مجله البيان (صفحة 3105)

وقفات

لا يُستطاع العلم براحة الجسد

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

كنت أتأمل الجهود العلمية العظيمة التي تميَّز بها الرعيل الأول من سلف الأمة، وعجبت أشد العجب من كثرة الحفظ وقوته، ومن القدرة البالغة على الاستحضار

والاستنباط، والجَلَد الكبير على تحصيله وتتبُّعه والرحلة في طلبه.. ونحو ذلك ممَّا

تميزوا به -رضي الله عنهم-، ورحت أبحث عن أسباب تلك القدرات الفائقة،

فتحصَّلت لديَّ أشياء عديدة ذكرها أهل العلم في أدب الطلب، ولكن استوقفني أمر

في غاية الأهمية، ألا وهو الجدّية الصارمة في تلقِّي العلم وتعليمه؛ فالطالب منذ

نعومة أظفاره ينذر نفسه للعلم؛ فلا وقت عنده للهو المباح - فضلاً عن غيره -،

ولا وقت عنده للاشتغال بهموم الدنيا ومسؤولياتها إلا ما ينبغي، ترفَّع عن زخارف

الدنيا وما فيها، وجرَّد قلبه من ذلك كله، وأقبل بكُلِّيِّتِه على طلب العلم، وأصبحت

لذته العظمى في مذاكرة العلم ومدارسته والعمل به. وتأمل معي سيرة الإمام أحمد

بن حنبل تجد أبلغ العظة والعبرة في ذلك:

قال الإمام أحمد: كنت ربما أردت البكور إلى الحديث، فتأخذ أمي ثيابي

وتقول: حتى يؤذن الناس، وحتى يُصبحوا. وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي

بكر بن عياش وغيره [1] .

ومن جدية الإمام أحمد في طلب العلم ما حدَّث به قتيبة بن سعيد قال: كان

وكيع إذا صلى العتمة ينصرف معه أحمد بن حنبل؛ فيقف على الباب فيذاكره وكيع، فأخذ وكيع ليلة بعضادتي الباب ثم قال: يا أبا عبد الله! أريد أن ألقي عليك

حديث سفيان، قال: هات.. [وأخذا يتذكران] فلم يرك قائماً حتى جاءت الجارية

فقالت: قد طلع الكوكب، أو قالت: الزُّهرة! ! [2] .

لقد كانت مجالس الإمام أحمد عامرة بالذكر والطاعة ممَّا زاده سكينة ووقاراً؛

فقد قال تلميذه أبو داود - وهو من أعرف الناس به -: لقيت مائتين من مشايخ

العلم فما رأيت مثل أحمد بن حنبل، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه

الناس من أمر الدنيا، فإذا ذُكر العلم تكلم [3] .

ولهذه الجدية كان أئمة العلم يُجِلُّون الإمام أحمد ويوقرونه؛ فها هو ذا خلف بن

سالم يقول: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه، فتنحنح أحمد

بن حنبل، فضرب يزيد بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد ها هنا

حتى لا أمزح [4] .

وقد كان من نتيجة هذا الحرص والجلد على طلب العلم أن أصبح الإمام أحمد

من أعظم حفاظ الحديث حتى قال أبو زرعة الرازي لعبد الله بن أحمد: أبوك يحفظ

ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب [5] .

ونظائر هذا كثيرة جداً عند تتبع أخبار الأئمة السالفين، ويمكن أن تكون مادة

خصبة لدراسة علمية كبيرة الحجم.. ولكن تأمل معي ما ذكر، ثم انظر حالنا في

طلب العلم تجد شيئاً عجباً، وكأنك تتدحرج من قمة جبل شامخ سامق إلى قعر واد

سحيق!

قلِّب بصرك هنا وهناك، وانظر في نفسك والى طلاب العلم من حولك،

أترى في حالنا ما يوازي أو يقارب ما قرأته عن سلفنا الصالح؟ ! وما هي هموم

طلاب العلم وتطلعاتهم..؟ !

كم هي تلك المباحات التي توسع فيها أكثرنا حتى أصبحت علامة تميزنا؟ !

من ذا الذي يملك الصبر والجلد على البحث والدراسة والتنقيب في بطون

الكتب بلا كلل ولا ملل؟ !

من ذا الذي يملك طول النَّفَس والقدرة على سهر الليالي ذوات العدد للتفكر

والاستنباط؟ !

إن العلم بحر واسعٌ بعيدة أطرافه، عميقة قيعانه، لن يبحر فيه إلا الأشداء،

ولن يصل المرء فيه إلى لآلئه المكنونة وجواهره المخزونة وهو لم يضع قدميه بعدُ

على شاطئه القريب، وصدق يحيى بن أبي كثير حينما قال: لا يُستطاع العلم

براحة الجسد [6] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015