قضايا ثقافية
مفهومها ونشأتها.. خصائصها ومزاعمها
(2/2)
محمد حامد الناصر
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن: من هم العصرانيون، وما حقيقة
التجديد لديهم، وما المقصود بالعصرانية، وكيف نشأت؟ ثم عرّج على خصائص
هذه المدرسة؛ حيث كان من أبرز خصائصها: الدعوة إلى تطوير الدين، ليساير
بزعمهم الحضارة الوافدة.
وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب جوانب الموضوع؛ لتتضح صورة هذه
المدرسة العجيبة الغريبة عن فكرنا الإسلامي الأصيل.
- البيان -
ثانياً: تقديس العقل عند العصرانيين:
وهذه هي الآفة الكبرى الثانية التي تميز هذه المدرسة؛ فقد سار العصرانيون
الجدد على خُطا من سبقهم من المعتزلة وأهل الكلام والفلسفة؛ حيث إنهم اعتبروا
العقل مبدأ أصول العلم، وجعلوا الوحي تابعاً له، بل حكّموا العقل في نصوص
الشرع، فلا يقبلون منها إلا ما أيّده العقل ووافقه، ويرفضون منها ما عارضه
وخالفه.
ويتفق أصحاب (الاستنارة) عامة على إعلاء دور العقل وافتراض الصراع
بينه وبين النقل؛ وما ذلك إلا من أجل تنفيذ رغبتهم في تطوير الشريعة أو تجاوز
نصوصها، وفيما يأتي شواهد من أقوال بعض العصرانيين، تبين مدى تضخيم
دور العقل.
فالدكتور محمد أحمد خلف الله يقرر أن: (البشرية لم تعد في حاجة إلى قيادتها
في الأرض باسم السماء؛ فلقد بلغت سن الرشد، وآن لها أن تباشر شؤونها
بنفسها) [1] . ويقول في كتاب آخر: (ولقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان النبوة، من حيث إعلان إنهائها كلية وتخليص البشرية منها) [2] . اللهم غفرانك مما يقولون.
وإنه لشرود عجيب عن الدين لدى هؤلاء القوم، وهو إنكار صريح وتمرد
صفيق على سلطان الله سبحانه ومكانة النبوة.
وبعبارة مبهمة يقرر الدكتور محمد عمارة هذه المسألة؛ إذ يعتبر أن البشرية
وصلت سن الرشد فعلاً فيقول: (لقد انقضى زمن الوحي وبلغت الإنسانية سن
الرشد، وأوكلها الله إلى وكيله عندها: الكتاب وهو القرآن الكريم والعقل الذي جعله
الله من أجلّ القوى الإنسانية، بل أجلها على الإطلاق) [3] .
ويضخم الدكتور الترابي دور العقل في كتاباته، ليساير به ما جدّ من أمور
الحياة المتطورة فيقول: (ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت في معيار الدين
منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم ... لأن أسباب الحياة قد تطورت ... وقد
تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار عظيمة، وأصبح لزاماً علينا أن
نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة، لنسخر العلم كله لعبادة الله ... ) [4] .
ويظهر تقديس العقل، بل وتأليه أحكامه عند أصحاب اتجاه اليسار الإسلامي
كما يسمون أنفسهم فقد حاربوا النصوص الشرعية بشدة؛ لأنها تعيق أنطلاقهم، بل
انفلاتهم من ربقة الدين ...
يقول د. حسن حنفي أحد أقطاب هذا الاتجاه: (إن العقل هو أساس النقل،
وكل ما عارض العقل فإنه يعارض النقل ... ظهر ذلك عند المعتزلة وعند الفلاسفة
... ) ثم يقول مهاجماً ثوابت الشريعة: (لقد احتمينا بالنصوص فجاءنا
اللصوص) [5] وهكذا تحول المؤمنون بالنص إلى (لصوص) عند الدكتور حنفي!
وأصدر حنفي كتاباً تحت عنوان: (قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر) بث
فيه الشكوك والإلحاد، ويرى أن العقل ما كان في حاجة إلى الشرع؛ لأن الإنسان
لا يحتاج إلى الوحي. وقد وصلت به الحماقة إلى أن يقول: (يمكن للمسلم المعاصر
أن ينكر كل الجانب الغيبي في الدين ويكون مسلماً حقاً في سلوكه) [6] ويتناسى هذا
الكاتب أن الإيمان بالغيب من أركان الإيمان.
هكذا آمن أساطين العصرانية بالعقل على حساب النصوص الشرعية، وفرّط
بعضهم، وغالى آخرون في هذا الجانب حتى وصلوا إلى الردة والضلال؛ والعياذ
بالله.
العلاقة بين الشرع والعقل في الإسلام:
تجاهل العصرانيون قيمة العقل في الإسلام فوقعوا في مزالق خطيرة؛ قال
الشاطبي رحمه الله: (اهتم الإسلام بالعقل اهتماماً بالغاً وجعله مناط التكليف، فإذا
فُقِد ارتفع التكليف، ويُعَد فاقده كالبهيمة لا تكليف عليه) [7] .
وليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتمد عليه في ترسيخها
كالعقيدة الإسلامية، وليس هناك من كتاب أطلق سراح العقل وأعلى من قيمته
وكرامته كالقرآن الكريم: [لعلكم تعقلون] ، [لقوم يتفكرون] ، [لقوم يفقهون] ، إلا أن للعقل مجالاته وحدوده؛ لأنه محدود الطاقات فلا يستطيع أن يدرك كل
الحقائق مهما أوتي من قدرة على الاستيعاب، فأقام الإسلام العقل مع الاستسلام
والامتثال للأمر الشرعي الصريح، حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك،
كأمور الغيب مثلاً والروح، وما شابه ذلك، وقد كانت أول معصية لله ارتكبت
بسبب عدم هذا الامتثال من قبل إبليس لعنه الله [8] .
والواقع أن التعارض بين العقول السليمة وبين الشرع غير موجود، قال ابن
تيمية رحمه الله: (ما عُلم بصريح العقل لا يُتصور أن يعارض الشرع البتة، بل
المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط ... ويقول: (ووجدت ما يُعلم
بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث
موضوع، أو دلالة ضعيفة) [9] . ويقول أيضاً: (وعلى المعتزلة الذين حكّموا
عقولهم في نصوص الوحي، ومن سار على نهجهم وتتبع خطاهم، أن يعلموا أنه لا
يوجد حديث على وجه الأرض يخالف العقل، إلا أن يكون ضعيفاً أو
موضوعاً) [10] .
وأكد هذا المعنى ابن القيم رحمه الله بقوله: (إذا تعارض النقل وهذه العقول
يعني عقول أهل التأويل والزيغ أُخذ بالنقل الصحيح، ورُمي بهذه العقول تحت
الأقدام، وحُطت حيث حطها الله وأصحابها) [11] .
مزاعم العصرانيين ومنطلقاتهم:
طرح العصرانيون تصورات غريبة تحت مزاعم التجديد والتطور، في
التفسير والسنة النبوية، ودعوا إلى تطوير أصول الفقه وأصول الحديث النبوي؛
فكانت لهم شذوذات عجيبة في ميادين الفقه المختلفة، كما دعا العصرانيون إلى
فصل الدين عن الدولة وأمور الحياة، ودعوا كذلك إلى الوحدة والتقارب بين
الأديان [12] .
ويجدر بنا أن نشير إلى جيل سابق لهؤلاء هو جيل دعاة التغريب، في
النصف الأول من هذا القرن، أولئك الذين ترعرعت دعوتهم في ظلال المستعمر
الغربي الحاقد؛ إذ دعا ذلك الجيل إلى صبغ الحضارة الإسلامية بكل مقوماتها
بحضارة الغرب، خيرها وشرها؛ ومن ثم اتهام النظام الإسلامي بالتخلف والجمود.
وكانت تيارات الهدم التغريبي في تلك الفترة تتمثل في:
1- التشكيك بالسنة النبوية:
ويمثل ذلك الاتجاه: أحمد أمين من خلال هجومه على السنة النبوية،
وتشكيكه بعدالة الصحابة والتابعين: كالصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه،
وإمام التابعين الإمام الزهري رحمه الله منساقاً مع أساتذته المستشرقين من اليهود
والنصارى، وتجد ذلك مبثوثاً في كتابه (فجر الإسلام) .
وكان موقف محمود أبو رية من أسوأ المواقف طعناً في السنة والحديث
وتجريحاً بصحابة رسول الله في كتابه: (أضواء على السنة المحمدية) .
2- المنهج التغريبي في مجال الحكم والتشريع:
ويمثله كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق الصادر عام
1925م؛ فقد تبنى فيه أن الإسلام دين لا دولة، على طريقة النصارى، وخدمة
لمن أسقطوا الخلافة آنذاك.
3- المنهج التغريبي في الثقافة والآداب:
ويمثله عميد التغريب الدكتور طه حسين في كتبه وخاصة في كتابيه: (في
الأدب الجاهلي) و (مستقبل الثقافة في مصر) ؛ فقد شكك في كتابه الأول بكتاب الله
عز وجل وجعل له مصادر بشرية، وشاركه في ذلك الطعن محمد أحمد خلف الله
في رسالته للدكتوراه (الفن القصصي في القرآن الكريم) [13] .
منهج العصرانيين في التفسير وموقفهم من السنة النبوية:
يرى العصرانيون أنه في ضوء الظروف الجديدة، وتوسع المعرفة الإنسانية،
لا يمكن الاعتماد في فهم القرآن على التفاسير القديمة التي اشتملت على كثير من
الخرافات كما يزعمون، ولكن ينبغي فهم النص القرآني من خلال معرفتنا وتجاربنا
الذاتية.
ولذلك فهم يردون كثيراً من الأحاديث النبوية وآراء السلف في التفسير، ودعا
العصرانيون إلى التجديد في قضايا تفسير كتاب الله، انطلاقاً من الذوق والواقع
المعاصر.
يقول الدكتور حسن الترابي: (يبدو أننا محتاجون إلى تفسير جديد، فإذا قرأتم
التفاسير المتداولة بيننا تجدونها مرتبطة بالواقع الذي صيغت فيه، كل تفسير يعبر
عن عقلية عصره، إلا هذا الزمان، لا نكاد نجد فيه تفسيراً عصرياً شافياً) [14] .
فالدكتور الترابي ينادي بأن مفاهيم القرآن تتغير بتغير الزمن، ورقي الإنسان
وتطويره؛ ولهذا فكل عصر من العصور يحتاج إلى تفسير خاص به للقرآن الكريم، (والحقيقة أن السنة هي الركيزة الأولى في تفسير القرآن الكريم؛ حيث إن القرآن
الكريم كتاب منزل من عند الله تعالى على نبيه ليبينه للناس؛ وحينئذ لا بد من
الاعتراف بأن مفهومه السليم الموثوق به، هو ما أدركه النبي صلى الله عليه
وسلم) [15] .
ومن الملاحظ أن تقدم المعارف البشرية المعتمدة على تجارب البشر الذاتية قد
تكشفت عن أخطاء في معارف العصور الماضية، فهل يؤثر ذلك في فهم القرآن؟ ! وهل تتغير معاني القرآن تبعاً لذلك؟ !
(وبسبب الاعتماد على معارف البشر العصرية وما فيها من القصور
والأخطاء، وبسبب إهمال تفاسير الأولين وقعت العصرانية في انحرافات شنيعة في
التفسير. وحسبنا أمثلةً على ذلك تفسير (سيد أحمد خان) ، وتفسير (الشيخ محمد
عبده) [16] .
وقضية التأويل المتكلف لآيات القرآن، قضية قديمة منذ نشأة الفرق المنحرفة
في الإسلام، كالمعتزلة والخوارج والشيعة، وكذلك بقية الفرق الباطنية والمتصوفة، ومن أجل ذلك يحاربون السنة النبوية؛ لأنها جاءت مفصّلة، وموضّحة لآيات
القرآن.
موقف العصرانيين من السنة النبوية:
من أكبر ضلالات هذه المدرسة دعوتهم لعدم الأخذ بالسنة النبوية في مجال
المعاملات خاصة؛ لأن الأحاديث الشريفة تقف حجر عثرة أمام رغبتهم في تطوير
الشريعة، ليتجاوزوا ما خلفه علماؤنا من تراث فقهي غزير.
ومن محاولاتهم المشبوهة خلال التشكيك في السنة، والسعي للابتعاد عن
الأخذ بحجيتها في الأحكام:
1- أنهم قسموها إلى سنة تشريعية، وسنة غير تشريعية.
2- موقفهم المريب من أحاديث الصحيحين وخبر الآحاد.
3- ردّهم كثيراً من الأحاديث بحجة أن القرآن أوْلى بالاتباع.
تقسيمهم السّنة إلى تشريعية وغير تشريعية:
وهذا تقسيم باطل سبقهم إليه الإصلاحيون مدرسة محمد عبده عندما قسموا
السنة إلى سنة عملية يؤخذ بها في الأحكام الشرعية كالعبادات وقضايا العقيدة
الأساسية. وسنة غير عملية وهي الأحاديث القولية ولا يلتزمون بها إلا ضمن
شروط تنسجم مع قواعدها العقلية، فأخرجوا منها قضايا السياسة والمجتمع.
(وقد اعتبر بعضهم أن العصمة تكون في أمور التبليغ فقط، وأن ما اندرج
من السنة النبوية تحت أمور السياسة والمجتمع ليس ديناً. ومن ثم؛ فإنه موضوع
للاجتهاد والشورى، والقبول والرفض، والإضافة والتعديل) [17] ... فالسياسة
والحكم والقضاء وشؤون المجتمع ليست ديناً وشرعاً يجب فيها التأسي والاهتداء بما
في السنة من وقائع، وأواصر، ونواهٍ وتطبيقات؛ لأنها أمور تقررت بناء على
بينات قد نرى غيرها، وعالجت مصالح هي بالضرورة متطورة ومتغيرة) [18] .
ويتوسع الدكتور محمد سليم العوّا في تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، ويرى أن أغلب المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو من النوع الثاني
فيقول: (ويلاحظ: كون أغلب تصرفات الرسول مبناه التبليغ قول يصل الباحث
إلى خلافه عند إمعان النظر في الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
بل الذي يغلب على الظن أن أغلب المروي عنه صلى الله عليه وسلم في شؤون
الدنيا خارج نطاق العبادات والمحرمات ليس من الشرع اللازم [19] .
هذا، وإن شبهة تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، من أخبث الشبه
التي رفعها أدعياء التجديد من العصرانيين ... وهذه الشبهة دعوة صريحة إلى رد
السنن، وترك العمل بها، والتحاكم إليها، ثم إلى تفسير القرآن بالتفسيرات الشاذة،
التي توافق أهواءهم، ثم إلى تركه وراءهم ظهرياً) [20] . وبذلك يرتمون في
أحضان العلمانية صرحوا بذلك أم أنكروا.
موقفهم من أحاديث الصحيحين وخبر الآحاد:
شكك بعضهم في عدد من الأحاديث الصحيحة، ولو كانت في البخاري ومسلم
رحمهما الله ومن هؤلاء الدكتور الترابي؛ فقد شكك في قيمة الضوابط والأسس التي
وضعها الإمام البخاري في صحيحه، في محاضرة له بعنوان: (قضايا أصولية
فكرية) ، وهذه مقتطفات منها: (لا بد لنا أن نعيد النظر في الضوابط التي وضعها
البخاري، فليس هناك داع لهذه الثقة المفرطة في البخاري. والمسلمون اليوم
إعجابهم بالبخاري زائد؛ فمن وثقه البخاريّ فهو الثقة، ومن جرّحه فهو المجروح.
لماذا نعدّل كل الصحابة؟ ليس هناك ما يوجب ذلك، لقد استُحدثت وسائل كثيرة
يمكن أن تستغل في هذا المجال، ما كان البخاري ولا غيره يعرفها) يقصد الحاسب
الآلي! ! .
وتحدث محمود أبو رية مشككاً في صحة بعض أحاديث الصحيحين، وأن
بهما أحاديث ضعيفة، وأن معظم الأحاديث فيهما رويت بالمعنى؛ لذلك لا يعتمد
على كل ما فيها [21] . فهؤلاء العصرانيون يعتمدون على ضرورة انسجام معنى
الحديث مع عقولهم مهما علت مرتبة هذا الحديث.
وأنكر حسين أحمد أمين كثيراً من الأحاديث الصحيحة في كتابه: (دليل
المسلم الحزين) وراح يتهم الفقهاء بوضع الأحاديث النبوية ويهاجم رواة الحديث
بشدة، ولم يسلم من هجومه حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [22] .
ويقول ساخراً: (كان انتقاء البخاري للأحاديث الصحيحة على أساس صحة السند لا
المتن، فالإسناد عنده وعند غيره هو (قوائم الحديث) إن سقطت سقط، وإن صح
السند وجب قبول الحديث مهما كان مضمون ذلك الحديث) [23] .
حديث الآحاد:
أثار العصرانيون الشبهة بعدم الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة، كما أثارها
أسلافهم من المعتزلة والإصلاحيين. وهذه الشبهة درع يتترس بها أهل البدع في
ماضيهم وحاضرهم. قال ابن حزم رحمه الله: (إن جميع أهل الإسلام كانوا على
قبول الخبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجري على ذلك كل فرقة..
حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك) [24] .
وقال الشيخ ناصر الألباني: (إن القول بأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في
العقيدة قول مبتدع محدث، لا أصل له في الشريعة الإسلامية الغرّاء، وهو غريب
عن هدي الكتاب وتوجيهات السنة، ولم يعرفه السلف الصالح رضوان الله عليهم،
وإنما قال هذا القول جماعة من علماء الكلام، وبعض من تأثر بهم من علماء
الأصول المتأخرين، وتلقّاه عنهم بعض الكتاب المعاصرين بالتسليم دون مناقشة ولا
برهان ... وإذا أُخذ بهذا القول، فإنه يستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة
عنه صلى الله عليه وسلم لمجرد كونها في العقيدة) [25] .
لقد رد هؤلاء أحاديث كثيرة تتعلق بالغيب والجن، وأخبار الآخرة، كما ردّها
قبلهم المعتزلة ورجال المدرسة الإصلاحية.
العصرانيون يردون كثيراً من الأحاديث بحجة أن القرآن أوْلى بالاتباع:
وحجة العصرانيين أنه لا شك في صحة القرآن، وأن كتاب الله فيه كليات
الشريعة وأصولها التي لم يتلاعب بها الرجال.
غير أن العصرانيين لم يدركوا أن معارضة السنة بالقرآن مذهب رديء تبناه
أهل البدع والضلالة من المعتزلة ومن سار على منوالهم.
قال محمد عمارة: (إذا وجدت حديثاً منسوباً إلى رواة عدول لا ألجم عقلي
وأمنعه من النظر بحجة أن السند هو كل شيء؛ لأنه لا بد أن يكون لعقلي مجال في
المتن، ولا بد أن أحاكم هذا الذي هو ظني الثبوت إلى ما هو قطعي الثبوت، وهو
كتاب الله وحقائق العلم) [26] .
ورغم كل ما تقدم؛ فقد ظهر الدكتور عمارة في الآونة الأخيرة داعياً إلى
التمسك بثوابت هذا الدين، وإلى العودة إلى منهج السلف فقال: (السلفية هي
الماضي وهي الأصل والأساس) (وإن تجديد فكر هذه الأمة عبر تاريخها قام على
أيدي علماء سلفيين) [27] ، كما أنه صار يهاجم العلمانيين خلافاً لماضيه المعروف.
ونحن نرجو له ولأمثاله عودة طيبة صادقة إلى منهج السلف الصالح، وأن
يشيروا إلى ما سطروه من شطحات في كتبهم السابقة؛ والحق أحق أن يتبع، وما
وجد في كتبهم أصبح من حق التاريخ الصادق الذي لا يحابي أحداً.
لقد أصبح الاقتصار على ما في كتاب الله تُكَأَة في يد بعض العلمانيين
وأصحاب الأهواء، إذا أرادوا الخروج على الشريعة وتجاوز حدود الله؛ إذ
يتبجحون بأنهم ليسوا (نصوصيين) وإنما هم يدركون (روح الدين) ويراعون
المقاصد العامة للإسلام [28] .
هذا، والحديث الشريف ثاني مصادر الشريعة الإسلامية هو المفسر الأول،
والمبين لكتاب الله، ولذلك عُنِيَ به علماء المسلمين عناية تفوق الوصف، فظل
الحديث مصفّى من الشوائب، وكان لا بد للمبتدعة من أن يحاولوا اختراق هذا
الجدار المنيع الذي يحمي أسس العقيدة والشريعة، ليتمكنوا من الزيادة في الدين أو
النقص منه حسبما يشاؤون) [29] .
فالقرآن والخبر الصحيح شيء واحد، وحكمهما واحد في وجوب الطاعة لهما.
يقول تعالى: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
وقد روى ابن ماجة بسنده إلى المقدام بن معد يكرب الكندي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحدّث بحديث من
حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه من حلال
استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله
عليه وسلم مثل ما حرم الله) [30] والحمد لله رب العالمين.