عبد العزيز الحامد
فتاة بغطاء رأس وملابس أقرب إلى التبرج منها إلى الحجاب؛ بحيث لو رآها
أحد المحتسبين في بيئة محافظة لأنكر عليها، ومع ذلك تنتفض دولة بقضِّها
وقضيضها، وبعسكرييها ومدنييها المتنفذين فيها، وبسلطاتها التشريعية والتنفيذية
لكي تصد هذا (الاقتحام) ! إذ كيف تجرؤ الفتاة التركية (مروة قاوقجي) العضو في
حزب (الفضيلة الإسلامي) أن تتحدى الأتاتوركية المتغطرسة في عقر دارها،
وتغطي على مبادئها الشائهة الشائخة بحجابها؟ !
لقد أثار العلمانيون المتحجرون أدعياء التنوُّر زوبعة كبرى في البرلمان
وخارجه، معتبرين دخول الفتاة بذاك الحجاب المختزل مناهضة للدستور والقوانين
والقواعد المرعية فى البلاد، وتعاملوا مع تلك الغلالة البيضاء على رأسها كما لو
كانت راية نصر سوف ترفرف يوماً على سماء دولة الخلافة (سابقاً) ! ... فماذا
حدث؟
- نحو مئة من (الرجال) أعضاء البرلمان هبوا واقفين يصرخون في وجه
النائبة ويوسعونها ذماً وشتماً..!
- الرئيس التركي سليمان ديميرل اتهم النائبة صراحة بأنها عميلة لأعداء
تركيا وقال: إنها جزء من مؤامرة ضد البلاد!
- رئيس الوزراء (بولند أجاويد) هاجمها مواجهة داخل (البرلمان) ودعا بعد
ذلك لتأييد (الشجب الشعبي) للتصرف المخجل الذي قامت به النائبة!
- المدعي العام التركي (فورال صافاش) طالب بحظر الحزب الذي تنتمي إليه
النائبة بدعوى أنه يقوم باستغلال الدين لأغراض سياسية! ووصف التيار الإسلامي
في تركيا بأنه كالسرطان الذي لا بد من استئصاله.
- ثم تترجم السلطات التركية هذه الصيحات المتشنجة إلى إجراءات عاجلة
تهدف إلى حل حزب الفضيلة، وفصل النائبة وطردها وحرمانها من الجنسية
التركية! !
لحظات تحكى تاريخاً:
إن بين دخول النائبة المحجبة وخروجها من (البرلمان) لحظات تحكي قصة
سنوات بل قرون من تاريخ الصراع المستميت على أرض (القسطنطينية) التي
فتحها الأتراك بين قوة الحق الناهض وقوى الباطل المناهضة! فالقسطنطينية التي
رفعت رايات الوثنية دهوراً أراد الله - سبحانه - بها خيراً بعد أن جاء الإسلام،
فانبعثت بخصوصها بشارة على لسان النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- تنبئ عن
مستقبل وضيء في ظل التوحيد يعلو تلك البلاد، فيفجر النور في جنباتها ربما
لأول مرة في تاريخها الذي لوثته سيرة الشرك ومسيرة الوثنية. نعم؛ فقبل أن
تنساح جحافل الإسلام لتحرر القسطنطينية من شر نفسها قبل غيرها، كانت كلمات
الوحي المعصوم تنداح على لسان الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- لتفتحن
القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشها [1] ومن يومها تفتحت
الأعين نحو ذاك الفتح، طمعاً في حيازة الفضل والبُشرى، حتى إن مسلمة بن عبد
الملك ما إن سمع الحديث من راويه حتى أعد لغزو القسطنطينية، وما إن تمت
فتوح الشام في العهدين الميمونين للخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر - رضي الله
عنهما -، حتى وجه الخليفة الثالث عثمان - رضي الله عنه - الصحابي لجليل
معاوية بن أبي سفيان لركوب البحر والتوجه صوب الشمال، فبدأ - رضي الله عنه- بغزو قبرص، ثم تتابعت المحاولات، وظلت جيوش الإسلام تدق أبواب أوروبا
من الجهة الشرقية مرة ومن الجهة الغربية مرات، لعلها تفلح في إحداها في تحقيق
تلك النبوءة المحمدية بفتح القسطنطينية، ولكن هذه النبوءة لم تتحقق إلا بعد ثمانية
قرون.
وشاء الله - أن يدَّخر تحقيق الفتح لقوم آخرين من الأتراك الذين أسلموا
وكانوا يعيشون في أواسط آسيا، وقد حدث أن قبائل منهم هاجرت من أراضيها بعد
زحف المغول نحو بلادهم، وانتقلت تلك القبائل في القرن السابع الهجري، الثالث
عشر الميلادي، لتكون إمارات في غرب الأناضول؛ حيث نشأت هناك أسرة
حاكمة منهم ارتبط اسمها باسم الغازي الأول عثمان بن أرطغرل، ثم فتح الله على
تلك الإمارات الوليدة فتوغلت غرباً حتى دحرت الجيش البيزنطي، واستمرت في
فترة فتوح متواصلة طيلة قرنين.
الفتح الأول:
مات السلطان بايزيد في الأسر وهو ينافح عن وجود الدولة العثمانية نفسها بعد
أن صرفه الداهية (تيمور لنك) عن فتح القسطنطينية بعد حصارها مدة ست سنوات
بعد أن كادت تتحقق النبوءة على يديه، ولكن شاء الله أن يخرج من نسله من يعيد
دولة آل عثمان إلى وحدتها وعافيتها، واستمر ذلك إلى أن جاء عهد الفاتح (محمد
الثاني) ففتح الله عليه القسطنطينية عام (857 هـ) (1453م) وأطلق عليها اسم (إسلام بول) أي: مدينة الإسلام.
وكان فتح تلك المدينة فتحاً على دولة آل عثمان كلها؛ إذ انتقلت به إلى طور
الدولة العالمية، فانطلق سلاطينها يضمون تحت حكمهم أطراف العالم الإسلامي
التي كانت مشتتة، وتمكن العثمانيون من توحيد الشام ومصر والحجاز وغيرها
تحت راية حكم واحد.
وأصبحت الدولة العثمانية حامية لبلدان العالم الإسلامي وجامعة لشتاتها، مما
حدا بالسلطان (سليم الأول) أن يعلن القسطنطينية عاصمة لدولة جامعة تمثل الخلافة
الإسلامية الرابعة [2] .
ثم تسارعت وتيرة التوسع العثماني تحت لواء الخلافة، وغدت قوة عالمية
مرهوبة الجانب، وقد استرعى هذا انزعاج الإمبراطوريات والممالك العالمية
الأخرى، وأرعبهم أن تكون للإسلام هذه القوة الفتية التي توشك أن تخرج أوروبا- لأول مرة في تاريخها - من غياهب الشرك وغيابات الوثنية!
إن أوروبا التي لم تشرق شمس التوحيد على قارتها يوماً بحيث تعم كل بلدانها
أبت إلا أن تحارب النور الذي أشرق في شرقها بفتح القسطنطينية بعد أن أطفأت
النور الذي أضاء غربها بفتح الأندلس، وقد تكالبت قوى الشر فيها وتربصت
بالدولة العثمانية لإيقاف مدها المتسارع؛ فالنصرانية الكاثوليكية في أوروبا تضامنت
مع النصرانية الأرثوذكسية في روسيا لتشكلا جبهة واحدة بالتعاون مع اليهود في
أوروبا لإيقاف ذلكم الكيان السياسي العالمي الإسلامي ثم إضعافه ثم إسقاطه،
والتحق بهذا التحالف الضال فريق من جماعات الردة الصريحة الشانئة للدين،
والمبغضة لقيمه وشرائعه ممن تسموا بأسماء المسلمين، وتسمموا بأفكار العداء لله
ورسوله والمؤمنين، وكأن هذا الثالوث الملوَّث قد تعاهد عهداً على أن يعيد إغلاق
(القسطنطينية) ويقفل أبوابها حتى لا تخرج منها مرة أخرى بيارق الأمل وبوارق
الضياء في أرض القارة الظالم أهلها.
التحول نحو الضياع:
لسنا بصدد التأريخ لمسيرة التقهقر التي دهت دولة آل عثمان، ولكن الذي
يهمنا هنا هو تتبع الدور المأفون الذي قامت ولا تزال تقوم به العصابات المناوئة
للدين والمتعاونة مع أعدائه ممن حق فيهم قول ربنا: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا
مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ واللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ
المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وجُوهَهُمْ وأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وكَرِهُوا
رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] [محمد: 26-28] .
ومما لا شك فيه أن عوامل الضعف والشيخوخة قد بدت على كيان الدولة
العثمانية في عقودها الأخيرة بما كسبت أيدي بعض سلاطينها، ولكن ذلك الداء كان
يمكن له أن يُداوى لولا حرص عصابات الردة التي ذكرناها على دفن (الرجل
المريض) بدلاً من علاجه.
ففي عام 1889م، وفي ذكرى مرور مائة عام على الثورة الفرنسية أسس
عدد من المشبوهين جمعية عرفت باسم: (الاتحاد العثماني) التي عرفت فيما بعد
بجمعية (الاتحاد والترقي) ، وبدأت نشاطها من باريس، ثم بدأت بتأسيس خلايا
انقلابية داخل الجيش، وفي الوقت ذاته كان الضابط الغامض مصطفى كمال الذي
لُقب بعد ذلك بـ (أتاتورك) يعني: (أبو الأتراك) ينشط داخل الجيش أيضاً من
خلال خلية (الوطن) التي أسسها، وبدأت تلك الخلايا تتحرش بالدولة، وتتناثر
وتتكاثر في محيطها كالجرذان المفترسة إذا اجتمعت على أسد جريح.
وتشكلت جماعات المعارضة العلنية للتنسيق مع اللجان السرية، بعضها في
الداخل وبعضها في الخارج، ولم يأت عام 1908م حتى كان لتلك الحركات وجود
منظم بدأ يسعى بكل إصرار لإطاحة السلطة وإسقاط الدولة، وهذا ما كان، فقد
بدأوا تمرداً عسكرياً ضدها من خلال الجيش الثاني الذي سيطروا عليه، وبدأ
الصراع يأخذ شكل الخلاف بين الجيش والسلطة المدنية؛ حيث أجبر الجيش
السلطان على تسليم السلطة إلى جمعية الاتحاد والترقي.
كان أعضاء جمعية الاتحاد والترقي حفنة لا تزيد عن ثلاثمائة شخص بين
حركيين مدنيين وقادة عسكريين، ولكنهم كانوا يحركون الألوف من الدهماء الذين لا
يرون أبعد من أنوفهم، مما أغرى (مصطفى كمال) بأن ينتزع هو زمام الدهماء
ليقود بنفسه ذلك القطيع إلى الهاوية، وبالفعل، غلبت على ذلك الشخص نزعته
الفردية الاستبدادية، واختلف مع جمعية الاتحاد والترقي، وبدأ ينظم عملاً خاصاً به، إلا أن الاتحاديين كانوا قد سبقوه بمراحل فانقضوا على الدولة وقاموا بثورتهم،
وتحفز مصطفى كمال منتظراً ما ستؤول إليه ثورة الاتحاديين، وراهن على إخفاقها، إلا أنها لم تخفق كمما توقع، بل انتشرت بفعل الرعاع الذين قاموا، لتأييدها هنا
وهناك، واستمرت فترة من الاضطرابات كانت كافية لأن يستفيق فيهما العقلاء بعد
أن صدمتهم الأحداث، وبدأ علماء الدين يدبرون لما يشبه الثورة المضادة، فنشطوا
في المساجد والمنتديات يحذرون من الاتحاديين، متهمين إياهم بالماسونية والإلحاد،
مما جعل الجنود البسطاء ينقلبون على ضباطهم المشاركين في الثورة ويقتلون أعداداً
منهم.
وهنا برز مصطفى كمال ليقدم نفسه منقذاً للاتحاديين حتى لا تضيع ثورتهم،
وتحرك بقوات تابعة له لإخماد الثورة الإسلامية المضادة، فأسكتها بالفعل، ثم
حصل الاتفاق على خلع السلطان عبد الحميد وسجنه في مدينة سالونيك مقر جمعية
الاتحاد والترقي، وقامت أحداث خارجية جرَّت إليها الفتن التي أثارتها البلدان
المجاورة لتركيا بغرض تشتيت شمل دولة الخلافة بعد خلع السلطان، وهنا لاحت
أمام مصطفى كمال الفرصة كي يظهر بمظهر (البطل المنقذ) الحريص على مصلحة
الوطن، وظلت صورته تتضخم حتى قامت الحرب العالمية الأولى، وورَّط
الاتحاديون تركيا فيها مراهنين على الحصان الخاسر (هتلر) ، وهزمت تركيا مع
ألمانيا، واحتل الحلفاء العاصمة والمواضع الحربية المهمة، ودخل الفرنسيون
والإنجليز إسطنبول، وبذلك تحطمت دولة الخلافة نهائياً وهي بيد الاتحاديين أدعياء
الترقي، وانفرط عقد الخلافة وأصبحت البلدان التابعة لها كالشياه التي مات راعيها
وهي بأرض مذئبة في ليالٍ مطيرة، وانسلخت أو سُلخت عن تركيا كل الدول التي
كانت تابعة لها تحت مظلة الخلافة، وشمل ذلك الدول العربية التي ساهمت في
هزيمة تركيا عن طريق (الثورة العربية الكبرى) التي مثلت أول انتفاضة فوضوية
للقومية العربية، وغدت تركيا قوة منهارة دون قيادة محترمة، تواجه مصير الدول
المهزومة الضعيفة التي يتحكم فيها أعداؤها المنتصرون الأقوياء.
وهنا تملص الاتحاديون من المسؤولية بعد أن (خربت مالطة) وحلوا جمعيتهم، وتفرقوا هاربين إلى الخارج تاركين تركيا تلقى مصيرها البائس، وبقي السلطان
الأسير المعزول بلا حول ولا طول، رغم البقاء الاسمي لدولة الخلافة، وبعد
الهزيمة الخارجية الكاملة. وقبل الهزيمة الداخلية الشاملة، برز الوجه الانتهازي
الكالح لأتاتورك مرة أخرى، ليظهر الشماتة في الاتحاديين والتشفي في المسلمين
بصورة لا تليق إلا بأحفاد اليهود الذين لم يبرعوا في شيء مثل براعتهم في التآمر
والمكر.
لقد طالب بأن يُخوَّل منصب وزير الحربية (لإنقاذ) ما تبقى من تركيا فكان له
ذلك، وعاد للظهور بمظهر (البطل المنقذ) وحمَّل السلطنة مسؤولية ما حدث لتركيا
(! !) ونصَّب نفسه قائداً للجماهير التي أغواها وخدَّرها بمقولة (الشعب مصدر
السلطات) وانتخبته تلك الجماهير المضلَّلة زعيماً مستقلاً عن السلطان فزادت بذلك
في غروره وطغيانه، وخطط أتاتورك عن طريق حكومته المؤقتة لإحداث انقلاب
شامل في تركيا، وبدأ بالقسطنطينية فنقل العاصمة منها إلى (أنقرة) في 23 إبريل
1920م، وانتخب أتاتورك رئيساً لما سُمي بـ (المجلس الوطني الكبير) . كل هذا
والأراضي التركية محتلة، وهو يؤدي ما رُسم له أو ما رسمه لنفسه من القيام
بأدوار البطولة ضد المحتل (الأوروبي) ! لقد رأى في المحتلون بعد مدة أنه لا
ضرورة لبقائهم ما دامت تركيا قد سقطت في أيدي أناس مخلصين لها! ومفتونين
بها مثل أتاتورك، فتم توقيع اتفاقية لوزان التي انسحب الحلفاء بمقتضاها من تركيا
ليتركوها ساحة خالية ليتفرد أتاتورك بها، ولكي يبدأ معها عصراً جديداً يعود فيه
بالقسطنطينية إلى ظلمات الفساد والإلحاد، ولم تعد هناك قوة تستطيع أن تعارض
تحول أتاتورك بالأتراك نحو الارتماء في أحضان أوروبا التي زعم أنه حررهم من
احتلالها.
وخطا أتاتورك خطوته المتوقعة، فأعلن الجمهورية التركية، ليكون أول
رئيس لها، ثم أصدر قراراً لاحقاً بتعيين (عصمت إينونو) رئيساً للوزراء، ليكون
ظلاً بجوار الصنم الذي أمسك بكل خيوط الدولة في يده، وقد أحس بعض رفاق
أتاتورك بأنه قد اتخذهم مطية فقط للوصول إلى مآربه، فبدؤوا الاعتراض عليه،
ولما استيقنوا أنه سيفتك بهم، انحازوا إلى الخليفة الصوري الأخير (عبد المجيد) ،
وعرضوا عليه أن يعلنوه سلطاناً دستورياً على تركيا، ولكن أتاتورك عاجلهم
وأصدر قراراً بإلغاء نظام الخلافة نهائياً!
وهكذا، ولأول مرة في التاريخ تُلغى (وليس تسقط) الخلافة الإسلامية، وعلى
يد من؟ ! على يد سليل اليهود [3] ، بعد أن هيأت له الأوضاع جمعية من الماسون
اليهود.
كانت الصدمة كبيرة وشديدة على المسلمين في تركيا والعالم الإسلامي بإلغاء
آخر كيان سياسي عالمي للمسلمين، ولكن حفيد اليهود لم تكفه هذه الصدمة؛ بل
أتبعها بصدمات أخرى كانت كلها تهدف إلى صبغ تركيا بصبغة الوثنية الأوروبية
ومحو آثار الصبغة الإسلامية، وكانت تحولاته قائمة على العسف والقهر، مخالفة
لسنن التدرج حتى في التحول للباطل.
بدأ أتاتورك من النهاية! ! فأمر بتغيير المظهر العام للشعب التركي، عن
طريق إلغاء الزي التركي ذي السمة الإسلامية بين الرجال، وأجبرهم على لبس
الأزياء الأوروبية ووضع القبعة الأوروبية على الرأس بدلاً من العمامة أو
(الطربوش) !
ثم اندفع بشكل فج ليحول بين الشعب وبين عاطفته الدينية الموصولة بعلماء
الدين والمشايخ وأصدر أوامره المباشرة إليهم بأن يغلقوا الزوايا والتكايا التي تقام
فيها الدروس وتدار فيها الأوقاف، وقال في خطاب ألقاه في 30 أغسطس عام
1925م: على المشايخ أن يغلقوا زواياهم وتكاياهم عن طيب خاطر وإلى الأبد،
قبل أن أدمرها فوق رؤوسهم.
ثم تحول الطاغية تجاه القضاء، فقرر في عام 1926م اعتبار القانون
السويسري أساساً للتشريع المدني في تركيا، بحيث يشمل ذلك الأحوال الشخصية
من زواج وطلاق وميراث ونحو ذلك، وتضمنت قوانين الردة المستمدة من تراث
النصرانية وافتراء العلمانية مواد تشتمل على استحلال صريح للحرام وتحريم
صريح للحلال بما لا يمكن أن تبقى معه شبهة في بقاء من يقبلونها داخل الملة
الإسلامية.
تضمنت تلك القوانين إباحة زواج المسلمة من غير مسلم ومنعت تعدد
الزوجات، وأباحت الزواج من المحرمات بالرضاع، وفرضت المساواة بين الذكور
والإناث في الميراث، وحرمت الطلاق إلا في أضيق الحدود كما هي الحال لدى
النصارى، وجعلت التبني جائزاً حتى من ولد الزنا، وفرضت للزانية نفقة على
شريكها في الحرام إذا كان لها منه ولد!
ولما كانت المرأة أساس الصلاح أو الفساد في المجتمعات، فقد أولاها الذئب
الأغبر - كما كان يلقب - اهتمامه الخاص، قاصداً تجريدها من أسباب الكرامة
وجلباب الحياء، ففي نهاية عام 1926م جرى فرض السفور على النساء فرضاً -
وبدون تدرج أيضا- فخالف بذلك طبائع البشر فضلاً عن شرائع الرسل، وأصدرت
المجالس البلدية قراراً بحظر لبس الجلباب على السيدات، وإلزامهن بلبس الأزياء
الأوروبية، ونص القرار على أن كل امرأة تخالف ذلك يتعرض وليها للاستجواب
والعقاب!
ثم التفت جبار تركيا نحو مناهج التعليم ليقلبها رأساً على عقب في مرحلتين:
الأولى منهما تضمنت إلغاء الحروف العربية التي كانت تكتب بها اللغة التركية،
واستبدال الحروف اللاتينية بها بشكل إلزامي، وبقرار حكومي، ثم أمعن في
الجبروت، وأمر بكتابة القرآن - الذي لم يستطع إلغاءه - باللغة التركية، وكذلك
صدرت الأوامر بتلاوته في الصلاة الجهرية باللغة التركية! ! فلما تجاسر بعض
العلماء على معارضته في ذلك قال لهم ألا يفهم ربكم اللغة التركية [4] .
ومن إفك ذلك الصنم أنه حوَّل مسجد أيا صوفيا إلى مزار سياحي، وحوّل
المشيخة العامة للإفتاء إلى مدرسة للبنات!
وإمعاناً في قلب حياة المسلمين رأساً على عقب، أصدر أخو الإجرام قراراً
في عام 1935م بتبديل يوم العطلة الرسمي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد، ولم يكن
غريباً عليه بعد ذلك أن يصدر مرسوماً بإلغاء المادة الأولى من الدستور التي تنص
على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام!
وبهذا يرى أبو الأتراك العلمانيين أنه صحح (غلطة) تاريخية في زعمه وقع
فيها سلاطين الخلافة الذين جعلوا من الإسلام واجهة لتركيا.
لقد قال نصاً: إن غلطة آل عثمان كانت نسيانهم لتركيبتهم بانتمائهم للجامعة
الإسلامية ونسيانهم جنسيتهم، فكانت النتيجة أن تركيا ارتضت الذل والأسر
وتدحرجت إلى هدف حقير، جعلها مستعبدة في سبيل الله [5] .
يقظة حراس الكمالية:
إن هذه (الغلطة) التي تحدث عنها الألد الأثيم، هي التي تفسر لنا ما يحدث
في تركيا - وفي غير تركيا - منذ أيامه وحتى أيامنا هذه، فكل عدو متربص من
لدن أتاتورك وحتى الآن يقوم بالدور نفسه للحيلولة دون وقوع (الغلطة) التي لا
يريدون الوقوع فيها مرة أخرى، وهي السماح بالتمكين للدين في بلاد المسلمين [6] .
والظاهر أن أتاتورك قد خطط لأن يظل حاكماً لتركيا من قبره بعد قصره
ولهذا؛ فقد أرسى قواعد صارمة تمكن الجيش من السيطرة على الحياة في تركيا
وخلع عليه وصف (حارس الكمالية) ، وقام هذا الجيش بعدد من الانقلابات منذ مات
مؤسسه، والمتأمل فيها يجد أنها هدفت في الأساس إلى إعادة تركيا إلى العلمانية
المعادية للدين كلما كادت أن تقترب - لا من الإسلام - بل من العلمانية المهادنة
للدين؛ فالانقلاب على حكومة (عدنان مندريس) عام 1960م كان بذريعة أنه حاد
عن مبادئ أتاتورك، وأوجد متنفساً للحركة الإسلامية في الخمسينيات، ولهذا؛ فقد
قطعوا أنفاسه وقتلوه شنقاً، وحاول قائد الانقلاب (جمال جورسيل) أن ينفذ مشروع
تتريك الإسلام، وبعد سنوات من القهر، ومراحل من التنازع الحزبي بعد الاستبداد
العسكري، قام الجيش بانقلاب آخر في مارس 1971م، لإعادة البلاد إلى
الاستقرار تحكم فيه المبادئ الكمالية، وقام الجيش بانقلاب آخر ثالث 1980م
بذريعة إعادة (النظام) إلى البلاد، وكان هذا النظام قد خفت قبضته حتى سمحت
لأعداء الكمالية بالبروز، فانتعشت التيارات التي تمثل المسلمين، وكاد حزب
(السلامة الوطني) بزعامة أربكان أن يحقق وجوداً حقيقياً، فأراد قائد الانقلاب
الجنرال (كنعان ايفرين) أن يلقن الخارجين عن الديانة الكمالية العلمانية درساً قاسياً
فاعتقل نحواً من 130 ألف شخص من اتجاهات مختلفة، وصدرت أحكام بالإعدام
في حق 3600 شخص.
ثم جاء تورجوت أوزال الذي كان يحمل نوعاً من العاطفة الإسلامية، وترأس
الوزارة وسمح مرة أخرى للأحزاب أن تنشط، وغض الطرف عن نشاط حزب
أربكان فدبت فيه الحياة مرة ثانية، وظل يحرز نجاحات متتابعة بعد أن أسس
(حزب الرفاه الإسلامي) خلفاً لحزب السلامة الوطني، وسجل حزب أربكان قفزات
عالية في الانتخابات البلدية، جعلته يترأس بلدية إسطنبول نفسها وبلدية العاصمة
أنقرة، وكان الفوز الأكبر في انتخابات عام 1995م عندما فاز حزب الرفاه للمرة
الأولى بنسبة 21. 3% من مجموع الأصوات، مما أهله لأن يشكل وزارة ائتلافية
يرأسها زعيم إسلامي لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث، وبقدر النجاح الذي
أحرزة حزب الرفاه، بقدر ما كانت شدة الغيظ تغلي في صدور حراس قبر أتاتورك، إنهم لم يُقدموا هذه المرة على القيام بانقلاب عسكري، حتى لا يثيروا حفيظة
المجموعة الأوروبية التي ترى في الانقلابات مظهراً من مظاهر التخلف الشرقي،
ومن ثم فقد يزداد عنادها - الزائد أصلاً - في رفض إدخال تركيا إلى الاتحاد
الأوروبي، ولهذا فقد عمدوا إلى إسقاط أربكان من الأعين قبل أن يسقطوه من فوق
كرسي الوزارة، وظلوا يضعون العراقيل في طريقه داخلياً وخارجياً، ويجبرونه
على طأطأة الرأس وتقديم التنازلات، وأصرت المؤسسة العسكرية على (حرق)
أربكان ومبادئه قبل إخراجه من السلطة، وبالفعل اضطر أربكان أن يقدم تنازلات
مخجلة انتقلت من مستوى الهبوط إلى سفح السقوط، ومع ذلك لم يدعوه، وقبل أن
يقدم استقالته في 18 يونيو 1997م كان مجلس قادة الأركان قد عرضوا على مجلس
الأمن القومي التركي إجراءات من ثمانية عشر بنداً، وطالبوا بإلزام حكومة أربكان
بتنفيذها وتتضمن هذه الإجراءات خطوات جريئة على طريق العودة بالحياة
الإسلامية في تركيا إلى الوراء، ومن البنود التي طُولب أربكان بتنفيذها: منع أي
دعوة مؤيدة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وفرض الرقابة على الإعلام الإسلامي
وتشديدها، وحظر ارتداء الحجاب على المرأة ومعاقبة من تخالف ذلك، ووضع
الإجراءات الكفيلة بالحد من التحاق الإسلاميين بأجهزة الدولة، ومراقبة الموارد
المالية للجمعيات الدينية، وتجريم ممارسة أي نشاط سياسي بدافع ديني، وإغلاق
مدارس (الأئمة والخطباء) التي تُعنى بتحفيظ القرآن وتعليم العلوم الشرعية، ومنع
الأحزاب غير الدينية من ضم عناصر دينية إليها، وحظر التمويل للمشروعات
الخيرية من أي مصادر دينية في الخارج، وإيقاف العمل في مشروع إنشاء مسجد
كبير في اسطنبول، والبدء الفوري في فصل كل العناصر من ذوي الانتماء
الإسلامي في الجيش، وفصل حكام الولايات المتدينين، وأخيراً تطبيق المادة 174
من الدستور الخاصة بعدم التعرض للمبادئ التي أرساها الرئيس التركي الأول
للجمهورية التركية (كمال أتاتورك) !
وهذه البنود - كما نرى - أشبه ما تكون، بالنقاط التي يحتويها عادة (البيان
الأول) لقادة انقلاب ثوري أرعن، ولكن ذلك الانقلاب لم يقع هذه المرة عسكرياً،
بل جاء انقلاباً مدنياً؛ متسلحاً بالدستور والقانون، ولهذا وجد أربكان أنه لا جدوى
من المقاومة، وفضل الانسحاب وقدم الاستقالة، ومع ذلك لم يتركوه بل لاحقوه
بالاتهامات المتطلبة لمحاكمته بعد أن حلوا حزبه، وفككوا فعالياته!
وحاول الإسلاميون أن يعودوا من باب آخر عن طريق حزب آخر هو (حزب
الفضيلة) ولكن حماة الرذيلة بدأوا أيضاً في ملاحقته، ولا تزال تجري - حتى وقت
كتابة هذه السطور- المساعي لحله وإلحاقه بسلفه.
ونعود إلى صاحبة الحجاب التي عوت عليها الذئاب، فنقول لها،
وللقسطنطينية الأسيرة: سيأتي يوم - وهو قريب - تعود فيه القسطنطينية إلى
الفتح ثانية - بإذن الله - لأن الذي بشَّر بفتحها أول مرة ففتحت، بشر في نبوءة
أخرى بفتحها مرة أخرى؛ فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل: أي
المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية، أو رومية؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- مدينة هرقل تفتح أولاً [7] يعني القسطنطينية ومجموع الأحاديث الواردة في
ذلك تفيد أن هناك فتحاً آخر بعد الفتح الأول الذي تم في عهد محمد الفاتح.
ويوم تعود القسطنطينية مدينة إسلامية، فعندها ستدق أعناق أحفاد اليهود
المجرمين، وتندك حصون أولياء النصارى الظالمين، وما ذاك الذي نسمع به من
صراع متزايد الاحتدام بين العلمانية المرتدة والإسلام الناهض في تركيا إلا تقدمة
وإرهاصاً ليوم الفتح القريب ... غير أن الفاتح هذه المرة لا نعرفه، ولكنَّ بين يدي
أيامه جنداً، يمهدون الطريق لمجيئه، ولا نظن دعاة الإسلام الصادقين في تركيا
اليوم إلا مرحلة على طريق الفتح القادم ... فتح القسطنطينية.
فاللهم افتحها للمسلمين، وافتح كل بلد أغلق دون المسلمين. آمين.