المسلمون والعالم
الخلفية الدينية لضرب الصرب
عادل أحمد الماجد
منذ جاء (بولس) اليهودي عام 170م وما أدخله من وثنيات وفلسفات قديمة
على النصرانية، والصراعُ بين كنائس النصارى على أشده؛ فما تسكن حرب إلا
وتشتعل أخرى.
فعندما اعتنق قسطنطين (280-م 377م) إمبراطور الرومان المسيحية المحرفة
سعى إلى حمل النصارى على القول بالتثليث؛ فكان مجمع نيقية 325م الذي جمع
له قسطنطين مئات الأساقفة والكهنة ليعرض المسيحية كما حرفها بولس اليهودي؛
فأقرّ الرومان بسلطة قسطنطين وعقيدة التثليث في ذلك المؤتمر، ثم عمموها في
الآفاق؛ رغم أن الأريوسيين ذهبوا إلى أن المسيح إنسان مخلوق من العدم فنفاهم
قسطنطين) [1] .
وعاد (إريوس) واتباعه الموحدون إلى رد الوثنية والقول بالتوحيد، فعُقد
مجلس للمناظرة برعاية قسطنطين يضم أصحاب التثليث (اثناسيوس واتباعه)
وأصحاب التوحيد (إريوس وأنصاره) وانتهت المناظرة بحكم ظالم على الموحدين
وحكم على (إريوس وأنصاره) باللعنة والحرمان، وصدر مرسوم إمبراطوري يأمر
بحرق كتب إريوس جميعها، ويجعل إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها
القانون [2] .
بهذه الحدة كان الصراع الكنسي في قرونه الأولى، وهو يزداد جيلاً بعد جيل؛ فها هو أسقف الكنيسة القسطنطينية (فوسيوس) في بداية القرن التاسع الميلادي
يعلن تمرده على بابا روما ويخالفه في السيادة بل واعتقاد ألوهية المسيح الذاتية،
وعزل على أثرها (فوسيوس) ولكنه عاد إلى منصبه عام 879 م ليعلن انفصال
كنيسة القسطنطينية عن كنيسة روما، وتبدأ عندها الحرب الضروس بين الكنيسة
الشرقية (الأرثوذكس) والكنيسة الغربية (الكاثوليك) وكل منهما لا تعترف
بالأخرى [3] .
وخلال الفتح الإسلامي كانت القرى الأرثوذكسية تنضم إلى الجيوش الإسلامية
نكاية بالكاثوليك الذين أذاقوا الأرثوذكس ويلات العذاب، وتم فتح الشام بالحرب
والقتال، بينما تم فتح مصر بسلاسة عجيبة؛ لأن أقباط مصر كانوا واقعين تحت
ظلم الكاثوليك حتى أعلنت الكنيسة المصرية انفصالها عن كنيسة روما.
ولما جمعت أوروبا الغربية (ذات الجمهور الكاثوليكي) قواها لغزو الأرض
الإسلامية فيما يُعرف بالحروب الصليبية لم تساندها الكنيسة الشرقية، وتكرر الغزو
دون أثر للأرثوذكس؛ لأن الكنيستين كلاً منهما تكفر الأخرى ولا يشعر أي منهما
بالانتماء للآخر.
ومن يقرأ تاريخ أوروبا الحديث يدرك أن التحالفات الأوروبية والحروب تتم
وفق المذاهب الدينية؛ ومن أمثلة هذه الحروب (حرب القرم) التي يقول عنها مؤلف
كتاب: (تاريخ أوروبا في العصر الحديث) (فيشر) : قامت حرب القرم نتيجة نزاع
شجر بين رهبان الكنيستين: الأرثوذكسية والكاثوليكية في: أيهم أحق بحراسة
بعض الأماكن المقدسة المسيحية في بيت المقدس. وكان قيصر روسيا يعاضد
تعضيداً قوياً المطالب الأرثوذكيسية [4] ، وذلك في عام 1854م.
وعن موقف فرنسا قال: (وقفت فرنسا في هذه الحرب في صف إنجلترا تشد
من أزر تركيا) [5] .
وحاول ملك النمسا العظمى أن يجمع المذاهب تحت قبة برلمان واحد؛ ولكن
لم يطب لأهل ألصتر (الأرثوذكسية) أن يجلسوا في برلمان قومي أغلبيته لأهل
الجنوب الكاثوليك [6] .
بل إن التيارات المعاصرة رغم ما تحمله من إلحاد وكفر بالكنيسة من نظرية
داروين إلى فلسفات هيغل ونظريات ماركس وغيرها من الوجودية والحداثة
وعشرات النظريات لم تستطع أن تصهر الكنيستين، وظل الأرثوذكسي أرثوذكسياً
والكاثوليكي كاثوليكياً.
في عام 1917م جاء الشيوعيون ليوسعوا الاتحاد السوفييتي على أنقاض
القيصرية الروسية؛ فجاؤوا بإنكار الأديان؛ بل رفعوا شعار: (الدين أفيون
الشعوب) ! ! ومنعوا حتى الاعتقادات الشخصية والعبادات العملية، وقامت تبعاً
لذلك انقلابات شيوعية في كثير من دول العالم لا سيما دول أوروبا الشرقية؛ فهل
انتهى الصراع الكنسي المرير؟ !
لا؛ لم ينته! حتى أولئك القادة الشيوعيون الحمر في موسكو لم ينسوا أنهم
أرثوذكس عليهم أن يقوموا بواجب الحماية لشعوبهم الأرثوذكسية! ! ففي الخمسينات
الميلادية حدث في دولتين شيوعيتين تمرد على المرجعية في موسكو: الأولى في
يوغسلافيا من القائد (تيتو) حتى صار (تيتو) من قادة حركة عدم الانحياز، فاخذت
موسكو موقفاً مسالماً لهذه الفعلة، وبارك الغرب أيضاً هذا التمرد رغم جبروت
(تيتو) وقتله لآلاف المسلمين وفرض التغيير حتى في الأسماء التي ترمز للإسلام،
ولم نرَ إنكاراً ولا تدخلاً ولا صواريخ كروز!
وبعد ذلك بعامين تشجع (إيمري ناج) قائد المجر الشيوعي على الاستقلال عن
موسكو؛ ولكن ولحظه السيئ اقتحمت القوات الروسية المجر في ست ساعات، قُتل
على أثرها آلاف المجريين وأعدم عشرات العسكريين.
أما لماذا تغير الموقف من البلدين في موسكو؟ فالسبب بسيط جداً وهو أن
أغلب اليوغسلاف أرثوذكس بينما المجر دولة من (الكاثوليك) . ويتكرر التمرد في
الستينات، ويتمرد (نيكولاي تشاوشيسكو) زعيم رومانيا القوي على موسكو، فلا
أثر لمدرعات وطائرات موسكو.. فرومانيا دولة (الإخوة الأرثوذكس) بينما لم يمر
تمرد (دوبتشك) في تشيكوسلوفاكيا الكاثوليك بسلام، واستيقظ الناس على خبر
دخول القوات الروسية إلى تشيكوسلوفاكيا بالدبابات التي نقلت جوياً لتسحق الناس
العزل تحت المجنزرات. ولم ينس العالم ربيع براغ 1968م.
إن عشرات القرون من الصراع لا تخمده النظريات الجديدة ولا الاعتقادات
حتى ولو رفعت الشعارات وتغيرت البيانات.
وقد دعم الغرب أمريكا وبريطانيا وألمانيا وهي دول ليست كاثولوكية دعموا
المجاهدين الأفغان لإنهاك الاتحاد السوفييتي، وبذلت المخابرات الغربية كل جهد
للإجهاز على الدب الروسي المترنح بعد أن أُنهك اقتصادياً بحرب النجوم
والصواريخ طويلة وقصيرة المدى في أوروبا، وبعد سقوطه أذاقه الغرب مرارة
الذل بعد أن صارع الجوع سنين عديدة، وكان على الغرب أن يبدأ بمدد إغاثي
للشعب؛ لأن الحزب الشيوعي العنيد سقط، ولأن روسيا اتخذت النظام الغربي:
حيث فتحت السوق، وخصصت القطاعات الحكومية، وأقرت الملكية الفردية،
وانتقلت من الحزب المركزي إلى الانتخابات والأحزاب، وأوقع الغرب روسيا في
دوامة الديون والعصابات والمافيا.
وبقي الحصن الأخير القوي (الصرب) في يوغسلافيا، تلك الأمة التي آثرت
الحياة في عباءة الإسلام قروناً مؤثرةً عدل المسلمين على ظلم الكاثوليك، بل شارك
الآلاف من الصرب في جيوش الدولة العثمانية ضد الغرب كما في الحرب ضد
مملكة النمسا، والحرب العالمية الأولى.
وسنحت الفرصة الآن لضرب هذا المعقل بعد أن تحققت أمور عدة:
1- ضعف روسيا وعجزها عن أي مساندة للصرب.
2- انفصال كرواتيا واستوانيا الكاثولوكيتين عن يوغسلافيا.
3- انفصال البوسنة والهرسك عن يوغسلافيا لضمان أن الصرب سيقاتلون
على جبهة واحدة هي كوسوفا.
وكان للمخابرات الأمريكية دور كبير في تأخير ثورة الألبان في كوسوفا عن
انتفاضة مسلمي البوسنة؛ وذلك لترتيب المنطقة لضرب الصرب دون أن يكسب
المسلمون شيئاً. وقد كان من المنطق والحنكة السياسية أن يثور الألبان في بداية
التسعينات الميلادية تزامناً مع إخوانهم في البوسنة لتحقيق المصالح الآتية:
1- فتح جبهة جديدة على الصرب مما يصعّب عليهم المهمة في كلا الجبهتين.
2- حصول الألبان على حل قضيتهم متزامناً مع حل مشكلة كرواتيا والبوسنة
مما يعطيها دعماً سياسياً وعالمياً.
3- استغلال حكم (صالح بريتشا) لألبانيا المجاورة لجعلها باكستان أخرى
لأفغانستان جديدة بدل انتظار انتصار الحزب الاشتراكي الألباني (الموالي للصرب)
بعد الأحداث الدامية.
ولكن المخابرات الغربية والأمريكية بوجه خاص أرادت ضرب عدوين في آن
واحد؛ فكيف لهذه الحرب أن تقر استقلالاً للألبان وهي التي قالت بعبارة صريحة:
لا لاستقلال كوسوفا.. ولا للاتحاد مع ألبانيا، ولكن حكم ذاتي موسّع. وهل سيقف
الصرب مكتوفي الأيدي والحلفاء يُسقِطون عليهم أطناناً من المتفجرات؟ لا شك أنهم
سينتقمون أشد الانتقام، ولا أظن أن الوضع في كوسوفا سابقاً أسوأ من الوضع الآن، وسنوات الظلم السابقة ستأتي سنوات أشد منها إظلاماً وظلماً بسبب السير وراء
كلمات الغرب المعسولة عن الحرية والكرامة!
ويتضح الجانب الديني أكثر في ضرب الصرب من خلال الاطلاع على
مواقف بقية دول العالم النصراني من الضربة الأطلسية؛ فاليونان وروسيا ورومانيا
ضد هذه الضربات؛ وكلها شعوب أرثوذكسية؛ بينما تقف الدول الكاثولوكية ومن
ورائها البروتستانت موقفاً مؤيداً لهذه الضربات.
فهل ما يحدث الآن هو مقدمة لفترة من التنافس الاستعماري بين جناحي
النصرانية؟ ومما يؤسف له أن المسلمين هم مادة هذا التنافس وضحيته.
ولو كانت قضية الغرب هي الظلم فقط؛ فإن الشعوب والأقليات المظلومة
كثيرة، ولا سيما المسلمون الذين يسحقون في دول عدة: في بورما، وفي ليبيريا،
وفي الفلبين، وفي كشمير، وفي فلسطين وغيرها؛ فأين الأمم المتحدة؟ وأين
أمينها العام؟ وأين حلف شمال الأطلسي؟ وأين (بي 52) وصواريخ كروز
وطائرات الشبح؟ !