حمَّى سنة 2000
الحلقة الخامسة
أضخم تجمع نصراني ... ماذا وراءه؟ !
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي
يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال
قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت
من العام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات
منفصلة.
- البيان-
حلول الألفية الثالثة بعد شهور؛ مستجد تاريخي كبير، يتحسب له سكان
الأرض بعامة، ولكن المعنيين به بوجه خاص هم النصارى، وهم أكثر أهل
الأرض اليوم من أصحاب الديانات السماوية (مليار ونصف) فالألفية مقترنة بالمسيح
وهو نبيهم المرسل إليهم، وإذا كان قد قدم مُرسلاً منذ ألفي عام، فإن النصارى
ينتظرون ألفاً أخرى يعيشون فيها في كنفه وتحت قيادته لدى مقدمه الثاني؛ فالألفية
ليست ذكرى ميلاد فقط، وليست خصوصية زمان فحسب، بل هي بوابة عبور إلى
مرحلة جديدة لعصر جديد تعتقد طوائف من النصارى: أن الأرض كلها ستخضع
فيه لدين المسيح.
ولكن المسيح العائد؛ لن يعود إلى روما أو واشنطن أو باريس، إنه سيعود
إلى الأرض التي في أحضانها وُلد، وفي رباها تربى، وفي مناكبها سعى ودعا.
إنها القُدس، فكم تساوي القدس لدى النصارى؟ وماذا تعني عندهم أرض المهد
والعهد واللحد [1] ؟ ! إنها تعني الكثير.
إن أتباع عيسى ظلوا ينظرون تاريخياً إلى اليهود على أنهم أعداء المسيح،
المنكرون لدعوته والساعون في أذاه، واعتبر النصارى أنفسهم أوْلى برسالة موسى
التي جاء عيسى مصدقاً بها ومتمماً لها، وآلت إليهم بمقتضى ذلك المقدساتُ التي
دعت التوراة والإنجيل إلى تقديسها، أما اليهود فلم يعترفوا لهم بذلك بل كفّروهم كما
كفّر النصارى اليهود. [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ] [البقرة: 113] .
وما يعنينا هنا، أنه نشأ ارتباط وجداني وعقدي بالأرض المقدسة عند
النصارى، جعلهم ينظرون إليها على أنها إرث المسيح لأتباعه، بعد أن دنسها
اليهود وتسببوا في هدم هيكلها بإفسادهم مرتين كما دلت على ذلك سورة الإسراء.
بل إن النصارى رفضوا أن يُطلق على القدس (صهيون اليهودية) بل أسموها
مدينة العهد الجديد، واعتبروها (الوطن المقدس) الذي ورّثه المسيح لهم،
واستودعهم إياه حتى يعود ثانية.
وقد برهنوا تاريخياً على هذا الارتباط عبر عشرين قرناً مضت، اختلفوا
خلالها في كل شيء حتى في ذات الإله ولكنهم لم يختلفوا على تقديس بيت المقدس
خاصة مدينة (بيت لحم) التي فيها ولد المسيح، و (الناصرة) التي فيها ترعرع،
ومكان قبره المزعوم في القدس.
تاريخ من الضلال:
كان من المفترض أن يسارع أتباع عيسى للدخول في دين النبي الذي بشر
به عيسى تعظيماً واتباعاً لعيسى نفسه فيسلموا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة كما طالبوا هم اليهود بذلك لعيسى، ولكنهم آثروا العناد فوقعوا في الضلال، وبسبب ضلالهم هذا فإنهم لم يعترفوا بأن المقدسات التي ورّثت لهم قد أورثها الله لقوم آخرين كانوا أحق بالحق منهم، ولم يعوا هذه السنة الإلهية التي سطرت في الكتب ونزل بها الوحي الخاتم على لسان موسى: [إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [الأعراف: 128] ، ولهذا؛ فقد ناطحوا الأمة الخاتمة في أرض بيت المقدس وما حوله منذ وقت مبكر من عمر الإسلام، بدءاً من غزوة مؤتة وتبوك في عصر الرسالة، ومروراً بعصر الخلفاء الراشدين في أجنادين واليرموك، وصعوداً إلى عصور الخلافة المتوالية، وخاصة في زمان الحروب الصليبية التي أثبتت أحداثها العظام أن القدس كانت هدفها الأول والأخير، وانتهاء بما حدث في احتلال فرنسا لمدينة دمشق حيث وقف الجنرال اللّنبي على قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً: (ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين!) .
ولكن الحروب الصليبية كانت أبرز المعالم التاريخية الدالة على مركزية
القدس في معتقد النصارى. نعم! فلأجل تلك المدينة خاضوا حروباً متواصلة تحت
راية الصليب؛ لاستعادة القدس من أيدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هذا
الصدام من أكبر الحروب في التاريخ كله؛ إذ استهدف توحيد أوروبا دينياً تحت
زعامة البابوات، وتشكيل تحالف من كل عروش أوروبا للوقوف في وجه المسلمين
في عُقر ديارهم. وقد بدأت تلك الحروب في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي
عشر الميلادي، واستمرت حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، أرسل
الغرب خلالها أكثر من خمس عشرة حملة صليبية كبيرة إلى بلاد المسلمين،
واشتركت فيها كل أوروبا النصرانية، ونجح الصليبيون خلالها في الاستيلاء على
بيت المقدس وأقاموا مملكة فيها وسيطروا على المسجد الأقصى ورفعوا الصلبان
على مآذنه نحو ثمانين سنة، ولم تخمد تلك الحروب إلا بعد أن تأكد للغرب، أن
استمرار السيطرة على الأرض المقدسة أمر مستحيل في أرض محفوفة بالمسلمين
من كل جانب.
ثم طوى الزمان عبر قرون ممتدة أحلام أهل الصليب في التمكين للوثنية
النصرانية في الأرض المقدسة، وانكفأت أوروبا في شواغلها وصراعاتها حتى جاء
القرن السادس عشر الميلادي.
انقلاب جديد في النصرانية:
حدث هذا الانقلاب في القرن السادس عشر باسم الإصلاح والتجديد في الديانة
النصرانية وعرف بـ (الحركة البروتستانتية) ، وغيّر هذا الانقلاب معالم الديانة
النصرانية الدائمة التغيّر ولكن التغيير جاء هذه المرة لصالح اليهود، وكانت إطاحة
هذه الحركة البروتستانتية بحق الكنيسة في احتكار تفسير الكتاب (المقدس) مفتاحاً
للولوج إلى التفسيرات الحرفية للنصوص التوراتية فيما يتعلق باليهود، بل بدأت
النصرانية تُخترق بالمفاهيم اليهودية وتختلط بها بعد أن ضم البروتستانت التوراة
إلى جانب الإنجيل مصدراً أولياً وحرفياً للتلقي، خلافاً لما كان عليه الأمر خلال
خمسة عشر قرناً خلت من عمر الديانة.
ولم يأت القرن السابع عشر، حتى ظهرت نظرة غربية جديدة لليهود أعداء
الأمس فقد دعا الحرفيون البروتستانت إلى ضرورة احتضان اليهود والتمكين لهم في
العودة إلى الأرض المقدسة، على اعتبار أن مساعدتهم في ذلك سوف يعجل بمجيء
المسيح عيسى ابن مريم إلى الأرض مرة أخرى؛ فالتفسيرات الحرفية للتوراة
والإنجيل بعيداً عن تأويلات الكنيسة أظهرت لهم أن خلاصة اليهود سوف يدخلون
في ديانة المسيح عندما يعود، وبقيتهم من غير المؤمنين به سوف يقتلون مع باقي
أعداء المسيح، أما أتباع المسيح من النصارى ومن يلحق بديانتهم فسوف يعيشون
مع المسيح في القدس مدة ألف عام قبل يوم القيامة، جاء في الإنجيل في سفر رؤيا
يوحنا: (ها أنا آتي سريعاً، تمسك بما عندك لئلا يأخذ أحد إكليلك، من يغلب
فسأجعله عموداً في هيكل الله، ولا يعود يخرج إلى خارج، واكتب عليه اسم إلهي
واسم مدينة إلهي: أورشليم الجديدة) [2] وجاء فيه: (مبارك ومقدس من له نصيب
في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله
والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة، ثم متى تمت الألف سنة، يُحل الشيطان من
سجنه) [3] يعني يرتفع السلام عن الأرض، ويعود الشيطان للإفساد بين البشر.
أما عن إيمان أعداد من اليهود بالمسيح عند مقدمه الثاني فيقول الإنجيل
المتداول: (نادى الله الحي بصوت عظيم إلى الملائكة الأربعة الذين أعطوا أن
يضروا الأرض والبحر قائلاً: لا تضروا الأرض ولا البحر ولا الأشجار حتى
تختم عبيد الإله على جباههم، وسمعت عدد المختومين مئة وأربعة وأربعين ألفاً
مختومين من كل سبط بني إسرائيل) [4] .
إذن فالعودة حسب هذه العقيدة النصرانية ستكون في (أورشليم الجديدة) وسوف
تكون على رأس ألفية جديدة، وسوف تكون في زمان لليهود فيه وجود في الأرض
التي سيعود إليها المسيح، فلا بد أولاً من عودة اليهود.. لكي يعود المسيح!
عودة أم إعادة؟ !
تأييد نصارى الغرب لليهود في العصر الحديث، يرجع إذن إلى جذور في
بنية التكوين الثقافي بعد حركة التغير البروتستانتي؛ بل لا يكون المرء مبالغاً إذا
قال: إن الفكرة الصهيونية الحديثة ذاتها، ولدت في أحضان النصرانية
البروتستانتية قبل أن يرفع هرتزل لواءها بقرون. قال (كينين) وهو أحد أبرز
قيادات اليهود في أمريكا في كتابه (خط الدفاع الإسرائيلي) : (إسرائيل كانت أنشودة
مسيحية، قبل أن تصبح حركة سياسية يهودية) فالبروتستانت النصارى هم الذين
أقاموا الحركة الصهيونية، وشجعوا اليهود للالتفاف حولها، وحتى عندما تردد
(هرتزل) في اختيار فلسطين وطناً تقام فيه الدولة اليهودية، أرسل إليه المبشر
النصراني البروتستانتي (وليم بلاكستون) نسخة من التوراة موضح عليها المواضع
التي تشير إلى أن اليهود سيعودون في آخر الزمان إلى الأرض المقدسة، فاقتنع
هرتزل [5] .
وعندما عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م
كان من أبرز المشاركين فيه القس البروتستانتي (وليام هشلر) وقد دخل إلى قاعة
المؤتمر بصحبة هرتزل وهتف بحياته قائلاً: (يحيا الملك يحيا الملك) !
وعندما جاء دوره في إلقاء كلمته خاطب الصهاينة المجتمعين قائلاً: (استفيقوا
يا أبناء إسرائيل، فالرب يدعوكم للعودة إلى وطنكم في الأرض المقدسة) .
وبقية القصة معروفة بعد بازل؛ حيث استلمت بريطانيا (البروتستانتية)
فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، ثم أعطى وزير خارجيتها (بلفور)
(البروتستانتي) لليهود وعداً بوطن قومي في فلسطين امتثالاً لنظرة العطف من
حكومة صاحبة (الجلالة) (البروتستانية) ، ثم تخلت بريطانيا عن فلسطين بعد أن
هيأتها لليهود خلال فترة الانتداب، ثم ساندتها حتى تم إعلان الدولة! فلماذا كل هذا
الحماس الإنجليزي لإعادة اليهود إلى الأرض المقدسة؟ يجيب الزعيم اليهودي حاييم
وايزمان عن هذا في مذكراته فيقول: (إذا سأل سائل: ما أسباب حماسة الإنجليز
لمساعدة اليهود وشدة عطفهم على أماني اليهود؟ فالجواب على ذلك أن الإنجليز هم
أشد الناس تأثراً بالتوراة، وتدين الإنجليز هو الذي ساعدنا في تحقيق آمالنا؛ لأن
الإنجليزي المتدين يؤمن بما جاء في التوراة من وجوب إعادة اليهود إلى فلسطين،
وقد قدمت الكنيسة الإنجليزية في هذه الناحية أكبر المساعدات) [6] .
أمريكا وعدوى البروتستانت:
انتقلت تلك الحُمى إلى أمريكا مع الأنجلو ساكسون المهاجرين إليها، ومع
تصاعد القوة الأمريكية في هذا القرن، تصاعد المد البروتستانتي، وتحول في
العقود الأخيرة من عقيدة مذهبية إلى عُقد أصولية [7] ، وفي أواخر السبعينات
الميلادية، شهدت الساحة الأمريكية بروزاً لتيار أكثر تشوقاً داخل أتباع المذهب
البروتستانتي الحرفي، وأطلق على هذا التيار: (الحركة الصهيونية المسيحية)
ويُطلق عليهم أحياناً: (الإنجيليون اليمينيون) ، وانتساب هؤلاء إلى الصهيونية رغم
نصرانيتهم، ليس غريباً على قوم يدينون بالتوراة التي تقدس جبل صهيون وما كان
عليه من مقدسات، ولهذا فإنهم يتبنون الدعوة إلى الدعم المطلق لدولة اليهود من
أجل تحقيق الطموحات الإسرائيلية أو التنبؤات التوراتية في الشرق الأوسط، ويأتي
على رأسها السعي لتحقيق مشروع (إسرائيل الكبرى) و (القدس الكبرى) وإعادة بناء
الهيكل؛ لأنه بكل بساطة سوف يكون مكاناً لدعوة المسيح في القدس التي ستصبح
عاصمة له في معتقدهم.
لقد بلغ التحول التاريخي في الغرب النصراني من اليهود ذروته في العقود
الثلاثة الأخيرة ووقع هؤلاء في فتنة استدراج محكمة منذ أن احتل اليهود القدس في
عام 1967م، فقد صور لهم الشيطان هذا الحدث على أنه أعظم دليل على أن
التوراة حق؛ لأنها أخبرت عن عودة اليهود إلى القدس، وأن الإنجيل حق؛ لأنه
أخبر بعودة اليهود إلى القدس ... وما داموا قد عادوا إليها كما أخبرت الكتب؛ فلا
بد أنهم سيتنصرون في النهاية كما أخبرت أيضاً.
يقول: (هول ليندسي) في كتابه: (آخرة كرة أرضية) (قبل أن تصبح
إسرائيل دولة، لم يكشف عن شيء، أما الآن وقد حدث ذلك، فقد بدأ العد العكسي
لحدوث المؤشرات التي تتعلق بجميع أنواع النبوءات. واستناداً إلى النبوءات فإن
العالم كله سوف يتمركز على الشرق الأوسط، وخاصة إسرائيل في الأيام الأخيرة) .
أما الصراع الدموي التاريخي بين اليهود والمسيحية، فقد مسحته تلك
النبوءات والأحلام المتحققة، وتحول أعداء المسيح إلى حلفاء، بعد أن برئوا من
دمه. وإلى أصدقاء بعد أن أصبحوا علامة على قرب مقدمه.
لقد تنامى هذا التيار (الصهيوني المسيحي) بشكل جارف في سنوات معدودة؛
فبعد نحو خمس سنوات من ظهوره في أواخر السبيعينيات الميلادية، كانت
الإحصاءات تشير إلى ظهور نحو 250 منظمة إنجيلية موالية لإسرائيل من مختلف
التخصصات والواجهات، تعكس آراء ورغبات نحو 40 مليون أمريكي إنجيلي [8] ، وقد نجحوا في توسيع رقعة التأييد الشعبي المطلق لليهود إضافة إلى التأييد
الرسمي وذلك عن طريق تنظيم المهرجانات للتضامن مع اليهود وتجمعات ما يسمى
بـ (الوعي بإسرائيل) التي تقيمها الكنائس الإنجيلية، وبعض هذه المنظمات تنظم
الجولات للأرض المقدسة، وبعضها يعد المطبوعات ويعقد المؤتمرات، وبعضها
ينغمس في الدعم السياسي والمالي المباشر لدولة اليهود، ويقوم بمختلف عمليات
الضغط سواء عن طريق استكتاب الرسائل، أو عن طريق وسائل الإعلام التي
يعبرون فيها بقوة عن تأييدهم لإسرائيل.
لقد غدا تحقيق أهداف (إسرائيل) من علاقتها بالغرب، هدفاً لهذه المنظمات،
ولم يقصر الأمريكيون من النصارى الصهاينة في دعم دولة اليهود بكل مستطاع،
حتى إن بنيامين نتنياهو عندما كان سفيراً لدولته في الأمم المتحدة خاطب جموعاً
منهم في (6 فبراير 1985م) وقال لهم معترفاً بجميلهم وجميل كل النصارى تجاه
اليهود: (لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل،
وهذا الحلم الذي ظل يراودنا منذ 2000 سنة، تفجر من خلال المسيحيين
الصهيونيين) وقال: (المسيحيون ساعدونا في تحول الأسطورة الجميلة إلى دولة
يهودية) ، وأضاف: (إن الذين يستغربون مما يظنون أنه صداقة حديثة بين إسرائيل
ومؤيديها المسيحيين، يجهلون أمر اليهود أو المسيحيين، إن هناك روابط روحية
تشدنا بإحكام وثبات، إنها شراكة تاريخية أدت وتؤدي دورها بشكل جيد لتحقيق
الأحلام الصهيونية) [9] .
أما بعد أن أصبح نتنياهو رئيساً لوزراء اليهود في دولتهم، فقد أشرت في
الحلقة السابقة إلى أنه قد قوبل بحفاوة بالغة في الكونجرس الأمريكي، وواجهه
أعضاء الكونجرس جميعاً بعاصفة من التصفيق بعد أن هبوا وقوفاً لتحيته عندما ردد
أمامهم فيما يشبه القسم عبارة: (القدس هي العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل)
ثلاث مرات.
لقد تبنى الكونجرس الأمريكي الذي يسيطر عليه اليمينيون بشكل كامل النهج
الإسرائيلي فيما يتعلق بالقدس؛ فقد وافق في قراره رقم 570 في 24/10/1995م
على مشروع القانون الذي تقدمت به وزارة الخارجية لتخصيص مبلغ مائة مليون
دولار لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وكانت الموافقة بأغلبية
406 أصوات مقابل 17 صوتاً، واشترط الأعضاء أن يتم نقل السفارة في موعد
أقصاه يوم 31/5/1999م، مع إعطاء الرئيس حق التأجيل لمدة لا تزيد على ستة
أشهر (أي حتى بداية عام 2000م) بشرط أن يكون ذلك أمراً تتطلبه دواعي الأمن
القومي الأمريكي! ولم ينتظر المحمومون بألفية القدس حتى يحل موعد نقل السفارة، بل ظلت أصواتهم تعلو بهذا المطلب حتى لا يبرد أثر القرار؛ فقد نشرت صحيفة
نيويورك تايمز في منتصف إبريل من عام 1997م إعلاناً عجيباً موقعاً بأسماء عدد
من كبار القساوسة الأمريكيين من أعضاء ما يسمى بـ (الاتحاد المسيحي نحو
القدس الموحدة) جاء فيه: (إن الاتحاد يدعم سيطرة إسرائيل الكاملة على القدس،
ويعتبرها العاصمة الروحية والسياسية لليهود وحدهم خلال ثلاثة آلاف عام خلت
بحكم الإنجيل والتوراة) وطالب الإعلان بالمشاركة في (معركة القدس) التي قد بدأت
(مع من؟) والتي يجب الوقوف مع اليهود فيها، وطالب الإعلان الأمريكيين
بإمطار البيت الأبيض والكونجرس برسائل تطالب بنقل السفارة الأمريكية إلى
القدس دون إبطاء.
وماذا عن الفاتيكان.. الذي كان؟ !
يعكس موقف الفاتيكان مواقف الكنائس الكاثوليكية التي كانت تعتقد بأن المسيح
مدفون في الأرض المقدسة بعد أن صلبه اليهود، ولهذا؛ فقد ظل الكاثوليك
يرفضون تاريخياً سيطرة اليهود على بيت المقدس ولا يشجعون عودتهم [10] ، فلما
عادوا، أعاد الكاثوليك النظر في نظرتهم العدائية لليهود، وصدر في عام 1961م
بيان من المجلس العالمي للكنائس يدين العداء للسامية ويعفي اليهود من المسؤولية
التاريخية في صلب المسيح، ثم أتبع ذلك بتبرئة رسمية، ثم حذفت سائر الأدعية
والصلوات التي كانت تتضمن إدانة لليهود في عبادات الكنيسة الكاثوليكية، ثم
حصل لقاء تاريخي بين (البابا) وشمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق،
وكان ذلك في بداية الثمانينات وقد بدا (البابا) في الصور منحنياً أمامه ليصافحه،
وفي عام 1993م، اعترف الفاتيكان رسمياً بدولة اليهود إلا أنه ظل إلى الآن
متحفظاً على (التنازل) عن القدس عاصمة لهم، ولا ندري عن السر في الاستمرار
في هذا الموقف: فهل هو بسبب الشك في أسطورة صلاح حال اليهود في آخر
الزمان؟ أم بسبب استمرار العداوة التاريخية والعناد بين الكاثوليك والبروتستانت؟
أم بسبب عدم الموافقة على قرب موعد مجيء المسيح، أم لأسباب أخرى؟ المهم
في ذلك أن الفاتيكان لن يقر بحيازة المسلمين للقدس في دولة فلسطين أو غيرها؛
فالقدس هي القدس عند الكاثوليك والأرثوذكس: عاصمة المسيح والمسيحيين، لا
عرفات ولا بنيامين، أما قرار الاتحاد الأوروبي بتأييد قيام دولة فلسطينية، فليس
فيه إشارة إلى أن تكون القدس عاصمة لها.
ونصارى فلسطين؟ !
يمكن معرفة موقفهم من المذكرة التي أعدها البطاركة وزعماء الطوائف
النصرانية في القدس، والتي نشرت في 14 نوفمبر 1995م، فقد طالبوا فيها
بتحويل القدس إلى (عاصمة للجنس البشري) ! ! وأكد أصحاب المذكرة أن الرب
اختار القدس مكاناً لسكنه (تعالى الله عن زعمهم) وأن القدس هي مكان الخلاص،
وفيها ولدت الكنيسة، ولفتت المذكرة النظر إلى أن سِفْر الرؤيا قد بشر بمجيء
المسيح إلى (القدس الجديدة) ، المدينة التي سيمسح فيها الرب كل الدموع! وقالت
المذكرة: إن القدس بالنسبة لكل مسيحي هي منبع الحياة؛ فكل مسيحي يُولد في
القدس، والوجود في القدس يعني الوجود في بيت الرب!
وإجمالاً؛ فإن نصارى العالم يتخذون موقفاً موحداً برفض سيطرة المسلمين
على القدس، وينقسمون على أنفسهم في شأن السماح لليهود في اتخاذها عاصمة،
وقد عبرت (السفارة المسيحية الدولية) عن موقفها الداعم لليهود والذي كُشف عن
بعضه في كتاب صدر عام 1993م بعنوان: (بابل أو القدس) لمؤلفه (يان فيلان
دارهوفن) جاء فيه: (تعارض السفارة مطالب المسلمين في البيت المقدس، وتطالب
بالتسامح تجاه اليهود الذين يطالبون بالصلاة فيه، وتؤكد على حق (إسرائيل) في
جعل القدس عاصمة موحدة لهم) ثم قال مؤلف الكتاب: (إن المسيحيين الدوليين
واثقون أنه على الرغم من أن الرب ترك القدس زمناً طويلاً، فإنه سيعود إليها في
صورة ابن الملك داود، الملك المسيح الذي سيحكم من المدينة. وعندئذ ستجتذب
القدس إليها جميع شعوب المنطقة وحكامها! وهذا الواقع الجديد سيكون تحقيقاً لرؤيا
آخر الأيام التي سينتج عنها سلام وعدل عالميين، والمسيحيون يؤمنون بهذه الرؤيا، لذلك؛ فهم يعتقدون أن الصلاة من أجل مصير القدس معناها صلاة من أجل
خلاص الكرة الأرضية جمعاء) !
في بيت لحم يجتمعون:
(بيت لحم2000) عنوان لذاك المهرجان العالمي النصراني؛ حيث تتواتر
الأخبار عن حشد متحفز، وتسابق مستنفر لحضور تلك الاحتفالات؛ حيث قدرت
بعض المصادر عدد من سيحضرون إلى القدس في أواخر هذا العام الميلادي وأوائل
العام بعده بنحو مليون ونصف، ثم زادت التقديرات إلى مليونين، وبعد أن تأكد
حضور (البابا) لتلك الاحتفالات قدرت بعض الأوساط القادميين بثلاثة ملايين.
[الوسط، 4/1/1999م]
في حين بالغت مصادر أخرى فأوصلتهم إلى ستة ملايين.
[المجتمع، 2/3/1999م]
ومهما يكن من أمر، فإن تلك الجموع القادمة للاحتفاء بالألفية قد تخرج عن نطاق السيطرة إذا ما حاولت بضع (مئات) أو (عشرات) من تلك الملايين استغلال المناسبة استغلالاً سيئاً، خاصة أن بيت لحم واقعة الآن تحت حكم السلطة الفلسطينية، فلا حاجة لـ (إسرائيل) بمهد المسيح في بيت لحم التي كانت جزءاً من القدس حتى زمان الانتداب البريطاني.
ومن المقرر أن يشارك العديد من القادة والزعماء العالميين في إحياء تلك
الذكرى الألفية، وعلى رأسهم بابا الفاتيكان، والرئيس كلينتون، والرئيس الروسي
بوريس يلتسين الذي انضم مؤخراً إلى هيئة رئاسة الاحتفالات.
وقد رصد للاحتفالات مبلغ 322 مليون دولار، وسيشارك الأردن في تلك
الاحتفالات لوقوع منطقة (المغطس) الذي عُمّد فيه المسيح في أراضيه في المنطقة
المحاذية لنهر الأردن، ولكن السلطة الفلسطينية هي المنظّمة الأولى لهذه الاحتفالات! ...
ولكن كيف ينظر الإسرائيليون لهذا القدوم أو الهجوم النصراني الذي لم
يشهدوه من قبل؟ ! إنهم بلا شك سيحاولون استغلاله لصالحهم، ولكنهم مع ذلك لا
يخفون مخاوفهم وعدم تفاؤلهم بهذه المناسبة؛ لأنهم يعلمون أن للنصارى رغم
تأييدهم لإسرائيل حساباتهم الخاصة، وخاصة طوائف الإنجيليين النشطة الذين
ينظرون إلى (إسرائيل) على أنها (مرحلة) ممهدة وأخيرة قبل زمن المسيح.
نشرت صحيفة (كول عمير) الإسرائيلية، أن هيئة مكافحة الإرهاب في مكتب
رئيس الوزراء (نتنياهو) تنظر إلى الألوف من الحجاج المسيحيين الذين سيأتون إلى
الأراضي المقدسة بمناسبة الاحتفالية الألفية الثالثة على أنهم أشخاص خطرون على
الأمن، وذكرت الصحيفة أن الاستعدادات تجري لمواجهة مخاطر يمكن أن تنجم
عن وصول أكثر من مليوني سائح وزائر في احتفالات بيت لحم 2000.
وذكرت الصحيفة أن الأوساط الإسرائيلية رغم انفتاح شهيتها لهذه الطفرة
السياحية، تتوقع وصول مجموعات (راديكالية) من المنظمات الأصولية المسيحية
الناشطة في أمريكا وأوروبا، وقد تقوم بأعمال إرهابية بدافع تصوراتها التي ترى
أن سنة ألفين ستكون بداية النهاية للعالم، مما يحدو بطوائف منها إلى (طلب
الموت) في الأماكن المقدسة قبل نهاية الزمان [11] ، وأظهرت السلطات
الإسرائيلية أيضاً مخاوفها من أن تقوم منظمات إسلامية متشددة بضرب أهداف
إسرائيلية وسط هذه المعمعة.
إن لهؤلاء الإنجيليين رؤيتهم الخاصة للأوضاع العالمية الراهنة؛ فحسب
تقديرهم؛ فإن الزمان يسرع الخطا نحو نهايته بطريقة قدرية لا تحكمها عوامل
سياسية ولا اقتصادية، وإنما تجره إليها عوامل قدرية نحو الفصل الأخير، فصل
الصراع (الدرامي) والدامي بحروبه المهلكة التي ستتمخض كما يعتقدون عن جيل
الخلاص الذي سيشهد زمان السلام ومسيح السلام.
ولكن؛ أي سلام يتحدث عنه أولئك القسس المدججون بآلة الحرب؟ إنه
السلام الدامي الذي تتقاطر فيه عبرات الدمع من حبات الزيتون، وقطرات الدم من
شموع الميلاد.
سألت الكاتبة الأمريكية (جريس هالسيل) المتتبعة لنشاط هذه الطائفة، أحد
هؤلاء الإنجيليين عن معتقدات طائفته فيما يتعلق بالأرض المقدسة في هذه المرحلة
من الزمن فقال: (إننا نؤمن أن التاريخ يطوي الآن مرحلته السابعة، وهي مرحلة
الذروة، مرحلة إقامة مملكة المسيح؛ حيث يحكم المسيح من القدس لألف سنة؛ إن
كثيراً من اليهود سيتحولون إلى المسيحية، وسوف يساهمون في مملكته الألفية،
وهي مملكة حقيقية على الأرض، تكون القدس مركزها الرئيس) .
وسألته الكاتبة عن الأحداث التي ستسبق هذه المرحلة فأجاب:
أولاً: عودة اليهود إلى الأرض المقدسة.
ثانياً: إقامة دولة لهم فيها تكون عاصمتها القدس، وقد حدث هذا لأول مرة
بعد ألفي عام!
ثالثاً: وصول رسالة الإنجيل إلى جميع الأمم بما في ذلك الشعب الإسرائيلي.
رابعاً: عودة الكنيسة إلى أداء دورها في العالم.
خامساً: وقوع الفتن والكوارث والمعاناة في أنحاء الأرض.
سادساً: اندلاع حرب عالمية نووية [12] .
وهذه العلامة السادسة هي ثالثة الأثافي، فالمسيح في زعمهم سيعود إليهم بعد
حرب، وتلك الحرب يرونها عالمية، ويريدونها نووية ويفضلونها (شرق) أوسطية
و (شمال) أطلسية و (جنوب) متوسطية فماذا يريد هؤلاء (المجانين) أن يفعلوا
بأرضنا الإسلامية؛ بل بكرتنا الأرضية مع حلول الألفية؟
هذا ما سنتناوله في حلقة قادمة إن شاء الله.