضهم عن بعض.. فجاء كتابه طويلاً جداً في عشرة مجلدات جعلت من الصعب

على الكثيرين في عصر السرعة أن يجدوا وقتاً كافياً لدراسته تفصيلاً، ومن هنا قام

الدكتور الجلينيد المعروف بعنايته بتراث ابن تيمية بمحاولة اختصار وتقريب هذا

العمل العظيم، وقد حالفه الكثير من التوفيق وجاء كتابه في مجلد واحد (290

صفحة. في عشرة فصول) لكن هذا الاختصار الشديد جعله يحذف الكثير من

المسائل المهمة التي يستطيع المتخصص مراجعتها في الأصل الذي طبعه بعناية

كبيرة الأستاذ محمد رشاد سالم -رحمه الله -.

بقيت ملاحظة أخيرة ... حبذا لو أُعيدت صياغة النصّ بأسلوب أيسر من

أسلوب شيخ الإسلام.. خاصة وأن شبابنا قد تعوَّد على الثقافة الصحفية.. ثقافة

(الساندوتش) ! .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015