مجله البيان (صفحة 3083)

مصطلحات ومفاهيم

أهْلُ الذِّمَّة

د. عثمان جمعة ضميرية

لقي مصطلح (أهل الذمة) شيئاً من الهجوم أو التحريف على أيدي بعض

المسلمين المعاصرين، بحجة الدفاع عن الإسلام، أو تقريب أحكامه لغير المسلمين؛ فكان من الواجب أن نتناول هذا المصطلح بشيء من البيان الإجمالي، بما يتفق

مع طبيعة المجلة واتساع صفحاتها، والله الموفق.

أولاً: الذمة في اللغة:

تطلق الذمّة والذّمام في اللغة على العهد والأمان، والضمان والكفالة، والحقّ، وكلّها معانٍ متقاربة. وتضييعها مذمومٌ؛ ولذلك تطلق كلمة (الذمة) و (المذمة)

على كلّ حرمةٍ يلزم من تضييعها الذمّ، ويسمى العهد ذمّةً؛ لأن نقضه وتضييعه

يوجب الذمّ.

ورجلٌ ذميّ معناه: له عهد، سُمّي بذلك؛ لأنه أُعطي الأمان على ذمة الجزية

التي تؤخذ منه.

ويراد بالذمة: العهد مؤقتاً كان أو مؤبّداً وذلك عقد الأمان وعقد الذمة، وقد

يحذف المضاف فيقال: (الذمة) بمعنى أهل الذمة.

ثانياً: الذمة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية:

لما نزل القرآن الكريم وحياً على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءت فيه

كلمة (الذمة) بمعنى العهد، والميثاق، والحِلْف، والقرابة. كما في قوله تعالى:

[كَيْفَ وَإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاًّ وَلا ذِمَّةً] [التوبة: 8] ، أي: عهداً؛

فهو عبارة عن اللزم، ومنه سُمّي محل الالتزام من الآدمي: ذمة؛ فإن الذمة للآدمي

هي محل الالتزام بالعهد.

كما جاء ذكر الذمة في الحديث الشريف بأكثر المعاني اللغوية السابقة، كقوله

عليه الصلاة والسلام: (يسعى بذمتهم أدناهم) [1] . أي: إذا أعطى أحد من جيش

المسلمين العدوّ أماناً جاز ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يخفروه، ولا أن

ينقصوا عهده وأمانه.

ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ذمة المسلمين واحدة..) [2] .

وجاءت الذمة بمعنى (الحقّ) في حديث عليّ رضي الله عنه: (ما يُذْهِب عني

مذمّة الرّضاع؟ قال: غُرّةٌ؛ عبدٌ أو أمة) [3] . والمذمة هنا بالكسر والفتح: الحقّ

والذمة التي يُذَمّ مضيّعها.

ثالثاً: الذمة في الاصطلاح الشرعي العام:

تطلق الذمة في الشرع إطلاقاً عاماً بمعنيين:

(أحدهما) ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الذمة وصف اعتباري قدّره

الشارع في الإنسان، يصير به أهلاً للإلزام والالتزام؛ لأن الله تعالى لما خلق

الإنسان لحمل أمانة التكليف أكرمه بالعقل والذمة؛ ليكون بهما أهلاً لوجوب الحقوق

له وعليه؛ فثبت له حقّ العصمة والحرية والمالكية. وثبتت عليه حقوق الله تعالى

... والحاصل: أن هذا الوصف بمنزلة السبب لكون الإنسان أهلاً للوجوب له

وعليه.

(والمعنى الثاني للذمة) ما ذهب إليه بعضهم من أن الذمة والعهد يراد بهما

شرعاً: شخص أو نَفْسٌ ورقبة لها ذمة وعهد. فإذا قلنا: وجب في ذمته كذا، أو

ثبت في ذمته كذا ... فالمراد به: وجب في نفسه وذاته، أي في محل ثبت فيه

العهد الماضي، وهو النفس أو الرقبة باعتبار كونهما محلاً لذلك العهد؛ فالرقبة

تفسير للنفس، والعهد تفسير للذمة، وهذا عند التحقيق من تسمية المحلّ باسم الحالّ، ثم شاع هذا الاستعمال فأصبح حقيقة عرفية [4] .

رابعاً: الذمة في الاصطلاح الفقهي:

يطلق العلماء الذمة في الاصطلاح الفقهي في باب السّير والجهاد على العهد

مطلقاً، مؤقتاً كان أو مؤبداً، وهما عقد الذمة وعقد الأمان كما نجده عند الإمام محمد

بن الحسن الشيباني وعند العلامة ابن قيم الجوزية ولكن صار اصطلاح أهل الذمة

عبارة عمن يؤدي الجزية. وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وقد عاهدوا المسلمين على أن

يجري عليهم حكم الله ورسوله؛ إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله

ورسوله [5] .

خامساً: تعريف عقد الذمة:

عرّف العلماء عقد الذمة بتعريفات متعددة وألفاظ متقاربة؛ فهو عند الإمام

الشيباني: عقد ينتهي به القتال ويلتزم به الذميّ أحكام الإسلام فيما يرجع إلى

المعاملات، والرضا بالمقام في دار الإسلام.

وهو عند الشافعية: التزام تقرير غير المسلمين في ديارنا وحمايتُهم والذبّ

عنهم، ببذل الجزية، والاستسلام من جهتهم. وبهذا التعريف أيضاً قال المالكية.

وهو عند الحنابلة: إقرار بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية والتزام

أحكام الملّة [6] .

وبعبارة أخرى: هو عقد يكتسب به غير المسلم حقّ الإقامة الدائمة في دار

الإسلام، مع حماية الشريعة الإسلامية، وذلك بمقابل دفع ضريبة تسمى الجزية،

ولقاء القيام بالواجبات العَقْديّة والعرفية [7] .

سادساً: تعريف أهل الذمة:

ومن تلك التعريفات للذمة، وعقد الذمة، جاء تعريف الذميين أو أهل الذمة

أنفسهم. فقال الأزهري: هم الذين يؤدون الجزية، من الكفار كلّهم، فيأمنون بها

على دمائهم وأموالهم.

وقال الغزاليّ الشافعي في تعريف الذميّ: هو كل كتابيّ ونحوه عاقلٍ بالغٍ حُرّ

ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية.

وقال ابن عبد الهادي الحنبلي: أهل الذمة هم الكفار المقيمون تحت ذمة

المسلمين بالجزية [8] .

وعلى هذا؛ فأهل الذمة هم: الأجانب غير المسلمين الذين يقيمون في دار

الإسلام إقامة دائمة على أساس عقد الذمة الذي يحدّد مركزهم وحقوقهم وواجباتهم.

وأهل الذمة يُسمّون كذلك: (أهل ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن

عقد الذمة كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي ذلك تأكيد لصيانة

حقوقهم كاملة. وسُمّوا (أهل الذمة) لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم؛ فهم أهل

العقد والعهد.

سابعاً: مشروعية عقد الذمة وتاريخه:

الأصل في مشروعية عقد الذمة: قوله تعالى في سورة التوبة: [قَاتِلُوا الَذِينَ

لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ

الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]

[التوبة: 29] .

وسورة التوبة نزلت بعد فتح مكة المكرمة، في السنة التاسعة للهجرة، وكان

نزول هذه الآية الكريمة منها حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بغزوة

تبوك ومواجهة الروم وعمّالهم من الغساسنة المسيحيين العرب، فمشروعية عقد

الذمة وأخذ الجزية إنما كانت بعد نزول سورة التوبة [بَرَاءةٌ] ، وأما ما كان قبل

ذلك، بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وغيرهم كاليهود في المدينة

أول العهد والهجرة إليها فهذه عهود ومعاهدات إلى مُدَدٍ معينة، لا على أنهم داخلون

في ذمة الإسلام وحكمه [9] .

ثم تواردت الأحاديث القولية والسنة العملية تبيّن مشروعية الجزية وعقد الذمة، وجرى على ذلك العمل في عهد الخلفاء الراشدين، ومَنْ بعدهم في صدر الدولة

الإسلامية، إلى وقت قريب؛ حيث اختفى أو توارى هذا النظام في العمل الدولي

الإسلامي المعاصر نتيجة لملابسات وتطورات لا يجوز أن تؤثر على أصل الحكم

الشرعي [10] .

ثامناً: حكمة مشروعية عقد الذمة:

يوجب الإسلام تأليف قلوب غير المسلمين المقيمين في دار الإسلام وحسن

معاملتهم. وإقامة غير المسلمين في دار الإسلام إقامة دائمة سبيلٌ للدعوة إلى الإسلام

بأحسن الطرق من خلال المخالطة والمعاملة المتبادلة، وبذلك يتعرف غير المسلمين

على أحكام الإسلام ومحاسنه ودلائله؛ مما قد يحملهم ذلك على الدخول فيه عن

طواعية واختيار، وعن قناعة ورضى، وهذا يعني أن المسلمين ينبغي أن يكونوا

في سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم ترجمة صادقة لأحكام الإسلام.

تاسعاً: مَنْ تُعْقد لهم الذمة؟ :

انعقد إجماع العلماء على عقد الذمة وقبول الجزية من أهل الكتابيْن اليهود

والنصارى والمجوس، وأهل الأوثان من العجم، وعلى عدم قبولها من المرتدّين.

ووقع الخلاف فيما وراء ذلك؛ فذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن إلى

أنها تُقْبل من مشركي العرب. وهو رواية عن الإمام أحمد. وقال أبو يوسف

القاضي: لا تؤخذ من العربي؛ كتابياً كان أو مشركاً. وذهب الشافعي إلى أن

الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً،

ولا تؤخذ من المشركين بحالٍ. وذهب الأوزاعي ومالك إلى أنها تؤخذ من جميع

الكفار إلا المرتدّ.

وقد رجح القاضي أبو بكر العربي، وابن تيمية، وابن القيم والشوكاني

رجحوا هذا المذهب الأخير في عقد الذمة لجميع الكفار عدا المرتدين؛ لأن أخذ

الجزية من المجوس وهم أهل شرك دليل على جواز أخذها من جميع المشركين؛

وليس في القرآن الكريم ولا الحديث الشريف تخصيص العرب بحكمٍ من أحكام

الشريعة.

وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من أهل الأوثان العرب؛ لأنهم كانوا قد

أسلموا قبل نزول آية الجزية، كما لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه؛ لأن آية

الجزية لم تكن نزلت بعد، ولا فرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على

بعض [11] .

عاشراً: مركز الذميين:

القاعدة العامة في مركز أهل الذمة في الدولة الإسلامية دار الإسلام أنهم رعية

من رعاياها، يسري عليهم القانون الإسلامي فيما يتعلق بشؤونهم الدنيوية،

ويلتزمون بأحكام الإسلام فيما يعود إلى العقوبات والمعاملات، فيما يُحْكم به عليهم

من أداء الحقوق أو ترك المحرّمات؛ لأنهم من أهل دار الإسلام، وفيما عدا ما

يختصون به من أحكام دينهم في الاعتقادات والعبادات، وفي الزواج والطلاق

(الأحوال الشخصية) ونحو ذلك مما يرونه عندهم فهم فيه أحرار، لا يتعرض لهم

المسلمون بشيء.

والحكم العام الذي يطبّق على أهل الذمة في الدولة الإسلامية هو ما عبّر عنه

عليّ [بقوله: (من كانت له ذمتنا فَدَمُه كدَمِنا ودِيتُه كديتنا) ] 12 [.

وعلى هذا؛ فإن ما يطلقه بعض الكتّاب من المساواة التامة بين المسلمين

والذميين، ليس صحيحاً على إطلاقه، وإنما ينبغي تقييده، فهي مساواة أمام القانون

وليست مساواة في القانون كما عبّر بعضهم عن ذلك؛ وذلك لأن بعض الحقوق

والحريات لها مواصفات لا تنطبق على الذميين] 13 [.

وذلك كله منبثق من أن الذميين رعية من رعايا دار الإسلام، وإن لم يكونوا

جزءاً من الأمة الإسلامية؛ لأن الأمة الإسلامية لها معنىً ديني؛ ولهذا؛ فلا يتمتع

الذميون بالجنسية الإسلامية، وإن كان بعض المعاصرين يميل إلى أنهم يتمتعون بها

باعتبارهم من أهل دار الإسلام، مع أن رابطة الجنسية بالمفهوم الحديث رابطة

حدثية.

ولا نجد ضيراً في اعتبار الذميين أجانب عن دار الإسلام، لا يتمتعون

بجنسيتها، طالما أنهم رعية من رعاياها يتمتعون بحقوقهم كاملة غير منقوصة.

ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن هذا كله لا يتنافى مع الحكم الديني على

الذميين بأنهم كفار؛ حيث ثبت ذلك بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، كقوله

تعالى:] لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [، وقوله:] لَقَدْ كَفَرَ

الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [] المائدة: 72-73 [إلخ.

ولذلك لا يجوز أن يحملنا التسامح على الالتفاف على النصوص وتحريفها

لتوافق أغراضاً وأهواءً منحرفة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015